وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ.
(48)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ} النداءُ إنما يكونُ للبُعدِ بين المتخاطبين، وهو هنا تَقْرِيعٌ من أَهْلِ الْأَعْرَافِ وتبكيتٌ لِرِجَالٍ مِنْ صَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَقَادَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ، وَالسِّيمَا هُنَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الْمُشَخِّصَاتِ الذَّاتِيَّةَ الَّتِي تَتَمَيَّزُ بِهَا الْأَشْخَاصُ، وَلَيْسَتِ السِّيمَا الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا أَهْلُ النَّارِ كُلُّهُم من سوادِ وُجوهِهم وزُرْقَةِ عيونِهم. ويُمْكِنُ أنْ تَكونَ معرفَتُهم بِهم مِنْ علاماتٍ لَهمْ وآثارَ مِنَ الحياةِ الدُنْيا لأنَّهم يَقولون لهم: "ما أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ"، فلو لَمْ يَعرفوهم بآثارِ كانتْ لهم في الدنيا، لم يَكونوا يُؤنِّبونَهم بجمعِ الأموالِ والاسْتِكْبارِ في الدنيا، ولا يقال ذلك للفقراءِ، إنَّما يُقالُ للأغنياءِ؛ لأنَّهم هُمُ الذين جمَعوا الأَمْوالَ، وهُمُ الذين اسْتَكْبَروا على خَلْقِ اللهِ. وكرَّرَ ذِكْرَهم هنا ـ وكان يكفي الإضْمارُ ـ لِزيادَةِ التَقريرِ. و"ألـ" هنا لِلْعَهْدِ بِقَرِينَةِ تَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ} سورة الْأَعْرَافِ، الآية: 46. وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ هُنَا رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ الرِّجَالُ يُنَادِيهِمْ جَمِيعُ مَنْ كَانَ عَلَى الْأَعْرَافِ، وَلَا أَنْ يَعْرِفَهُمْ بِسِيمَاهُمْ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى الْأَعْرَافِ، مَعَ اخْتِلَافِ الْعُصُورِ وَالْأُمَمِ، فَالْمَقْصُودُ بِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ هُمُ الرِّجَالُ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِقَوْلِهِ: {وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ} كأنَّه قِيلَ: وَنَادَى أُولَئِكَ الرِّجَالُ الَّذِينَ عَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالًا. وَالتَّعْبِيرُ عَنْهُمْ هُنَا بِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، إِذْ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ. وَنَادَوْا رِجَالًا، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَعَدَّدَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مَا يَصْلُحُ لِعَوْدِ الضَّمَائِرِ إِلَيْهِ وَقَعَ الْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ دَفْعًا لِلِالْتِبَاسِ. وقيل: لم يَكْتَفِ بالإضْمارِ للفَرْقِ بَيْنَ المُرادِ مُنْهُم هُنا، والمُرادِ مِنْهُم فيما تَقَدَّمَ فإنَّ المُنادى هُناكَ الكُلُّ، أمَّا هُنا فالمُنادى البَعضُ، لقولِه تعالى: "رجالاً يعرفونهم بسيماهم" مِنْ رُؤساءِ الكَفَرَةِ، كأبي جَهْلٍ، والوَليدِ بْنِ المُغيرةِ، والعاصِ بْنِ وائلٍ حينَ رَأوْهم بيْن أَصْحابِ النَّارِ، فعَرَفُوهُمْ بِسيماهم، أيْ بعلاماتِهم في الآخرة التي تقدّمَ ذكرُها، أو بِصُورِهم التي كانوا يَعرفونَهُم بها في الدُنيا، أو بِعَلامَاتِهم الدالَّةِ على سُوءِ حالِهِم يَومَئِذٍ، وعلى رئاسَتِهم في الدنيا. بينَما شَمَلَ قولُهُ: {أَصْحابَ النارِ} في الآيةِ السابِقَةِ، جَميعَ مَنْ في النَّارِ. وكان إِطْلاقُ "أَصْحاب الأَعْرافِ" على أُولئكَ الرِّجالِ بِناءً على أَنَّ مَآلَهم إلى الجَنَّةُ.
قولُهُ: {قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} هو استفهامٌ لتَقْريعِ الكُفَّارِ وتَوبيخِهم، أَيْ يقولون لهم: ما أَغْنى عنْكم جَمْعُكم لِلدُّنْيَا وَاسْتِكْبَارُكُمْ فيها عَنِ الْإِيمَانِ؟. ويَجوزُ أَنْ يُرادَ النَفْيُ أَيْ ما كَفاكُم ما أَنْتم فيه "جَمْعُكُمْ" أي أَتْباعُكم وأَشياعُكم، أوْ جَمْعُكُمُ المالَ، الذي كنتم تَسْتَكْثرونَهُ، وتُكاثرون بِهِ، "وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ" أيْ واسْتِكْبارُكم المُسْتَمِرُّ عَنْ قَبولِ الحَقِّ، أو أنَّ المقصودَ اسْتِكْبارُهم أصنامَهم واعتقادُهم عِظَمَها وكِبَرَها، أيْ ما أَغْنى عَنْكم جَمْعُكم المالَ والأتباعَ، وأَصنامُكم التي كَنْتُمْ تَعْتَقِدونَ كِبَرَها وعِظَمَها. أوْ استكبارُكم على الخلقِ، وهوَ الأَنْسَبُ بِما بَعْدَهُ.
قولُهُ تعالى: {ونادى أصحابُ الأعراف رجالاً} و: استئنافيَّة، "نادى أَصْحابُ الأَعْراف ِرِجالاً) مِثل: {نادى أصحابُ الجَنَّةَ أَصْحابَ} من الآية (44) في هذِه السورة. وجملةُ "نادى أصحابُ الأعراف" استئنافيَّةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ.
قولُهُ: {يعرفونهم بسيماهم} مثل: {يعرفون كلّا بسيماهم} في الآية: (46). من هذه السورة. وجملةً "يعرفونهم" في مَحَلِّ نَصْبِ نَعْتٍ لـ "رجالا"، أوْ في محلِّ نَصْبِ حالٍ مِنْ أَصْحابِ الأَعْرافِ.
قولُهُ: {قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} قالوا: تقدم إعرابُها في الآية السابقة (47)، "ما" يَجوزُ أَنْ تَكونَ اسْتِفهامِيَّةً للتوبيخ والتقريع وهو الظاهِرُ، وقد تقدَّمَ الإشارةُ إليْه، أو هي حرفُ نَفْيٍ، "أغنى" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ المُقَدَّرِ على الأَلِفِ، "عن" حَرْفُ جَرٍّ، و"كم" الكاف ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "أغنى"، والميم علامةُ التذكير، "جمعُ" فاعلٌ مرفوعٌ وعلامةُ رفعه الضمَّةُ الظاهرةُ على العين، و"كم" الكافُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرٍّ بإضافة "جمعُ" إليه. والميم للمذكر. "وما"الواو: عاطفةٌ، و"ما" حرفٌ مَصْدَرِيٌّ، ليُنْسَقَ مَصْدَرٌ على مِثْلِهِ، أيْ: ما أَغْنى عَنْكم جمعُكم وكَوْنُكم مُسْتَكْبِرين. "كنتم" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ ـ ناسخٌ ـ مَبْنِيٌّ على السُكونِ، و"ت" التاء: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ اسْمٍ لـ "كان"، والميم علامةُ التذكير. "تستكبرون" فعلٌ مضارعٌ مرفوع وعلامةُ رفعه ثبوتُ النون في آخره لأنَّه من الأفعال الخمسة، والواوُ الدالَّةُ على الجماعة ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعِ فاعلٍ. والمَصْدَرُ المُؤوّلُ من "ما كنتم تستكبرون" في مَحَلِّ رَفْعِ مَعْطوفٍ على المَصْدَرِ الصَريحِ جَمْعُكم. وجملة: "قالوا" في محلِّ نَصْبِ حالٍ مِنَ الفاعِلِ "أصحابُ". وجملةُ "ما أَغْنى جمعُكم" في محلِّ نَصْبِ مَقولِ القولِ. وجُملةُ: "كنتم تستكبرون" صلة الموصول الحرفيّ "ما" لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابُ. وجُملةُ "تستكبرون" في مَحَلِّ نَصْبِ خَبَرِ كُنْتم.
قرأَ العامَّةُ: "تستكبرون"، وقُرئَ "تستكثرون" بتاء مثلَّثةٍ مِنِ الكَثْرَةِ.