[size=29.3333]إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ[/size]
[size=29.3333](159)[/size]
[size=29.3333]قولُه ـ تعالى شأنُه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً} أيْ تَرَكُوا دِينَهُمْ وَخَرَجُوا عَنْهُ. وَكَانَ أميرُ المؤمنين عَلِيٌّ ـ كرَّمَ اللهُ وجهَهُ ـ يَقُولُ: وَاللهِ مَا فَرَّقُوهُ وَلَكِنْ فَارَقُوهُ. فَالذِينَ فَارَقُوا دِينَ اللهِ، وَخَالَفُوهُ، فَإنَّ اللهَ بَعَثَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. وَشَرْعُ اللهِ وَاحِدٌ، لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ وَلاَ افْتِرَاقَ. وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أَهْلَ الكِتَابِ وَشَرْعَهُمْ، وَأَمَرَ مَنِ اسْتَجَابَ لِدَعْوَةِ الإِسْلاَمِ بِالوحْدَةِ وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ كَمَا تَفَرَّقَ مَنْ قَبْلَهُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي الدِّينِ، وَصَارُوا شِيَعاً، كَأَهْلِ المِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالأَهْوَاءِ وَالضَّلاَلاَتِ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ بَرَّأَ رَسُولَهُ مِمَّا هُمْ فِيهِ، وَأَمْرُهُمْ إلى اللهِ، ثُمَّ يُنَبِئُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ. أو المعنى أَنَّهم آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ. وَالْمُرَادُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ. وَقَدْ وُصِفُوا بِالتَّفَرُّقِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى في سورةِ البيِّنة: {وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} الآية: 4. وَقَالَ في سورةِ النساء: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ} الآية: 150. وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اخْتَلَفُوا فِي دِينِهِمْ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ فَتَفَرَّقُوا، وَأَصْبَحَ دِينُ كُلٍّ مِنْهُمُ أَدْياناً مُتَفَرِّقَةً، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ أَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ. وَقِيلَ: بأنَّه ـ سبحانَهُ وتعالى ـ عَنَى الْمُشْرِكِينَ، عَبَدَ بَعْضُهُمُ الصَّنَمَ وَبَعْضُهُمُ الْمَلَائِكَةَ. وَقِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ. وَكُلُّ مَنِ ابْتَدَعَ وَجَاءَ بِمَا لَمْ يَأْمُرِ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ بِهِ فَقَدْ فَرَّقَ دِينَهُ. [/size]
[size=29.3333]وقيلَ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالشُّبُهَاتِ، وَأَهْلُ الضَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. لِما أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ والطَبَرانِيُّ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والحَكيمُ التِرْمِذِيُّ والشِيرازِيُّ، عن أبي هُرَيرَةَ ـ رضي اللهُ عنه ـ عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ في الآيةِ قالَ: ((هُمْ أَهْلُ البِدَعِ والأَهْواءِ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ)). وفي إسْنادِهِ عَبْدُ بْن كَثيرٍ وهُو مَتْروكُ الحَديثِ ولَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُهُ، ومَنْ عَدَاهُ وَقَفُوهُ على أَبي هُرَيرَةَ، ومثلهُ ما رَواهُ الطَبَرِيُّ والبَيْهَقِيُّ وأَبو نُعيْمٍ وغَيْرُهُمْ، عَنْ عُمَرَ بنِ الخطّابِ ـ رضي اللهُ عنه ـ أنَّ رَسولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ قال لِأُمِّ المؤمنين عائشةَ الصدِّقةَ ـ رضيَ اللهُ عنها: ((يا عائشَ إنَّ الذين فَرَّقوا دينَهم وكانوا شِيَعاً هُمْ أَصْحابُ البِدَعِ، وأَصْحابُ الأَهْواءِ، وأَصْحابُ الضَلالَةِ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ، لَيْسَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ وهُمْ مِنِّي بَراءٌ)). قالَ ابْنُ كَثيرٍ: هوَ غَريبٌ لا يَصِحُّ رَفْعُهُ. وعَنْ أَبي أُمامَةَ ـ رضي اللهُ عنه ـ قالَ: هُمُ الحَرورِيَّةَ، ورُوِيَ عنْهُ مَرْفوعاً ولا يَصِحُّ رَفْعُهُ كذلك. [/size]
[size=29.3333]وروى أبو داوودَ والتِرْمِذِيُّ عَنْ مُعاويَةَ ـ رضي اللهُ عنه ـ قالَ: قامَ فينا رَسولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ـ فقال: ((أَلاَ إنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ افْتَرَقُوا على اثْنَتَيْنِ وسَبْعينَ مِلَّةً، وأَنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ على ثلاثٍ وسَبْعينَ، اثْنَتانِ وسَبْعونَ في النَّارِ، وواحِدَةٌ في الجَنَّةِ، وهيَ الجَماعَةُ)).[/size] [size=29.3333]صحيحُ الجامِعِ الصَغير /2638/. وعنْ عبدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ العاصِ ـ رضي اللهُ عنهما ـ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ـ صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: أَنَّ بَني إسْرائيل تَفرَّقَتْ على اثْنَتَيْنِ وسَبْعينَ مِلَّةً، وسَتَفْتَرِقُ أُمَّتي على ثلاثٍ وسَبْعينَ مِلَّةً كُلُّها في النَّارِ إلاَّ مِلَّةً واحدةً، قالوا: ومَنْ هيَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: ((مَنْ كان على ما أَنَا عَلَيْهِ وأَصْحابي)). أَخْرَجَهُ التِرْمِذِيُّ. صحيحُ الجامِعِ الصغير: /5219/.[/size]
[size=29.3333]والمُرادُ مِنَ هذِهِ الآيةِ الكريمةِ الحَثُّ على أَنْ تَكونَ كَلِمَةُ المُسْلِمينَ واحدةً وأَلاَّ يَتَفرَّقوا في الدِّينِ ولا يَبْتَدِعُوا البِدَعَ المُضِلَّةَ، التي تخالفُ أصلاً من أصول الدينِ.[/size]
[size=29.3333]قولُه: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} أيْ: لستَ مِنْ دينِهم في شيءٍ؛ لأنَّ دينَهم كان تَقليدًا لآبائهم، ودِينَكَ دِينٌ من عندِ اللهِ بالحُجَجِ والبَراهين؛ فلستَ مِنْهم. ويُحتَمَلُ أنَّ: "لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ"، أيْ: لا تُسأَلُ أَنْتَ عنْ دينِهم ولا تُحاسَبُ على ذَلِكَ؛ كقولِهِ تعالى في الآية: 52. من سورة الأنعام: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}. أوْ يُخَرَّجُ على إياسِ أُولَئِكَ الكَفَرَةِ عَنْ عَوْدِ رسولِ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إلى دينِهم؛ كَقَوْلِهِ: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} سورة المائدة، الآية: 3. قيلَ أيْ: لستَ أَنْتَ مِنْ قِتالِهم في شيءٍ؛ كأنَّهُ نَهاهُ عَنْ قِتالِهم في وقتٍ، ثمَّ أَذِنَ لَهُ[/size][size=29.3333] بعدَ ذلك، ثمَّ نَسَخَتْهُ آيةُ السيفِ، وهو بعيدٌ.[/size]
[size=29.3333]قولُه: {إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ} وعيدٌ منه ـ عزَّ وجَلَّ ـ لَهم، أيْ الحُكْمُ فيهم إلى الله؛ ليْسَ إِلَيْكَ، فهوَ الذي يَحْكُمُ فيهم. أوْ أَنْ يَكونَ أَمْرُهُم إلى اللهِ في القِتالِ، حتَّى يَأْذَنَ لكَ بذلك. وفيه تَسْلِيَةٌ لَهُ ـ صلّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ ـ أيْ أَنَّه ـ سبحانَه ـ مُجازٍ لهم بِما تَقْتَضيهِ مَشيئَتُهُ. والحَصْرُ بـ "إنما" هُو في حُكْمِ التَعْليلِ لِما قَبْلَهُ والتأْكيدِ لَهُ.[/size]
[size=29.3333]قولُهُ تعالى: {لَسْتَ مِنْهُمْ في شيءٍ} لَسْتَ: ليس: فعل ناقص، وتاء الفاعلِ اسْمُها، و"مِنْهم" هُوَ خبرُ "ليس" إذْ بِهِ تَتِمُّ الفائدةُ كقولِ النابِغَةِ الذُبْيانيّ: [/size]
[size=29.3333]إذا حاولْتَ في أَسَدٍ فُجوراً ................ فإنّي لستُ مِنْكَ ولَسْتَ مِنِّي[/size]
[size=29.3333]ونَظيرُه في الإِثباتِ: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} إبراهيم: 36، وجملةُ "ليس" في مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَراً لـ "إِنَّ"، وعلى هذا فيكون "في شيء" مُتَعَلِّقاً بالاستقرارِ الذي تَعَلَّقَ بِهِ مِنْهم، أيْ: لَسْتَ مُسْتَقِرّاً مِنْهم في شَيْءٍ، أيْ: مِنْ تَفْريقِهم. ويَجوزُ أَنْ يَكونَ "في شيء" الخبر، و"منهم" حالٌ مُقَدَّمَةٌ عليْه، وذلك على حذفِ مُضافٍ، أيْ: لَسْتَ في شيءٍ كائنٍ مِنْ تَفْريقِهم، فلَمَّا قُدِّمَتِ الصِفَةُ نُصِبَتْ حالاً.[/size]
[size=29.3333]قرأَ الجُمهورُ: "فرَّقوا" بالتَشديدِ. وقرأَ الأخوانِ (حمزةُ والكِسائيُّ): "فَارَقُوا" مِنَ المُفارقة على أنَّ "فاعَلَ" بمعنى فَعَّلَ، نحو: ضاعَفْتُ الحسابَ وضَعَّفْتُه. وقيلَ: هيَ مِنَ المُفارَقَةِ، وهي التركُ والتخلِيَةُ ومَنْ فرَّق دِينَهُ فآمَنَ بِبَعْضٍ وكَفَرَ بِبَعْضٍ فقد فارَقَ الدِّينَ القَيِّمَ. وقرَأَ الأعْمَشُ وأَبو صالحٍ وإبْراهيمُ: فَرَقوا مُخفَّفَ الرّاءِ، وهو بمعنى المُشَدَّدِ، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ بِمَعنى فَصَلُوهُ عَنِ الدِّينِ الحَقِّ.[/size]