قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ. (31)
قَوْلُهُ ـ سبحانَه وتَعَالَى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ} اللِّقَاءُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وعبَّرَ عَن قيامِ القيامَةِ واليومِ الآخِرِ بِلِقاءِ اللهِ تعالى تَشريفًا لِذلك اليومِ، ولأنَّه له الوِلايةُ الحَقُّ في ذلك اليومِ، فلا وِلايةَ
لغيرِهِ فيه، ولو ظاهريَّةً، ولا مُلكَ لغيرِهِ ولو ظاهرِيًّا.
وقالَ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ، إنّ معنى "كذّبوا بلقاء اللهِ" أي: كذَّبوا بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالْجَزَاءِ، ودَلِيلُهم على ذلك قَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ)). أَيْ لَقِيَ جَزَاءَهُ، لِأَنَّ مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ لَا يَرَى اللهَ عِنْدَ مُثْبِتي الرُؤيَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ.
قَوْلُهُ: {حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} سُمِّيَتِ الْقِيَامَةُ بِالسَّاعَةِ لِسُرْعَةِ الْحِسَابِ فِيهَا. وسُمِّيتِ القيامةُ ساعةً؛ لأنَّها تحمِلُ أشدَّ الأهوالَ، ولأنَّها فاصلةٌ بيْنَ نوعيْنِ مِنَ الحياةِ، حياةٍ فانيةٍ وأُخرى باقيةٍ، حياةِ عَمَلٍ، وحياةِ جَزاءٍ. و"بَغْتَةً" أي: فَجْأَةً. والساعةُ تَجيءُ مِنْ غيرِ عِلْمٍ للجميعِ بِوَقْتِها فكيفَ تكونُ بغتةً للذين كذَّبوا بلقاءِ اللهِ دون غيرِهم؟ والجوابُ عن ذلك أنَّ الذين آمنوا بلقاءِ اللهِ تعالى يَتَوَقَّعونَها فيَرجونَ لقاءَ ربِّهم، ويَرجون رحمتَه فيها وعفوه وحسن جزائه لهم عمّا قدموا من إيمان وعمل صالح، وإنْ لَمْ يَعلَموا وقتَها، أمَّا الذين كذَّبوا بها وكفروا بلقاءِ ربِّهم، فيُفاجؤون بها، ولا رجاءَ لهم فيها.
قَوْلُهُ: {قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها} الحسرةُ غمٌّ شديدٌ كأنَّه انْحَسَرَ عنْه الجَهْل الذي حمَلَهُ، والحسرةُ الغّمُّ على ما قالَه والنَدَمُ على ما فعله، أو أنَّ قُواهُ انْحَسَرَتْ مِنْ فَرطِ الغمِّ والإعياءُ أَدْرَكَهُ فعجز عن تَدارُك ما فَرَطَ مِنه.
قَوْلُهُ: {عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها} أَيْ فِي السَّاعَةِ، أَيْ فِي التَّقْدِمَةِ لَهَا. وَ"فَرَّطْنا" مَعْنَاهُ ضَيَّعْنَا وَأَصْلُهُ التَّقَدُّمُ. وَقِيلَ: "فَرَّطْنا" أَيْ جَعَلْنَا غَيْرَنَا الْفَارِطَ لنا، أي السَّابِقَ إِلَى طَاعَةِ اللهِ وَتَخَلَّفْنَا. و"فِيها" أَيْ فِي الدُّنْيَا بِتَرْكِ الْعَمَلِ لِلسَّاعَةِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: "الْهَاءُ" رَاجِعَةٌ إِلَى الصَّفْقَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ خُسْرَانُ صَفْقَتِهِمْ بِبَيْعِهِمُ الْإِيمَانَ بِالْكُفْرِ، وَالْآخِرَةَ بِالدُّنْيَا، قالُوا: "يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها" أَيْ فِي الصَّفْقَةِ، وَتَرَكَ ذِكْرَهَا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْخُسْرَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي صَفْقَةِ بَيْعٍ، ودَليلُه قولُه تعالى: {فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ} البقرة: 16. وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَلَى مَا ضَيَّعْنَا أَيْ مِنْ عَمَلِ الْجَنَّةِ. وَفِي الْخَبَرِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: ((يَرَى أَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ: يَا حَسْرَتَنا)). أي منازلهم التي كانت معدّةً لهم فيما لو آمنوا وعملوا صالحًا.
قَوْلُهُ: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ} أوزارهم: أَيْ ذُنُوبَهُمْ، و"على ظهورهم" مَجَازٌ وَتَوَسُّعٌ وَتَشْبِيهٌ بِمَنْ يَحْمِلُ ثِقَلًا، وَأَصْلُهُ مِنَ الْوَزَرِ وَهُوَ الْجَبَلُ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ فِي النِّسَاءِ اللَّوَاتِي خَرَجْنَ فِي جِنَازَةٍ: ((ارْجِعْنَ مَوْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ)). وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَزِمَتْهُمُ الْآثَامُ فَصَارُوا مُثْقَلِينَ بِهَا.
وقولُه: {أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ} أَيْ مَا أَسْوَأَ ما يَحْمِلُونَ من كفرٍ بالله تعالى وآثامٍ ارتكبوها بحقِّ خلقِه. وهذا بيانٌ لِسوءِ ما يحملون، وابتدأَ بـ "أَلا" الدالَّةِ على التنبيهِ، ثمَّ "ساء" للتعجُّبِ من شدة ما يَحملون.
لقد بيَّنَ اللهُ ـ سبحانَه وتعالى ـ في هذا النصِّ الكريم أنَّ الذين يُكَذِّبون باليومِ الآخرِ خاسرون في الدنيا والآخرة، لأنَّهم في الدنيا يَفقِدون العزاءَ الرُوحيَّ الذي يُريحُ كلَّ إنسانٍ مما يُعاني في هذه الحياة، فلو أنَّه لَا حياةَ بعدَ هذه الحياةِ لكان الشقاءُ النفسيُّ المُقيمُ لِكِلِّ مَنْ أصيبَ بمصيبةٍ فيها، أو وقعَ في شقاءٍ. وهو أيضًا خسرانٌ هنا لمعاني الإنسانية، إذْ يكون كالحيوان الذي يأكلُ ليعيشَ، ويَعيشُ لِيأكُلَ فيَفقِدُ كلَّ المعاني السامية والمعنويات العالية، ولأنَّه ثالثًا، يَرْتَعُ في الشهوات الموبقات، ولأنَّه رابعًا يَكونُ في تناحرٍ وصراع مُسْتَمِرٍ مع الناس على مكاسب هذه الدنيا ومنافعها التي لا هَمَّ له سوى الحصولِ عليها، فتصبح حياته كحياة الوحوش في الغابة يأكلُ القويُّ فيها الضعيف إذ لَا خشيةَ من اللهِ ولا رَهبةَ من عقابِه. وأخيرًا فإنَّه يَخسَرُ الخسران الأكبرَ بما يلاقي من عذابِ اللهِ يوم القيامةِ.
قولُه تعالى: {بَغْتَةً} مصدرٌ منصوبٌ في موضِعَ الحالِ مِنْ فاعلِ "جاءَتْهم" أي: مباغتةً، أو هو في موضعِ الحالِ من مفعولِ "جاءتهم" أي: مَبْغوتين. أو هو مصدرٌ على غيرِ الصَدر؛ لأنَّ معنى "جاءتهم بغتةً" بَغَتَتْهُمْ بغتة، فهو كقولك: "أتيتُه رَكْضًا". أو أَنَّها مَنصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ مِنْ لَفظِها، أي: تَبْغَتُهم بَغْتةً. أو بِفِعْلٍ مِنْ غيرِ لفظِها، أيْ: أَتَتْهم بغتَةً.
والبَغْتُ والبَغْتةُ مُفاجأةُ الشيءِ بِسُرْعةٍ مِنْ غَيْرِ اعْتِدادٍ بِهِ على غيرِ انتباهٍ منه. فلو اسْتَشْعَرَ الإِنسانُ بِالشيءِ ثمَّ جاءَه بِسُرعةٍ لا يُقالُ فيهِ بَغْتَةٌ، قال الشاعر:
إذا بَغَتَتْ أشياءُ قد كان قبلَها .................. قديمًا فلا تَعْتَدَّها بَغَتَاتِ
و"الساعة" الألف واللام فيها للغَلَبةِ لأنَّها غَلَبَتْ على يَوْمِ القِيامَةِ كما هي في النَّجْمِ والثُرَيَّا، وسمِّيَتِ القيامةُ ساعةً لِسُرْعَةِ الحِسابِ فيها على الباري تعالى. وقولُهُ "قالوا" هو جوابُ "إذا".
قولُه: {يا حسرتنا} هو مِنَ المجازِ، لأنَّ الحَسْرةَ لا يَتَأَتَّى منْها الإِقْبالُ، وإنَّما المَعنى على المُبالَغةِ في شِدَّةِ التحسُّر. والمقصودُ التنبيهُ على خطأ المُنادي حيثُ تَرَكَ ما أَحْوَجَهُ تَرْكُهُ إلى نِداءِ هذِه الأشياءِ. ووَقَعَ النِّدَاءُ عَلَى الْحَسْرَةِ وَلَيْسَتْ بِمُنَادَى فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ التَّحَسُّرِ، وَمِثْلُهُ: {يا ويلتا}، ويَا لَلْعَجَبِ ويا للرَخاءِ وليست بمُناداةٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الويلِ التَّعَجُّبِ وَالرَّخَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: يَا حَسْرَتِي، أَوْ يَا حَسْرَتَا، تَعَالَيْ فَهَذَا وَقْتُكِ، وَكَذَلِكَ مَا لَا يَصِحُّ نِدَاؤُهُ يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، فَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ تَعَجَّبْتُ. وَمِنْ ذلك قول الشاعر امرئ القيس:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي .... ..........فَيَا عَجَبًا مِنْ رَحْلِهَا الْمُتَحَمَّلِوَقِيلَ: هُوَ تَنْبِيهٌ لِلنَّاسِ عَلَى عَظِيمِ مَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْحَسْرَةِ، أَيْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَنَبَّهُوا عَلَى عَظِيمِ مَا بِي مِنَ الْحَسْرَةِ، فَوَقَعَ النِّدَاءُ عَلَى غَيْرِ الْمُنَادَى حَقِيقَةً، كَقَوْلِكَ: لَا أُرَيَنَّكَ ها هنا. فَيَقَعُ النَّهْيُ عَلَى غَيْرِ الْمَنْهِيِّ فِي الْحَقِيقَةِ.
قولُه: {على مَا فَرَّطْنَا} الجارُّ والمجرورُ هنا متعلِّقٌ بالحَسْرة، و"ما" مصدريَّةٌ، أي: على تفريطِنا. والضميرُ في "فيها" يَجوزُ أنْ يَعودَ على الساعَةِ، ولا بُدَّ مِنْ مُضافٍ، أي: في شأنها والإِيمان بها، ويجوزُ أنْ يَعودَ على الصَفْقَةِ المُتَضَمَّنَةِ في قوله: {قَدْ خَسِرَ الذين}، أوْ يَعودُ على الحياةِ الدُنيا وإنْ لمْ يَجْرِ لَها ذِكْرٌ لكونِها مَعْلومةً.
والتفريطُ: التقصيرُ في الشيءِ مَعَ القُدرةِ على فِعْلِه. أو هو التَضييعُ أو هو السَّبْق، ومنه الفارِطُ للقومِ أيْ السابِقُ لهم، يُقَالُ: فَرَطَ فُلَانٌ أَيْ تَقَدَّمَ وَسَبَقَ إِلَى الْمَاءِ، وَمِنْهُ قولُه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ)). وَمِنْهُ ـ فِي الدُّعَاءِ لِلصَّبِيِّ ـ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ فَرَطًا لِأَبَوَيْهِ، فَقَوْلُهُ تعالى هنا "فَرَّطْنا" يعني قَدَّمْنَا الْعَجْزَ. فمعنى فرَّطَ بالتَشديدِ خَلَّى السَبْقَ لِغيْرِه، فالتَضعيفُ فيه للسَّلْبِ ومنْه {فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً} الإِسراء: 79.
قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ} الواو للحالِ، وصاحبُ الحالِ الواوُ في "قالوا" أي: قالوا: يا حَسْرَتَا حالَ حَمْلِهم أوزارَهم. وصُدِّرت هذه الجملةُ بضميرٍ مُبتَدَأٍ لِيَكون ذِكْرُه مَرَّتيْنِ فهو أَبلغُ، والحَمْلُ هنا قيل: مجازٌ عن مقاساتهم العذابَ الذي سببُّه الأوزارُ، وقيل: هو حقيقةٌ. وفي الحديث: ((إنّه يُمَثَّلُ لَه عملُه بصورةٍ قبيحةٍ مُنْتِنَةِ الريحِ فيَحْمِلُها)). وخُصَّ الظهرُ لأنَّه يُطِيقُ مِنَ الحَمْلِ مَا لا يُطِيقُهُ غيرُه مِنَ الأَعْضاءِ كالرأسِ والكاهِلِ، وهذا كما تقدَّم في {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} الأنعام: 7؛ لأنَّ اليَدَ أَقوى في الإِدراكِ اللَّمْسِيِّ مِنْ غيرِها.
والأوزار: جمعُ وِزْرٍ كَحِمْلٍ وأَحْمالٍ وعِدْلٍ وأَعدالٍ. والوِزْرُ في الأصلِ الثِقلُ، ومنْه: وَزِرْتُهُ أي: حَمَّلْتُه شيئًا ثَقيلًا، ووزيرُ المَلِكِ مِنْ هذا لأنَّه يَتَحَمَّلُ أَعْباءَ ما قلَّدَهُ المَلِكُ مِنْ مَؤونةِ رَعِيَّتِه، ومنْه يُقالُ أَوْزارُ الحَرْبِ لِسِلاحِها وآلاتِها، قال الأعشى:
وأعدَدْتُ للحَرْبِ أَوزارَها ...................... رِماحًا طِوالًا وخيلًا ذُكورا
وقيل: الأصلُ في ذلك الوَزَرُ بفَتْحِ الوَاوِ والزايِ، وهوَ المَلْجَأُ الذي يُلْتجأ إليهِ مِنَ الجَبَلِ، قال تعالى: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} القيامة: 11. ثمَّ قيلَ للثِقلِ وِزْرٌ تَشبيهًا بالجَبَلِ، ثمَّ اسْتُعيرَ الوِزْرُ للذَّنْبِ تَشْبيهًا بِهِ في مُلاقاةِ المَشَقَّةِ منه.
قوله: {أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ} ساء: هنا إمّا هي المُتَصَرِّفةُ المُتَعَدِّيَةُ، ووَزْنُها حينئذٍ فَعَلَ بفتحِ العين، وإذًا ففاعلُها "ما" ومَفعولُها مَحذوفٌ، وإذًا فـ "ما" تحتملُ ثلاثةَ أَوْجُهٍ: أنْ تَكونَ مَوصولَةً اسْمِيَّةً أوْ حَرْفِيَّةً أوْ نَكِرَةً مَوْصوفَةً وهو بعيدٌ، وعلى جَعْلِها اسْمِيَّةً أوْ نَكِرَةً مَوْصوفَةً تُقَدِّرُ لها عائدًا، والحرفيَّةُ غيرُ مُحتاجةٍ إليْه عندَ الجُمهورِ. والتقديرُ: أَلَا ساءَهم الذي يَزِرُونَه أوْ شيءٌ يَزِرونَه أوْ وِزْرُهم. كما تقولُ: ساءني هذا الأمرُ، والكلامُ خبرٌ مُجرَّدٌ كقولِه:
رَضِيْتَ خِطَّةَ خَسْفٍ غيرَ طائلةٍ .......... فساءَ هذا رِضًى يا قيسَ عَيْلانا
الثاني: أنْ تَكونَ للتَعَجُّبِ فتَنْتَقلُ مِنْ فَعَلَ بِفَتْحِ العينِ إلى فَعُلَ بِضَمِّها، فتُعْطى حكمَ فعلِ التَعَجُّبِ: مِنْ عَدَمِ التَصَرُّفِ والخُروجِ مِنَ الخَبَرِ المَحْضِ إلى الإِنشاءِ، إنْ قلْنا: إنّ التَعَجُّبَ إنشاءٌ وهو الصَحيحُ، والمعنى: ما أسوأ ـ أيْ ما أقبحَ ـ الذي يَزِرُونَه أوْ شيئًا يَزِرُونَه أوْ وِزْرَهم، الثالث: أنَّها بمَعنى بِئسَ فتَكونُ للمُبالَغَةِ في الذَمِّ فتُعْطى أَحكامَها أَيْضًا، ويَجري الخلافُ في "ما" الواقعةِ بعدَها حَسْبما ذُكِرَ في {بِئْسَمَا اشتروا} البقرة: 90. وقد ظهرَ الفرقُ بين هذِه الأَوْجُهِ الثلاثةِ فإنَّها في الأوَّلِ مُتـَعدِّيَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ والكلامُ معَها خَبَرٌ مَحْضٌ، وهي في الأَخيرين قاصرةٌ جامدةٌ إنْشائيَّةٌ. والفرقُ بيْنَ الوَجْهيْنِ الأَخيريْنِ أَنَّ التَعَجُّبِيَّةَ لا يُشْتَرَطُ في فاعِلِها ما يُشْتَرَطُ في فاعلِ بئسَ. قال الشيخ: والفرقُ بينَ هذا الوجهِ ـ يَعني كونَها بِمَعنى بِئسَ ـ والوجهِ الذي قبلَه ـ يَعني كونَها تَعَجُّبِيَّةً ـ أنَّه لا يُشْتَرَطُ فيهِ ما يُشتَرَطُ في فاعلِ "بئس" مِنَ الأحكامِ ولا هُو جُملةٌ مُنعَقِدَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وخَبَرٍ، وإنَّما هو مُنْعَقِدٌ مِنْ فِعْلٍ وفاعلٍ.
وظاهرُهُ لا يَظْهَرُ إلَّا بتأويلٍ وهو أَنَّ الذَمَّ لا بُدَّ فيه مِنْ مَخْصوصٍ بالذَمِّ وهو مُبْتَدَأٌ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ قبلَه خبرُه فانْعَقَدَ مِنْ هذِه الجُملَةِ مُبتَدأٌ وخبرٌ، إلّا أنَّ لِقائلٍ أنْ يَقولَ: إنَّما يَتَأتَّى هذا على أَحَدِ الأَعاريب في المَخصوص، وعلى تقديرِ التَسليم فلا مَدْخَل للمَخصوصِ بالذَمِّ في جُمْلَةِ الذَمِّ بالنِسْبَةِ إلى كونِها فِعْليَّةً فحينئذٍ لا يَظهَرُ فرْقٌ بينَهما وبيْنَ التَعَجُّبِيَّةِ في أنَّ كُلًّا منها مُنْعَقدِةٌ في فعلٍ وفاعلٍ.