قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ.
(64)
قَوْلُهُ سبحانَه وتَعَالَى: {قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} أيضاً خطابٌ للرسولِ عليْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، قُلْ لَهُمْ يا رسولَ الله: إنَّ اللهَ هُوَ وَحْدَهُ الذِي يُنْجِيكُمْ مِنْ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ يَعْرِضُ لَكُمْ عندما تَدْعُونهُ، ومِنْ أَيِّ غَمٍّ يأخُذُ بالنَّفسِ، والمُرادُ بِهِ إمَّا ما يَعُمُّ ما تَقَدَّمَ، والتَعميمُ بعدَ التَخْصيصِ كثيرٌ، أوْ ما يَعتَري المَرْءَ مِنَ العَوارِضِ النَّفْسِيَّةِ التي لا تَتَناهى، كالأمراضِ والأسقامِ، وَلَكِنَّكُمْ بَعْدَ أَنْ يُنْجيكُمْ تَعُودُونَ إلَى ما كنتم عليه مِنَ الإشْراكِ بِهِ، وَتَدْعُونَ مَعَهُ فِي حَالاتِ الرَّخَاءِ آلِهَةً أُخْرَى. والْكَرْبُ: الْغَمُّ يَأْخُذُ بِالنَّفْسِ، يُقَالُ مِنْهُ: رَجُلٌ مَكْرُوبٌ. قَالَ عَنْتَرَةُ:
وَمَكْرُوبٍ كَشَفْتُ الْكَرْبَ عَنْهُ ................. بِطَعْنَةِ فَيْصَلٍ لَمَّا دَعَانِي
وَالْكُرْبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ ذلك.
قولُهُ: {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} أيْ اللهُ تعالى وحدَهُ هو الذي يُنْجيكم مما تَدعونَه إلى كَشْفِهِ، ثمَّ بعدَ ما تُشاهدون هذه النِعَمَ الجَليلةَ تعودون إلى الشِرْكِ في عبادتِه سبحانَه ولا توفون بالعَهْدِ. وفيه تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}. لأَنَّ الْحُجَّةَ إِذَا قَامَتْ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ وَجَبَ الإِخْلاصُ، وهم قد جعلوا بَدَلاً مِنْهُ وَهُوَ الإِشْرَاكُ، فَحَسُنَ أَنْ يُقَرَّعُوا وَيُوَبَّخُوا عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ قبل النجاة. ووَضَعَ "تُشْرِكُونَ" مَوْضِعَ "لا تَشْكُرون" الذي هو المُناسِبُ لوعدهم السابق المشار إليه بقولِه تعالى: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} الأنعام: 63. للتَنْبيهِ على أنَّ مَنْ أَشْرَكَ في عِبادَةِ اللهِ تَعالى فَكأنَّهُ لم يَعْبُدْهُ أبداً، إذ إنَّ التوحيدَ هو مَلاكُ الأمرِ وأَساسُ العِبادةِ، وقيل: لَعَلَّ المقصودَ هو التوبيخُ لأنَّهم مَعَ عِلْمِهم بأنَّه لم يُنْجِهِمْ إلاَّ اللهُ تَعالى، كما أَفادَهُ تقديمُ المُسْنَدِ إليْهِ أَشْرَكوا ولم يَخُصُّوا اللهَ تَعالى بالعِبادَةِ، فذَكَرَ الإشْراكَ في مَوْقِعِهِ.
قولُهُ تعالى: {وَمِن كُلِّ كَرْبٍٍ} عَطفٌ على الضميرِ المجرورِ بإعادةِ حَرْفِ الجَرِّ وهو واجبٌ عندَ البَصْرِيِّينَ، وقدْ تَقَدَّمَ، و"ثمَّ" هنا ليستْ للتَراخي الزَماني بلْ هي لِكمالِ البُعْدِ بين إحسانِ اللهِ تعالى عليْهِم وعِصيانهم. وقد تقدَّم أنَّ أَهْلَ الكوفةِ قرءوا: "يُنَجّيكُمْ" بالتشديدِ، وكذلك أَبو جعفرٍ وهشامٌ عن ابْنِ عامرٍ، وقَرَأَ الباقونَ بالتَخفيفِ.