قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.
(11)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ الْمُسْتَسْخِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ: سَافِرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا وَاسْتَخْبِرُوا لِتَعْرِفُوا مَا حَلَّ بِالْكَفَرَةِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْعِقَابِ وَأَلِيمِ الْعَذَابِ، فسَيَجدون في سيرِهم أَرْضَ ثَمودَ، وأَرْضَ عادٍ وما فيهما مِنْ بُنْيانٍ قُوِّضَ عَلَيْهم، وسيجدون أَرْضَ قومِ لُوطٍ، وقد جَعَلَ اللهُ تَعالى عاليَها سافلَها، فإذا كانوا يَطلُبون مِنَ النَبِيِّ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ أنْ يَستَعْجِلَ لَهُمُ العذابَ مُستَهْزِئين، فها هي ذِي المَثُلاتُ، والعِبَرُ، فلْيَعْتَبِروا، وَهَذَا السَّفَرُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِبَارِ بِآثَارِ مَنْ خَلَا مِنَ الْأُمَمِ وَأَهْلِ الدِّيَارِ، وَالْعَاقِبَةُ آخِرُ الْأَمْرِ. وَالْمُكَذِّبُونَ هُنَا مَنْ كَذَّبَ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ لَا مَنْ كَذَّبَ بِالْبَاطِلِ. فقد أَمَرَ اللهُ تَعالى نَبِيَّهُ بأنْ يُذَكِّرَهم بِحالِ مَنْ سَبَقوهم، وأنْ يَرَوا آثارَهم حِسًّا، لِيَتَدَبَّروا فيها فِكْرًا، ليعرفوا أنَّ هذه الحياةَ التي يعيشونَها ليس لها دوامٌ، وأنَّها لَا تبقى على حال. ولِيَعْرِفوا أَنَّ أُولئكَ الأقوامَ قدْ مَكَّنَ اللهُ لَهم في الأرضِ ما لم يُمَكِّنْ لهم هُم، ولم يمنَعْهُم مُلْكُهُمُ الواسِعُ، وقُوَّتُهم الظاهرةُ مِنْ أَنْ يُؤخَذوا كما يُؤخَذُ أَضْعَفُ الضُعفاءِ، وأنَّ النهايةَ واحدةٌ لَا فَرْقَ فيها، وقد عذَّبَهُمُ اللهُ بالإهْلاكِ في الدُنيا بِسببِ طُغيانِهم.
فالخطابُ لسيد المخاطبين ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ وفيه تَكْمِلَةٌ لِتَسْلِيَتِهِ ـ عليه الصلاةُ والسَلامُ ـ بِما في ضمنِهِ من أنَّه سَيَحيقُ بَهؤلاء الذين يكذِّبونه ويستهزئون به مثلُ ما حاق بأضرابِهم الذين سبقوهم من الأمم السابقةِ، وقدْ أَنْجَزَ سبحانَه وتَعالى وعدَه لرسولِه ووعيده لكفار قريش إنْجازًا أَظْهَرَ مِنَ الشَمْسِ يومَ بَدْرٍ، والمُرادُ بالنَظَرِ هنا التَفَكُّرُ، وقيل: النَظَرُ بالأَبْصارِ، ويَجوزُ الجمْعُ بينهما.
قولُه تعالى: {ثُمَّ انظروا} عطفٌ على قولِه: "سيروا" وقد جاءَ العطفُ هنا بـ "ثم" ولم يَجِئْ في القرآنِ العَطفُ في مِثْلِ هذا المَوضِعِ إلَّا بالفَاءِ، والفرقُ هو: أَنْ جَعَلَ النَظَرَ مُسبَّبًا عن السيرِ في قوله: "انظروا" كأنَّه قيلَ: "سيروا لأجلِ النَظرِ، ولا تَسيروا سَيْرَ الغافلين" وهنا معناه إباحةُ السَّيْر في الأرضِ للتِجارةِ وغيرِها مِنَ المَنافِعِ وإيجابُ النَظَرِ في آثارِ الهالِكين، ونَبَّهَ على ذلك بـ "ثم" لِتَبَاعُدِ ما بَيْن الواجِبِ والمُباح. هذا هو رأي الزمخشريِّ
وقد قال الشيخ أبو حيّان فيه: وما ذَكرَه أوَّلاً مُتناقِضٌ لأنَّه جَعلَ النَظَرَ مُتَسَبِّبًا عنِ السَيرِ، فكان السيرُ سببًا للنَظَرِ، ثمَّ قال: فكأنَّه قيل: سِيروا لأجْلِ النَظَرِ، فجعلَ السَيْرَ مَعلولًا بالنَظَرِ، والنظرُ سببٌ له فتَناقَضا، ودعوى أنَّ الفاءَ سَبَبِيَّةٌ دَعوى لا دَليلَ عليها، وإنَّما مَعناها التَعقيبُ فقط، وعلى تقديرِ تسليمِ إفادَتِها السَبَبَ فلِمَ كان السيرُ هنا سيرَ إباحةٍ وفي غيرِه سيرَ إيجابٍ؟ وهذا اعْتِراضٌ صحيحٌ إلَّا قولَه "إنَّ الفاءَ لا تُفيدُ السَبَبِيَّةَ".
قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} كيف: خبرُ "كان" مُقدَّمٌ و"عاقبةُ" اسمها، ولم يُؤَنَّثْ فِعْلُها لأنَّ تأنيثَها غيرُ حَقيقيٍّ، ولأنَّها بتأويلِ المآلِ والمنتهى، فإنَّ العاقبةَ مصدرٌ على وزن فاعِله. والعاقبة: مُنْتَهى الشيءِ وما يَصيرُ إليه وإذا أُطْلِقَتْ اخْتَصَّتْ بالثَوابِ. قالَ تعالى: {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} الأعراف: 128، وبالإِضافة قدْ تُسْتَعْمَلُ في العقوبة كقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الذين أَسَاءُواْ السوأى} الروم: 10. و{فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ} الحَشْر: 17. فصَحَّ أنْ تَكون استعارةً مِنْ ضدِّه كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} آل عمران: 21. و"كيف" معلِّقَةٌ للنَظَرِ فيه، لأنَّ معناهُ هُنا التَفَكُّرُ والتَدَبُّرُ.