وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ
(49)
قَوْلُهُ تَعَالَى جَدُّه: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} أَيْ بِالْقُرْآنِ وَالْمُعْجِزَاتِ. وَقِيلَ: بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وقد جاءَت هذه الآيةُ الكريمة على ذِكْرِ هؤلاءِ المكذِّبين وبيَّنتْ ما يلاقونه من عذابِ اللهِ وسَخَطِهِ في مقابلِ ما جاء في الآية التي سبقتها من رضا اللهِ تعالى ومغفرته وحسن ثوابه وجزائه للذين آمنوا بالله ورسوله وما جاء به عليه الصلاةُ والسلامُ من شرع ربه فعملوا به، قال: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون} فهم في أَمْنٍ مِنْ غيرِ خَوْفٍ وسعادةٍ مِنْ غَيرِ حُزْنٍ.
قولُه: {يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} أَيْ يُصِيبُهُمْ العذابُ بسببِ كُفرِهم وفِسْقِهم، وفِسْقُهم خُروجُهم عنِ الحَقِّ، وإنْكارُهم لما يُوجِبُ العقلُ الإيمانَ بِه، وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عنِ ابْنِ زَيْدٍ "أنَّ كلَّ فِسْقٍ في القرآنِ مَعناهُ الكَذِبُ"، وأَتْبَعوا ذلك بفعلِ الموبقات، فإذا كان المؤمنون قد أذعنوا للحَقِّ، فأوصلَهم إيمانُهم إلى العَمَلِ الصالحِ، فإنَّ الذين أَنكروا الحقَّ قد أَوصَلَهم إنكارُهم هذا إلى ارْتِكابِ المُوبِقاتِ والزورِ مِنَ الأقوال الأفعال، وعبَّرَ سبحانَه عَنْ إصابَةِ العَذابِ لهم وإدْخالِهم جَهَنَّمَ بـ "يمسهم"، لأنَّ مَوضِعَ الإحْساسِ بالأَلَمِ هو الجِلْدُ، فمَسُّه بالعَذابِ هو الإيلامُ الشديدُ، اللَّهُم أبعدنا عذابِ النارِ وما يؤدي إليه من قولٍ أو عملٍ أو سوءِ اعْتِقاد.
وأسْنَدَ المَسَّ إلى العذابِ معَ أنَّ حقَّه أنْ يُسْنَدَ إلى الأحياءِ لِكونِهِ مِنَ الأفعالِ المَسْبوقةِ بالقَصْدِ والاخْتِيارِ على طريقِ الاسْتِعارَةِ بالكِنايَةِ فجَعَلَ العذابَ كأنَّه حَيٌّ يَطْلُبُ إيلامَهم والوُصولَ إليهم.
وقولُهُ تعالى: {يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بما كانوا يَفسُقون} جملةٌ معطوفةٌ على "فَمَنْ آمَنَ} الأنعام: 48 و"ما" مَصدَرِيَّةٌ على الأَظْهَرِ، أي: بِفِسْقِهم.
وفي جعلِ العذابِ ماسًّا إيذانٌ بتنْزيلِهِ مَنْزِلَةَ الحيِّ الفاعِلِ لما يُريدُ، ففيه اسْتعارةٌ مَكْنِيَّة. وجُوِّزَ أنْ يَكونَ في المَسِّ اسْتِعارةٌ تَبَعِيَّةٌ مِنْ غيرِ اسْتِعارةٍ في العَذابِ.
وقرأَ عَلْقمةُ : "نُمِسُّهم" بنونٍ مضمومةٍ وهو مِنْ "أَمَسَّهُ كذا" وقرأ:
"العذابَ" نَصْبًا على المفعوليَّةِ، وقرأ الأعمشُ ويحيى بْنُ وَثَّابٍ: "يَفْسِقون" بكسرِ السِين، وهي لُغةٌ فيها كما قدْ تقدَّم.