ِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
(79)
قَوْلُهُ تَعَالَى جَدُّه: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} وجَّهتُ: أَيْ قَصَدْتُ بِعِبَادَتِي وَتَوْحِيدِي اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ. و"فَطَرَ" أيْ أَوْجَدَ، وأَنْشَأَ "السموات" تلك التي من أجزائها هذِه الأَجْرامُ التي تعبدونها، و"الأرض" التي مِنْ أَجْزائها تلكَ الأصنامُ، التي تَعبُدونها أَيْضاً، وَذَكَرَ الْوَجْهَ لأَنَّهُ أَظْهَرُ مَا يَعْرِفُ بِهِ الإِنْسَانُ صَاحِبَهُ. والسمواتُ والأرضُ هما المَظْهَرُ الأَوَّلُ للكَوْنِ الذي طَرَأَ عليْهِ الإنسانُ؛ الخليفةُ فوجدَ في الأرضِ خيراتٍ كثيرةً ومُسَخَّراتٍ عديدةً لخدمتِه ومنفعته، قالَ تعالى: {لَخَلْقُ السماواتِ والأرضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} غافر: 57. فالحقُّ سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسانَ وحسب، وإنما خَلَقَ له الكونَ.
قولُهُ: {حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} حَنِيفاً" مَائِلاً إِلَى الْحَقِّ. بعيداً عنِ الأدْيانِ الباطِلَةِ والعقائدِ الزَائغَةِ كلِّها، وهذا يَعني أَنَّه لا يَسيرُ على طريقِ الفَسادِ الموجودِ في الكَوْنِ؛ لأنَّ السَماءَ تتدَخَّلُ حين يعمُّ الفَسادُ في الأرْضِ ، فميلُ الرَّسولِ عنِ الفسادِ فهوَ يَسيرُ معتدِلاً؛ لأنَّ الميلَ عنِ الفَسادِ اعْتِدالٌ واسْتِقامَةٌ. و"مَا أَنَاْ مِنَ المشركين" أَصْلاً في شيءٍ مِنَ الأَقْوالِ والأفعالِ، والمُرادُ مِنْ توجيهِ الوَجْهِ للذي فَطَرَ السموات والأرضَ، قصدُهُ سُبحانَه وتعالى بالعِبادَةِ وحدَهُ. فالمعنى وجَّهْتُ عِبادتي وطاعتي، وسَبَبُ جَوازِ هذا المجازِ أَنَّ مَنْ كانَ مُطيعاً لِغيرِهِ تعالى مُنْقاداً لأَمْرِهِ فإنَّهُ يَتَوَجَّهُ بِوَجْهِهِ إليْه، فجَعَلَ تَوَجُّهَ الوَجْهِ إليْه كِنايةً عنِ الولاء والطاعةِ، وإلاَّ فاللهُ منزَّهُ عن الجُرْمِيَّةِ والتَحيُّزِ للجهةِ لتتوجَّهَ إليهِ الوُجوهُ، وقد نَبَّهْنا إلى ذلك غيرَ مَرَّةٍ، نظراً لأهميّةِ الموضوعِ، ولتعلُّقِه بالعقيدة التي يجب أن يلقى المؤمنُ عليها ربَّه تبارك وتعالى.
قولُهُ تعالى: {وجّهتُ وجهيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماواتِ والأرضَ حنيفاً} للذي: قدَّروا قبلَ "الذي" مُضافاً، أيْ: وجَّهْتُ وجهِيَ لِعِبادَةِ "الذي فطرَ السماواتِ والأرضََ" ولِرِضاهُ، كأنَّهم نَفَوْا بذلِكَ وَهْمَ مَنْ يَتَوَهَّمُ الجِهَةَ. و"حنيفاً" حالٌ مِنْ فاعِلِ "وَجَّهْتُ"، و"ما" يُحْتَمَلُ أنْ تَكونَ الحِجازِيَّةَ، ويُحْتَمَلُ أنْ تكونَ التَميميَّةَ، كما ذكرنا ذلك غيرَ مَرَّةٍ. وعليه فهي إمّا حجازية بمعنى "ليس" وبالتالي فهي فعلٌ ناقصٌ، والباقي وهو "أنا من المشركين" اسْمُها وَخَبَرُهَا. أو أنَّها التميميَّةُ فليست عاملةً وبالتالي فإنّ ما بعدها جملة اسميةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ.
وَإِذَا وَقَفْتَ قُلْتَ: "أَنَا" زِدْتَ الأَلِفَ لِبَيَانِ الْحَرَكَةِ، وَهِيَ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ. وَقَالَ الأَخْفَشُ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: "أَنَ". وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: "أَنَهْ". ثَلاثُ لُغَاتٍ. وَفِي الْوَصْلِ أَيْضًا ثَلاثُ لُغَاتٍ: أَنْ تُحْذَفَ الأَلِفُ فِي الإِدْرَاجِ، لأَنَّهَا زَائِدَةٌ لِبَيَانِ الْحَرَكَةِ فِي الْوَقْفِ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُثْبِتُ الأَلِفَ فِي الْوَصْلِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ حُمَيْدٌ بْنُ مَجْدَلٍ:
أَنَا سَيْفُ الْعَشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي ................... جميعاً قدْ تَذَرَّيْتُ السَناما
وَهِيَ لُغَةُ رديئةٌ لبَعْضِ بَنِي قَيْسٍ وَرَبِيعَةَ. وَمِن بعضِ عَرَبِ قُضاعَةَ مَنْ يَقُولُ فِي الْوَصْلِ: آنَ فَعَلْتُ، مِثْلَ عَانَ فَعَلْتُ.