وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
(17)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} الْمَسُّ وَالْكَشْفُ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، ويُطلَقُ على ما يَنزِلُ بالإنسان مِنْ ضُرٍّ، كما في قولِهِ تعالى: {قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ}. وكما في قولِه: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاءُ}. وقولِهِ: {وَإذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ}. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ وَتَوَسُّعٌ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تَنْزِلْ بِكَ يَا مُحَمَّدُ شِدَّةٌ مِنْ فَقْرٍ أَوْ مَرَضٍ فَلَا رَافِعَ وَصَارِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يُصِبْكَ بِعَافِيَةٍ وَرَخَاءٍ وَنِعْمَةٍ "فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" مِنَ الْخَيْرِ وَالضُّرِّ. والضُرُّ هو الأمْرُ المُؤلِمُ الذي يَنزِلُ بالمَرْءِ مِنْ ضِيقٍ في الرِزْقِ، أوْ مرضٍ في الجِسْمِ، أوْ هَزيمةٍ في حَرْبٍ أوْ نَحْوَ ذلك، فإذا مَسَّكَ أيُّها النَبِيُّ ضُرٌّ مِنْ هذا النوعِ الذي تتأثَّرُ بِه في دعوتِكَ، فلا يَكْشِفُ عنك هذا الضُرَّ إلّا هو، وقدْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكْشِفَ الإنسانُ عنْ صاحبِهِ كُرْبَةً مِنْ الكُرَبِ، لكنَّ كاشفَها في الحقيقةِ إنَّما هوَ اللهُ تعالى، إمَّا بِوسِاطَةِ الأسبابِ أوْ بغيرِها، وكذا الاسْتِعانَةُ فهي في الحقيقةِ مِنَ اللهِ تَعالى أمّا الاسْتعانَةُ بالخلقِ منْ أنبياءَ وأولياءَ وغيرِهم إنما هي اسْتِشفاعٌ مِنْهم في قضاءِ الحاجةِ، ولا يجوزُ للمُوحِّدِ أنْ يعتقِدَ أنَّ في الوُجودِ مؤثِّرًا غيرُ اللهِ تعالى. وفي الآيةِ الكريمةِ دَليلٌ آخرُ على أنَّهُ لا يَجوزُ للعاقِلِ أنْ يَتَّخِذَ غيرَ اللهِ وَلِيًّا.
وظاهرُ هذا الكلامِ أنَّ الخطابَ يَكونُ للنَبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ لِتَقويَةِ همَّتِهِ وشحذِها في تَبليغِ دَعوتِهِ إلى اللهِ ـ سبحانه وتعالى ـ وتأكيدِ وِلايَتِهِ، واسْتِعانَتِهِ بِهِ وحدَه ـ جَلَّ وعلا.
ويَصِحُّ أنْ يَكونَ الخِطابُ لِكُلِّ مُؤمِنٍ قارِئٍ للقُرآنِ، ولكلِّ مَنْ هُو أهلٌ للخِطابِ، وفيه بيانُ أَنَّ النَّاسَ جَميعًا تحتَ سلطانِ الله ـ تعالى شأنُه، وجَلَّتْ قدرتُه ـ فما يُصيبُهم مِنْ نفعٍ فبِتَقْديرِهِ، وما يُصيبُهم مِنْ ضُرٍّ فبِتَقديرِه وإرادتِهِ، وهُوَ الكاشفُ لِهذا الضُرِّ إنْ أَرادَ ذلك، معَ الأخذِ بالأسبابِ؛ لأنَّ الأَسبابَ لَا تَعْمَلُ بإرادتِها، إنَّما بإرادةِ اللهِ تعالى. ولذلكَ كان اللهُ يأمُرُ بالتَوَكُّلِ عليْه بعدَ الأخذِ بالأَسْبابِ.
وقالَ عنِ الضُرِّ بأنَّ اللهَ كاشِفُهُ، وعنِ مَسِّ النفعِ بقُدرةِ اللهِ، لأنَّ مَنْ نَزَلَ بِهِ ضُرٌّ يَكونُ إِحساسُهُ بِزوالِهِ، فعَبَّرَ عن زَوالِهِ بِكشفِ اللهِ تَعالى، وأَمَّا النفعُ فإنَّهُ يَكون صاحبُه في حالٍ تَسْتَوجِبُ الحَمْدَ والثَناءَ وطَلَبَ بَقائه ودوامِه فيُناسِبُه إثباتُ قدرةِ اللهِ تعالى.
وفي قولُهُ: {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} مُقابَلَةُ بيْنَ الخيرِ والضرِّ، وأنَّ الأوَّلَ يَكشِفُهُ اللهُ، والثاني بقدرةِ اللهِ تعالى، والتعبيرُ بالمَسِّ في الأمريْنِ مِنْ قَبيلِ التَشاكُلِ اللَّفْظِيِّ، والكُلُّ تحتَ سُلطانِ اللهِ تعالى وقدرتِه. فقد رَوَى عبدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ لِي: ((يَا غُلَامُ ـ أَوْ يَا بُنَيَّ ـ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ))؟ فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: ((احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، فَقَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَقْضِهِ اللهُ لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، واعملْ للهِ بِالشُّكْرِ وَالْيَقِينِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)). أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ ثَابِتٍ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ (الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ) وَهُوَ حَدِيثٌ صحيح، وقد خرَّجَه الترمذي أيضًا بلفظٍ قريبٍ مِنْ هَذا، لكنَّ هذا أَتَمُّ.
قولُه تعالى: {بِضُرٍّ} الباءُ ـ هنا ـ للتَعْدِيَةِ، وكذا في "بخيرٍ" وإنْ يَمْسَسْكَ اللهُ الضرَّ أي: يجعلك ماسَّاً له، وإذا مَسَسْتَ الضُرَّ فقدْ مَسَّكَ، إلَّا أَنَّ التَعدِيَةَ بالباءِ في الفِعْلِ المُتَعدِّي قليلةٌ جِدًّا، ومنْه قولُهم: صَكَكْتُ أحدَ الحَجَريْنِ بالآخر. وقد قال ـ سبحانه: "وإنْ يَمْسَسْكَ اللهُ" والمَسَّ مِنْ صِفَةِ الأَجْسامِ وذلك لأنَّ الباءَ للتَعْديَةِ والباءُ والألِفُ يَتعاقبانِ في التَعديَةِ، والمعنى: إنْ أَمَسَّكَ اللهُ ضُرًّا أيْ: جعلَهُ ماسَّكَ، فالفِعْلُ للضُرِّ وإنْ كان في الظاهِرِ قدْ أُسْنِدَ إلى اسْمِ اللهِ تعالى، كقولِك: "ذَهَبَ زَيْدٌ بِعَمْرٍو" وكان الذهاب فِعْلًا لِعَمْرٍو، غيرَ أنَّ زَيْدًا هو المُسَبِّبُ لَهُ والحامِلُ عليْه، كذلكَ ههنا المَسُّ للضُرِّ واللهُ تَعالى هو الذي جَعَلَهُ ماسًّا. ومنْ ذلك قولُهُ ـ تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ الناسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} البقرة: 251.
قولُه: {فَلاَ كَاشِفَ لَهُ} له: خبرُ لا، وثَمَّ مَحذوفٌ تَقديرُه: فلا كاشفَ له عنك، وهذا المحذوفُ ليس متعلِّقًا بـ "كاشف" وإلّا للزِمَ تَنوينُهُ وإعْرابُه بَلْ يَتَعَلَّقُ بمحذوفٍ أيْ : أَعْني عنْه.
وقولُه: "إلا هو" بَدَلٌ مِنْ محلِّ "لا كاشفَ" فإنَّ مَحَلَّهُ الرَّفْعُ على الابْتِداءِ، أو هو بَدَلٌ مِنَ الضميرِ المُسْتَكِنِّ في الخَبَرِ، ولا يَجوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ باسْمِ الفاعِلِ "كاشفَ" لأنَّه يَصيرُ مُطوَّلًا، ومتى كان مُطَوَّلًا أُعْرِبَ نَصْبًا، وكذلك لا يَجوزُ أنْ يَكونَ بَدَلًا مِنَ الضَميرِ المُسْتَكِنِّ في "كاشف" للسببِ ذاته، إذْ البَدَلُ يَحِلُّ مَحَلَّ المُبْدَلِ مِنْه.
وعَدَلَ عَنْ لَفْظِ الشَرِّ مع أنَّه المُقابِلُ للخَيْرِ لأنَّه أَرادَ تَغليبَ الرَّحمةِ على ضِدِّها فأتى في جانِبِ الشَرِّ بأخَصَّ منْه وهو الضُرُّ، وبالعامِّ الذي هو الخيرُ تغليبًا لهذا الجانبِ، فنابَ الضُرُّ ـ هُنا ـ مَنابَ الشَرِّ وإنْ كان الشَرُّ أَعَمَّ مِنْه فقابَلَ الخَيْرَ، وهذا مِنَ الفَصاحَةِ، أَنْ يَكونَ الشيءُ مُقتَرِنًا بالذي يَخْتَصُّ بِه بِنوعٍ مِنْ أَنواعِ الاخْتِصاصِ مُوافقةً أوْ مُضاهاةً، من ذلك قولُه ـ تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى} طه: 118 ـ 119. فجاءَ بالجُوعِ مَعَ العُرْيِ وبابُهُ أنْ يَكونَ مَعَ الظَمَأِ، وإيضاحُه اشْتِراكُ الجُوع ِوالعُرْيِ في شيءٍ خاصٍّ وهو الخُلوُّ، فالجُوعُ خُلوٌّ وفَراغٌ في الباطِنِ، والعُرْيُ خُلْوٌّ وفَراغٌ في الظَاهِرِ، واشتِراكُ الظَمَأِ والضُحَى في الاحْتِراقِ، فالظَمَأُ احْتِراقٌ في البَاطِنِ ولِذلك تقول: "بَرَّدَ الماءُ حرارةَ كَبِدي وأُوامَ عَطَشي"، والضُحى: احْتِراقُ الظاهِرِ. ومنْهُ قولُ امرِئِ القيس:
كأنّيَ لم أركبْ جَوادًا لِلَذَّةٍ ............... ولم أَتَبَطَّنْ كاعِبًا ذاتَ خَلْخالِ
ولم أَسْبَأِ الزِّقَّ الرَّوِيَّ ولمْ أَقُلْ ............... لِخَيْلِي َكُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفالِ
فقد جَمْعُ في البيتِ الأوَلِ بيْنَ الرُّكوبِ لِلَّذَّةِ ـ وهو الصَيْدُ ـ وتَبَطُّنِ الكاعِبِ اشْتِراكُهُما في لَذَّةِ الاسْتِعْلاءِ والقَهْرِ والاقْتِناصِ والظَفَرِ بمِثْلِ هذا المَرْكوبِ، ولذلك سَمّوا هَنَ المَرْأَةِ "رَكَبًا" بفتحِ الراءِ والكافِ وهو فَعَلَ بِمَعنى مَفْعولٍ كقولِ الراجز:
إنَّ لها لَرَكَبًا إرْزَبَّا .................................. كأَنَّه جَبْهَةُ ذَرَّى حَبَّا
الإرزبُّ: الضَخمُ كثيرُ اللَّحمِ، وذرّى حَبًّا: لقبٌ لرجُلٍ.
وأمَّا البْيتُ الثاني فالجامعُ بين سَبَأِ الخَمْرِ والرُّجُوعِ بعدَ الهزيمةِ اشْتِراكُهُما في البَذْلِ، فشراءُ الخَمْرِ بَذْلُ المَالِ، والرُّجوعُ بعدَ الانْهِزامِ بَذْلُ الروح.
وقدَّم تبارك وتعالى مَسَّ الضُرِّ على مَسِّ الخيرِ لِمُناسبةِ اتِّصالِ مَسِّ الضُرِّ بما قبلَه مِنَ الترهيبِ المَدلولِ عليْه بقولِه: {إنَي أَخافُ} في الآية السابقة، وجاءَ جوابُ الشَرْطِ الأوَّلِ بالحَصْرِ إشارةً إلى اسْتِقلالِهِ بِكَشْفِ الضُرِّ دون غيرِه، وجاء الثاني بقوله: "فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ" إشارةً إلى قدرتِه الباهرةِ، فيندرجُ فيها المَسُّ بخيرٍ وغيرِه، على أنَّه لو قيل: إنَّ جوابَ الثاني محذوفٌ لكانَ وجْهًا، أي: وإنْ يَمْسَسْك فلا رادَّ لِفضلِه للتَصريحِ بمثلِه في مَوضِعٍ آخرَ.