قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
(15)
قولُه تبارك وتعالى: {قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي ..} خِطابٌ منْه ـ سبحانه ـ لنَبِيِّهِ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ أنْ يا أَيُّها الرسولُ قلْ لِهؤلاءِ المشركين إنّي أخاف إنْ عَصَيْتُ ربّي بمُخالَفَةِ أَمرِهِ ونَهْيِهِ "عذاب يومٍ عظيم"، أي: إنِّي بِعَجْزِيَ مُتَحَقِّقٌ، ومِنْ عذابِ ربّي مُشْفِقٌ، وبِمُتابَعَةِ أَمْرِهِ مُتَخَلِّقٌ. أَرادَ الحقُّ أنْ يُبَيِّنَ لَنا أَنَّ المَعصومَ لا يَتَأَتَّى مِنْه عِصْيانُ اللهِ. ولكنْ أتى هذا القولَ على لِسانِ رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ ـ لِنَعْلَمَ أَنَّ هناكَ عَذابًا عظيمًا تَوَعَّدَ بِهِ اللهُ مَنْ يَعصيهِ. وخِوْفُ المَعصومِ مِنَ المَعْصِيَةِ لا يُنافي العِصْمَةَ لِعِلْمِهِ أنَّ اللهَ ـ سبحانَه وتعالى ـ فعَّالٌ لِما يُريدُ وأنَّه لا يَجِبُ عليه شيءٌ، وفي بعضِ الآثارِ أنَّه ـ عَزَّ شأنُه ـ قال لموسى ـ عليه السلامُ: (يا موسى لا تأمَنْ مَكْري حتَّى تَجوزَ الصِراطَ).
وجاءَ في غيرِ ما خَبَرٍ أنَّهُ ـ عليْه الصلاةُ والسلامُ ـ إذا عَصَفَتِ الريحُ يَصْفَرُّ وجهُهُ الشريفُ ويَقولُ: أَخافُ أَنْ تَقومَ الساعةُ، مَعَ أَنَّ اللهَ ـ تعالى ـ أَخْبَرَهُ أنَّ بيْنَ يَدَيْها ظُهورُ المَهْدي ونزولُ عيسى ـ عليهِما السلامُ ـ وخُروجُ الدَجَّالِ، وطُلوعُ الشمسِ مِنْ مَغْرِبِها إلى غيرِ ذلك مِنْ الأَماراتِ التي لم تُوجَدْ إذْ ذاك ولم تتحقَّقْ بَعْدُ. وصحَّ أنَّه ـ صلَّى اللهُ عليْه وسَلَّمَ ـ اعْتَذَرَ عَنْ عدمِ خُروجِهِ لِصلاةِ التَراويحِ ـ بعدَ أَنْ صَلَّاها أَوَّلَ رَمضانَ وتَكاثَرَ الناسُ رَغْبَةً فيها ـ بقولِهِ: ((خشيتُ أنْ تُفرَضَ عَلْيكم)) معَ أَنَّ ما كان ليلَةَ الإسْراءِ إذْ فُرِضتِ الصَلَواتُ يُشْعِرُ بأنَّه ـ تَعالى ـ لا يَفرِضُ زيادةً عَنِ الخَمْسِ، وكُلُّ ذلك يَدُلُّ على أَنَّ للهِ أنْ يَفعَلَ ما شاءَ.
وفي هذه الآيةِ المُبارَكَةِ أَمْرٌ ثالثٌ مِنْهُ ـ سبحانَه وتعالى ـ لِنَبِيِّهَ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ أنْ يُبَيِّنَ حالًا مِنْ أَحوالِه يَكون فيها تَنبيهٌ لَهم، وتحذيرٌ مِنْ أَنْ يَبْقَوْا على الشِرْكِ، ويَسْتَمِرّوا على عِصْيانِ اللهِ تعالى. فيأمرُه تَعالى بأنْ يقولَ لهم: "إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ.." فذِكْرُ هذِهِ الحالِ مِنَ النَبِيِّ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ تنبيهٌ لهم إلى أنَّهم في مَقامِ مَنْ يَخافُ عذابَ يَومٍ عَظيم.
قولُه: {عذاب يوم عظيم} إنذارٌ لهم بأنَّ "عذابَ يومٍ عظيمٍ" ينتظرُهم، وأنَّه يَجِبُ عليهم أنْ يَخافوهُ، ويَتَّقوهُ، بأنْ يُقلِعوا عَمَّا هُمْ فيه مِنَ الوُقوعِ في أَسبابِهِ، وهو العِصْيانُ، وأَكْبَرُ العِصْيانِ الشركُ، وأُنْذِروا بأدَقِّ تَعبيرٍ، وأبلغِ بيانٍ إذْ جُعِلَتْ حالُ النَبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ مِنَ الخوفِ مِنْ عذابِ اللهِ إنْ عَصى مُنَبِّهَةً إلى الاقتِداءِ، والتفتيشِ عمَّا هُمْ فيهِ مِنْ مَعْصِيَةٍ للهِ تعالى.
والأنبياءُ ـ عليهِمُ الصلاةُ والسلامُ ـ معصومون عَنِ ارتكابِ المَعاصي، ولكنَّ خوفَ العِصْيانِ يَعتريهم؛ لفرْطِ إحساسِهِم بِعَظَمَةِ اللهِ وكمالِ معرفتهم به، ولإيمانِهم بحِسابِه وعقابِه وثوابِه، ولمراقبتِهِمْ وشهودِهم لذاتِ الحقِّ ـ تبارك في علاه ـ يكونون في خوْفٍ ووجَلٍ دائميْن، لَا لِتَوَقُّعِ العِصيانِ، ولكنْ رَهْبَةً للديَّان، ويستوي عندهم في ذلك الخوفُ منه ـ سبحانه ـ مع الرجاء به وبعفوه وسَعَةِ رَحمتِه وعَميمِ فضلِهِ. وقالَ: "إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي" لأنَّ العِصْيانَ الجَلِيَّ الواضحَ منهم غيرُ مُتَوَقَّعٍ فاستخدم "إن" التي لَا تَدَلُ على الوُقوعِ، كما أنَّ ذكرَ كلمة "ربّي" يَستبْعِدُ العصيانَ، فالرَبُّ الخالقُ المُربّي الكالئُ، الذي هو فوقَ كلِّ شيءٍ لا يُعصى. و"يومٍ عظيمٍ" أي يومُ القيامةِ، وهو عَظيمٌ بما فيهِ مِنْ أُمورٍ عظيمةٍ، كتجلِّي الحقِّ ـ جَلَّتْ عظمتُه على عبادِه لحسابِهم وإثابتهم أو عقابهم، والتَنْكيرُ يفيدُ التَعظيمَ.
قولُهُ تعالى: {إِنْ عَصَيْتُ} شَرْطٌ حُذِفَ جَوابُه لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عليْه، ولذلك جيءَ بِفِعْلِ الشَرْطِ ماضيًا، وهي جُملةٌ شَرطيَّةِ معترضةٌ بيْن الفِعلِ "أخاف" وبيْن مَفعولِهِ "عذاب". أوْ أنَّها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ. وجملةُ "أخافُ" خبرٌ لـ "إنَّ" وهي وما في حَيِّزِها في مَحَلِّ نَصْبٍ بـ "قل".