تفسير سُورَةُ الْأَنْعَامِ
هِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ. وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: هِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْهَا نَزَلَتا بِالْمَدِينَةِ وهما قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الأنعام: 91. ونَزَلَتْ في مالكٍ بْنِ الصَيْفِ وكَعْبٍ ابْنِ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيَّيْنِ وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ} الأنعام: 141. ونَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ الْأَنْصَارِيِّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ والْمَاوَرْدِيُّ: نَزَلَتْ فِي مُعَاذٍ بْنِ جَبَلٍ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ سُورَةُ "الْأَنْعَامِ" مَكِّيَّةٌ إِلَّا سِتَّ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إِلَى آخِرِ ثَلَاثِ آيَاتٍ و{قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الأنعام: 151. إِلَى آخِرِ ثَلَاثِ آيَاتٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ الْآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ} نَزَلَ بِمَكَّةَ يَوْمَ عَرَفَةَ وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ. وَفِي الْخَبَرِ أَنَّهَا نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً غَيْرَ السِّتِّ الْآيَاتِ وَشَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ مَعَ آيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ وَهِيَ {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ} الأنعام: 59. نَزَلُوا بِهَا لَيْلًا لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ فَدَعَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْكُتَّابَ فَكَتَبُوهَا مِنْ لَيْلَتِهِمْ. وروى الحاكم في مستدركه عن إسماعيلَ بْنِ عبدِ الرحمنِ السُّدِّيِّ، عنِ مُحَمَّدٍ بْنِ المُنْكَدِر، عن جابرٍ قال: لمَّا نَزَلَتْ سورةُ الأنعامِ سَبَّحَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ، ثمَّ قال: ((لقد شيَّعَ هذه السورةَ مِنَ المَلائكةِ ما سَدَّ الأُفُقَ)). وقالَ الحاكمُ: هو صحيحٌ على شرطِ مُسْلِمٍ، المستدرك (2/314)، وقد تعقَّبَ الذَهَبِيُّ الحاكمَ بقولِهِ: "لا واللهِ لمْ يُدْرِكْ جَعْفَرٌ السّدِّيَّ، وأَظُنُّ هذا مَوضوعًا". قلت: هو على شرطِ مُسلمٍ في المُعاصَرَةِ، فإنَّ وَفاةَ السُّدِّيِّ كانتْ سنةَ: 127هـ، ووِلادةُ جَعفرَ بْنِ عَونٍ كانت سنة: 109 هـ، فاللِّقاءُ بينَهُما مُحتَمَلٌ"، ورِجالُ إسنادِ الحديثِ رِجالُ مُسْلِمٍ، فقولُ الذّهبِيِّ: "أَظُنُّه مَوضوعًا". لا وَجْه لَهُ؛ والظنُّ لا يرقى مرتبة اليقين، واللهُ أَعْلَمُ. وَأَسْنَدَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ قَالَ: .. عَنْ نَافِعٍ أَبِي سَهْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ مَعَهَا مَوْكِبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ سَدَّ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ)) وَالْأَرْضُ لَهُمْ تَرْتَجُّ وَرَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: ((سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ)) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَذَكَرَ الدَّارِمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: الْأَنْعَامُ مِنْ نَجَائِبِ الْقُرْآنِ. وَفِيهِ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: فَاتِحَةُ "التَّوْرَاةِ" فَاتِحَةُ الْأَنْعَامِ وَخَاتِمَتُهَا خاتمةُ "هُودٍ". وَقَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَيْضًا. وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ "التَّوْرَاةَ" افْتُتِحَتْ بِقَوْلِهِ: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} الأنعام: 1. الْآيَةَ وَخُتِمَتْ بِقَوْلِهِ: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} الإسراء: 111. إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ "الأنعام" إلى قوله: {وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ} الأنعام: وَكَّلَ اللهُ بِهِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَكْتُبُونَ لَهُ مِثْلَ عِبَادَتِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَنْزِلُ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَمَعَهُ مِرْزَبَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَإِذَا أَرَادَ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوَسْوِسَ لَهُ أَوْ يُوحِيَ فِي قَلْبِهِ شَيْئًا ضَرَبَهُ ضَرْبَةً فَيَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ سَبْعُونَ حِجَابًا فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ اللهُ تَعَالَى:" امْشِ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي وَكُلْ مِنْ ثِمَارِ جَنَّتِي وَاشْرَبْ مِنْ مَاءِ الْكَوْثَرِ وَاغْتَسِلْ مِنْ مَاءِ السَّلْسَبِيلِ فَأَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ)). وخرَّجَه الإمامُ مُسلمٌ عن أَبي صالحٍ، عن جابرٍ بْنِ عبدِ الله ـ رضي اللهُ عنه ـ وأخرجَ مثلَه محمد ابْنُ الضَريسِ في فضائل القرآن عن حَبيبٍ بْنِ عيسى عن أبي مُحَمَّدٍ الفَارِسِيِّ /194/. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهما ـ قَالَ: إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ مِنْ سُورَةِ "الْأَنْعَامِ" {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} إلى قوله: {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} الأنعام: 140. وقَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذِهِ السُّورَةُ أَصْلٌ فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُبْتَدِعِينَ وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَهَذَا يَقْتَضِي إِنْزَالَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ مِنَ الْحُجَّةِ وَإِنْ تَصَرَّفَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَعَلَيْهَا بَنَى الْمُتَكَلِّمُونَ أُصُولَ الدِّينِ لِأَنَّ فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ تَرُدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ دُونَ السُّوَرِ الَّتِي تَذْكُرُ وَالْمَذْكُورَاتِ وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ بَيَانًا إِنْ شَاءَ اللهُ بِحَوْلِ الله تعالى وعَونِه.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.
(1)
قَوْلُهُ تَعَالَى: "الْحَمْدُ للهِ" الحمدُ هو الثناءُ بالجَميلِ على جِهَةِ التَعظيم والتَبْجيلِ، والحمدُ نقيضُ الذَمِّ. وهو أَعَمُّ مِنَ الشُكْرِ، لأنَّ الشُكْرَ يَكونُ مُقابِلَ النِّعمَةِ بينما يكون الحمدُ على صفاتٍ يتحلى بها المحمودُ، فأنت مَثلًا تحمدُ الرجلَ على شجاعتِه، وعلى علمِه، بينما تشكرُهُ على إحسانِه. والحمدُ يَكون باللِّسانِ، وأَمّا الشكر فيكونُ بالقَلْبِ، واللسان، والجوارح، وقد سبق لنا في ذلك بيان مستوفى في سورة الحمد (الفاتحة) وإنما أردنا هنا التذكير ببعض معاني هذه الكلمة. وفي ذلك تقريرٌ للحقيقة الأولى في الدين، وهي أنَّ المُستَحِقَّ للحمدِ المُطلَقِ، والثناءِ الكامِلِ هو رَبُّ العالمين. وإنَّما كان الحمدُ مقصورًا في الحقيقةِ على الله، لأنَّ كلَّ ما يَستَحِقُّ أنْ يُقابَل بالثَناءِ فهو صادِرٌ عنْه ومَرْجِعُهُ إليْهِ، فهو الخالقُ لِكلِّ شيءٍ، وما يُقَدَّمُ إلى بِعْضِ النَّاسِ مِنْ حَمْدٍ جَزاءَ إحْسانِهم، فهو في الحقيقةِ حَمْدٌ لله، لأنَّه ـ سبحانَه ـ هو الذي وفَّقَهم لِذلك، وأَعانَهم عليْه، وهو الموجدُ له أساسًا والمتفضِّلُ به على خلقه. فإذا عَرَفَ العبدُ المَحمودَ ـ جَلَّ جلالُه ـ بسِماتِ الجَمالِ وتَصَوَّرَهُ بأَقصى صِفاتِ الكَمالِ تَوَجَّهَ إلى تَمجيدِهِ ـ تَعالى ـ وتَحميدِه ـ عَزَّ شأنُه ـ بقطعِ النَّظرِ عمَّا سوى الذاتِ بعدَ الصُعودِ بدرَجاتِ المُشاهداتِ. وقد بَدَأَ ـ سُبْحَانَهُ وتعالى ـ فَاتِحَة َهَذِهِ السُورَةِ المُباركةِ بِالْحَمْدِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِثْبَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ لِذاتِهِ العَلِيَّةِ، أَيْ إِنَّ الْحَمْدَ كُلَّهُ لَهُ فَلَا شَرِيكَ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدِ افْتُتِحَ غَيْرُهَا بِالْحَمْدِ للهِ فَكَانَ الِاجْتِزَاءُ بِوَاحِدَةٍ يُغْنِي عَنْ سَائِرِهِ فَيُقَالُ: لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُ مَعْنًى فِي مَوْضِعِهِ لَا يُؤَدِّي عَنْهُ غَيْرُهُ مِنْ أَجْلِ عَقْدِهِ بِالنِّعَمِ الْمُخْتَلِفَةِ وَأَيْضًا فَلِمَا فِيهِ مِنَ الْحُجَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى (الْحَمْدِ) فِي الْفَاتِحَةِ.
قَوْلُهُ: {الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ فَقَالَ: الَّذِي خَلَقَ أَيِ اخْتَرَعَ وَأَوْجَدَ وَأَنْشَأَ وَابْتَدَعَ. وَالْخَلْقُ يَكُونُ بِمَعْنَى الِاخْتِرَاعِ وَيَكُونُ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَكِلَاهُمَا مُرَادٌ هُنَا وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى حُدُوثِهِمَا فَرَفَعَ السَّمَاءَ بِغَيْرِ عَمَدٍ وَجَعَلَهَا مُسْتَوِيَةً مِنْ غَيْرِ أَوَدٍ. وَجَعَلَ فِيهَا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَيْنِ وَزَيَّنَهَا بِالنُّجُومِ وَأَوْدَعَهَا السَّحَابَ وَالْغُيُومَ عَلَامَتَيْنِ وَبَسَطَ الْأَرْضَ وَأَوْدَعَهَا الْأَرْزَاقَ وَالنَّبَاتَ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كلِّ دابة آيات وجعل فِيهَا الْجِبَالَ أَوْتَادًا وَسُبُلًا فِجَاجًا وَأَجْرَى فِيهَا الْأَنْهَارَ وَالْبِحَارَ وَفَجَّرَ فِيهَا الْعُيُونَ مِنَ الْأَحْجَارِ دَلَالَاتٍ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ وَبَيَّنَ بِخَلْقِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أنه خالق كلِّ شيءٍ.
خَرَّجَ مُسْلِمٌ عن عبدِ اللهِ ابْنِ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِيَدَيَّ فَقَالَ: ((خَلَقَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَخَلَقَ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الجُمُعَةِ فيما بيْنَ العَصْرِ إلى اللَّيلِ)). وقد أَدْخَلَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْحَدِيثَ تَفْسِيرًا لِفَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَزَعَمَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ لِمُخَالَفَةِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَأَهْلُ التَّوَارِيخِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أُمَيَّةَ إِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ عَنْ حَدِيثِ أَبَى هُرَيْرَةَ: ((خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ)). فَقَالَ عَلِيٌّ: هَذَا حَدِيثٌ مَدَنِيٌّ رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِيَدَيَّ قَالَ عَلِيٌّ: وَشَبَّكَ بِيَدِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى فَقَالَ لِي: شَبَّكَ بِيَدِي أَيُّوبُ بْنُ خَالِدٍ وَقَالَ لِي شَبَّكَ بِيَدِي عَبْدُ اللهِ بْنُ رَافِعٍ وَقَالَ لِي: شَبَّكَ بِيَدِي أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَالَ لِي: شَبَّكَ بِيَدِي أَبُو الْقَاسِمِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: ((خَلَقَ اللهُ الْأَرْضَ يَوْمَ السَّبْتِ)) فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: وَمَا أَرَى إِسْمَاعِيلَ بْنَ أُمَيَّةَ أَخَذَ هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا مِنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ إِلَّا أَنَّ مُوسَى بْنَ عُبَيْدَةَ ضَعِيفٌ. وَرُوِيَ عَنْ بَكْرِ بْنِ الشَّرُودِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ ـ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا أَحَدٌ يَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ)) قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ: إِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ ابْتَدَأَ الْخَلْقَ فَخَلَقَ الْأَرْضَ يَوْمَ الْأَحَدِ ويوم الاثنين وخلق السموات يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَخَلَقَ الْأَقْوَاتَ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ وَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ خَلَقَ آدَمَ خَرَّجَهُ الْبَيْهَقِيُّ. قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَدَأَ الْخَلْقَ يَوْمَ الْأَحَدِ لَا يَوْمَ السَّبْتِ وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي "الْبَقَرَةِ" عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَقَدَّمَ فِيهَا الِاخْتِلَافُ أَيُّهمَا خُلِقَ أَوَّلًا الْأَرْضُ أَوِ السماءُ مُستوفًى. والحمدُ لله.
قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} ذَكَرَ بَعْدَ خَلْقِ الْجَوَاهِرِ خَلْقَ الْأَعْرَاضِ لِكَوْنِ الْجَوْهَرِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ وَمَا لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ. وَالْجَوْهَرُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ الْحَامِلُ لِلْعَرَضِ. وَسُمِّيَ الْعَرَضُ عَرَضًا لِأَنَّهُ يَعْرِضُ فِي الْجِسْمِ وَالْجَوْهَرِ فَيَتَغَيَّرُ بِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَالْجِسْمُ هُوَ الْمُجْتَمَعُ وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجِسْمِ جَوْهَرَانِ مُجْتَمِعَانِ وَهَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا مَعْنَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهَا. وَقَدِ اسْتَعْمَلَهَا الْعُلَمَاءُ وَاصْطَلَحُوا عَلَيْهَا وَبَنَوْا عَلَيْهَا كَلَامَهُمْ وَقَتَلُوا بِهَا خُصُومَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي "الْبَقَرَةِ". والظلمات: الليل، والنور النهار، والضوء الذي في الشمس والقمر وغيرهما، وإنما أفرد النورَ لأنَّه أراد الجنس، وفي الآية ردٌّ على المجوس في عبادتهم للنار وغيرها من الأنوار، وقولهم: إن الخير من النور والشر من الظلمة؛ فإن المخلوق لا يكون إلهًا ولا فاعلًا لِشيءٍ مِنَ الحوادث. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ فَقَالَ السُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ سَوَادُ اللَّيْلِ وَضِيَاءُ النَّهَارِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ. قُلْتُ: اللَّفْظُ يَعُمُّهُ وَفِي التَّنْزِيلِ: {أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ} الأنعام: 122. وَالْأَرْضُ هُنَا اسْمٌ لِلْجِنْسِ فَإِفْرَادُهَا فِي اللَّفْظِ بِمَنْزِلَةِ جَمْعِهَا وَكَذَلِكَ" وَالنُّورَ" وَمِثْلُهُ" ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا" غافر: 67. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا ................... فإنَّ زمانَكمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قُلْتُ: وَعَلَيْهِ يَتَّفِقُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي النَّسَقِ فَيَكُونُ الْجَمْعُ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَمْعِ وَالْمُفْرَدُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُفْرَدِ فَيَتَجَانَسُ اللَّفْظُ وَتَظْهَرُ الْفَصَاحَةُ وَاللهُ أَعْلَمُ وَقِيلَ: جَمَعَ "الظُّلُماتِ" وَوَحَّدَ "النُّورَ" لِأَنَّ الظُّلُمَاتِ لَا تَتَعَدَّى وَالنُّورَ يَتَعَدَّى. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْمَعَانِي قَالَ: "جَعَلَ" هُنَا زَائِدَةً وَالْعَرَبُ تَزِيدُ "جَعَلَ" فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَقَدْ جَعَلْتُ أَرَى الِاثْنَيْنِ أَرْبَعَةً ........... وَالْوَاحِدَ اثْنَيْنِ لَمَّا هدني الكِبَرُقَالَ النَّحَّاسُ: جَعَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى خَلَقَ لَمْ تَتَعَدَّ إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى وَمَحَامِلُ جَعَلَ فِي (الْبَقَرَةِ) مُسْتَوْفًى.
قَوْلُهُ: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} الْمَعْنَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَجْعَلُونَ للهِ عَدْلًا وَشَرِيكًا وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَحْدَهُ. فخلقُه السمواتِ وَالْأَرْضَ قَدْ تَقَرَّرَ وَآيَاتَهُ قَدْ سَطَعَتْ وَإِنْعَامَهُ بِذَلِكَ قَدْ تَبَيَّنَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ عَدَلُوا بِرَبِّهِمْ فَهَذَا كَمَا تَقُولُ: يَا فُلَانُ أَعْطَيْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ وَأَحْسَنْتُ إِلَيْكَ ثُمَّ تَشْتُمُنِي وَلَوْ وَقَعَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ لَمْ يلزم التوبيخُ كَلُزومِهِ بـ "ثُمَّ" والله أعلم.
قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظلماتِ والنُّورَ} جَعَلَ: هنا تتعدَّى لِمَفعولٍ واحدٍ لأنَّها بمعنى خلقَ، والخَلْقُ فيه مَعنَى التقديرِ والإيجادِ مِنَ العَدَمِ، والجَعْلُ فيه معنى التَصْيِيرِ لشيءٍ منْ شيءٍ، أوْ نقلِهِ مِنْ مكانٍ إلى آخر، ومن ذلك: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} الأعراف: 189. "وَجَعَلَ الظلماتِ والنُّورَ" لأنَّ الظُلمات مِنْ الأَجرامِ المُتكاثِفَةِ والنّور مِنَ النار. و"جَعَل" هنا هي التي تتصرف في طَرَف الكلام فكأنَّه قال: "وجعل إظلامَها وإنارتَها".
وإنَّما وَحَّد النُّورَ وجَمَعَ الظلماتِ لأنَّ النورَ مِنْ جِنْسٍ واحدٍ وهو النار، والظُلُماتُ كَثيرةٌ، فإنَّ ما مِن جِرْمٍ إلَّا ولَه ظِلُّ، وظلُّه هو الظُلْمةُ، وحَسَّنَ هذا أيضًا أنَّ الصِلةَ التي قبلَها تقدَّم فيها جَمْعٌ ثمَّ مُفرَدٌ فعُطِفْتَ هذه عليها كذلك، وقد تقدَّم في سورة البقرة الحِكْمةُ في جَمْعِ السَماوات وإفْرادِ الأَرْضِ. وقُدِّمَتِ "الظُلُماتُ" في الذِّكرِ لأنَّه مُوافِقٌ في الوُجُودِ؛ إذِ الظُلمةُ قبلَ النورِ عندَ الجُمهورِ. و"ألـ" في "الحمدِ" للاستغراقِ، بمعنى أنَّ المُستَحِقَّ لِجميعِ المَحامِدِ ولِكافَّةِ أَلْوانِ الثَناءِ هوَ اللهُ تعالى.
قولُه: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ} ثم: هنا للتَراخي بين الرتبتين وليستْ للترتيبِ الزَمانيِّ، والمُرادُ اسْتبعادُ أنْ يَعْدِلوا بِهِ غيرَه مَعَ ما أَوْضَحَ مِنَ الدَّلالاتِ. وهذه عطفٌ: إمَّا على قولِهِ "الحمد لله" وإمَّا على قولِه: "خلق السماوات" ومعنى "ثم" اسْتِبْعادُ أنْ يَمْتَرُوا فيه بعدَ ما ثَبَتَ أَنَّهُ مُحييهم ومُميتُهم وباعثُهم" فإنَّ خَلْقَهُ للسماواتِ والأرضِ وغيرِهِما قدْ تَقَرَّرَ، وآياته قد سَطَعَتْ، وإنْعامه قد تبيَّن، ثمَّ معَ هذا كلِّه يَعْدِلونَ بهِ غَيرَه فإنَّ "ثم" هنا دالَّةٌ على قُبْحِ فِعْلِ الذين كفروا. والاستبعادُ والتوبيخُ مستفادٌ من السياق أيضًا و"ثمَّ" عاطفةٌ جملةً اسمِيَّةً على جُمْلةٍ اسْمِيَّةٍ وهي "الحَمْدُ لله".
قولُه: {بِرَبِّهِمْ} يَجوزُ أنْ يتعلَّقَ بِـ "كفروا" فيَكون "يُعْدِلون" بمعنى يَميلون عنْه، وهو مِنَ العُدولِ، ولا مفعولَ لَهُ حِينئِذٍ، ويَجوزُ أنْ يَتَعلَّقَ بـ "يعدِلون" وقُدِّمَ للفَواصِلِ، وفي الباءِ حِينئذٍ احْتِمالان، أَحَدُهُما: أَنْ تَكونَ بمَعنى عن، و"يَعْدِلون" مِنَ العُدولِ أيضًا، أي يعدِلون عن ربِّهم إلى غيرِه. والثاني: أَنَّها للتَعْدِيَةِ، ويَعْدِلون من العَدْل وهو التَسْوِيَةُ بيْنَ الشَيْئَيْنِ، أيْ: ثُمَّ الذين كَفَروا يُسَوُّوْن بِرَبِّهم غيرَه مِنَ المَخْلوقين، فيَكونُ المَفعولُ مَحذوفًا.