فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ.
(44)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَمَّا أَنْذَرَهُمْ بِهِ رُسُلُهُمْ، وَتَرَكُوا الاهْتِدَاءَ بِهِ، وَتَنَاسُوْهُ وَجَعَلُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، ولقد ذُمُّوا عَلَى النِّسْيَانِ لأَنَّ "نَسُوا" بِمَعْنَى تَرَكُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ، وَرَدَ ذلك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ، وَذَلِكَ لأَنَّ التَّارِكَ لِلشَّيْءِ إِعْرَاضًا عَنْهُ قَدْ صَيَّرَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا قَدْ نُسِيَ، كَمَا يُقَالُ: تَرَكَهُ. فِي النَّسْيِ. أو لأَنَّهُمْ تَعَرَّضُوا لِلنِّسْيَانِ فَجَازَ الذَّمُّ لِذَلِكَ، كَمَا جَازَ الذَّمُّ عَلَى التَّعَرُّضِ لِسَخَطِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وعِقابِه.
وقولُه: {فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ} أَيْ كَثَّرْنَا لَهُمْ ذَلِكَ مِنَ خَيْراتٍ ونِعَمٍ، اسْتَدْرَاجًا لهُمُ من اللهُ تَعَالَى، ففَتَحَ عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الرِّزْقِ، وَأَعْطَاهُمْ مِنْ كُلِّ مَا يُحِبُّونَ وَيَخْتَارُونَ، وَزَادَهُمْ سِعَةً فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ، فَلَمْ تُرَبِّهِم النِّعْمَةُ، وَلا شَكَرُوا اللهَ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ، بَلْ دَفَعَتْهُمْ تِلْكَ النِّعْمَةُ إلى البَطَرِ وَالأَشَرِ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ وَسُرُّوا، إذْ ظَنُّوا أنَّ الذِي أُوتُوه إِنَّمَا هُوَ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ، وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شيءٍ كَانَ مُغْلَقًا عَنْهُمْ.
قولُهُ: {حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا} مَعْنَاهُ بَطِرُوا وَأَشِرُوا وَأُعْجِبُوا وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ الْعَطَاءَ لا يَبِيدُ، وَأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى رِضَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمْ وَحِينَئِذٍ أَخَذَهُمُ اللهُ بِالعَذَابِ بَغْتَةً، وَعَلَى حِينِ غِرَّةٍ مِنْهُمْ، فَإذَا هُمْ يَائِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ.
قولُهُ: {أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً} أَيِ اسْتَأْصَلْنَاهُمْ وَسَطَوْنَا بِهِمْ. وَ"بَغْتَةً" مَعْنَاهُ فَجْأَةً، وَهِيَ الأَخْذُ عَلَى غِرَّةٍ وَمِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ أَمارةٍ، فإذا أُخِذَ الإنسانُ وَهُوَ غَارٌّ غَافِلٌ فَقَدْ أُخِذَ بَغْتَةً، وَأَنْكَى شيءٍ مَا يَفْجَأُ مِنَ الْبَغْتِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ التَّذْكِيرَ الَّذِي سَلَفَ فَأَعْرَضُوا عَنْهُ قَامَ مَقَامَ الإِمَارَةِ فَكَانَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا مِنَ اللهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} الأَعْرافُ: 183. نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سَخَطِهِ وَمَكْرِهِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: رَحِمَ اللهُ عَبْدًا تَدَبَّرَ هَذِهِ الآيَةَ "حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ الْحَارِثِيُّ: أُمْهِلَ هَؤُلاءِ الْقَوْمُ عِشْرِينَ سَنَةً. وَرَوَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِذَا رَأَيْتُمُ اللهَ تَعَالَى يُعْطِي الْعِبَادَ مَا يَشَاءُونَ عَلَى مَعَاصِيهِمْ فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ لَهُمْ)) ثُمَّ تَلا "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ .." إلى آخرِ الآيَةِ كُلِّهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَاللهِ مَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بَسَطَ اللهُ لَهُ فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يَخَفْ أَنْ يَكُونَ قَدْ مُكِرَ لَهُ فِيهَا إِلا كَانَ قَدْ نَقَصَ عَمَلُهُ، وَعَجَزَ رَأْيُهُ. وَمَا أَمْسَكَهَا اللهُ عَنْ عَبْدٍ فَلَمْ يَظُنَّ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ فِيهَا إِلا كَانَ قَدْ نَقَصَ عَمَلُهُ، وَعَجَزَ رَأْيُهُ. وَفِي الْخَبَرِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَلامُ: (إِذَا رَأَيْتَ الْفَقْرَ مُقْبِلا إِلَيْكَ فَقُلْ مَرْحَبًا بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ وَإِذَا رَأَيْتَ الْغِنَى مُقْبِلاً إِلَيْكَ فَقُلْ ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ). و قَالَ قُتَادَةُ: مَا أَخَذَ اللهُ قَوْمًا قَطُّ إلاَّ عِنْدَ سَكْرَتِهِمْ، وَغِرَّتِهِمْ، وَنِعْمَتِهِمْ فَلا تَغْتَرُّوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ} الْمُبْلِسُ الْبَاهِتُ الْحَزِينُ الآيِِسُ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي لا يُحرِّرُ جَوَابًا لِشِدَّةِ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ سوءِ الحالِ، قالَ العَجَّاجُ:
يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسًا ................. قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
أَيْ تَحَيَّرَ لِهَوْلِ مَا رَأَى، وَمِنْ ذَلِكَ اشْتُقَّ اسْمُ إِبْلِيسَ، أَبْلَسَ الرَّجُلُ سَكَتَ، وَأَبْلَسَتِ النَّاقَةُ وَهِيَ مِبْلاسٌ إِذَا لم تَرْغُ مِنْ شِدَّةِ الضَبْعةِ، من ضَبَعَتِ النَّاقةُ تَضْبَعُ ضَبَعَةً وَضَبْعًا إِذَا أَرَادَتِ الْفَحْلَ. والمُكْرَسُ أَبوالُ الإبِلِ وأَبعارُها يَتَلَبَّدُ بعضُها على بعضٍ في الدارِ أو الدِمَنِ.
قولُه تعالى: {فَتَحْنَا} قرَأَ الجُمهورُ "فَتَحْنا" مخفَّفًّا، وقرأ ابْنُ عامرٍ "فتَّحنا" مُثَقَّلاً، والتَثقيلُ مُؤْذِنٌ بالتَكْثيرِ؛ لأَنَّ بَعدَهُ "أبوابَ" فناسَبَ التَكثيرَ، والتَخفيفُ هو الأَصْلُ. وقرَأَ ابْنُ عامرٍ أيْضًا في الأَعْرافِ: {لَفَتَحْنَا} الآية: 96. وفي القَمَرِ: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ} الآية: 11. بالتَشديدِ أيضًا، وشَدَّدَ أيضًا {فُتِحَتْ يَأْجُوجُ} الأنبياء: 96. والخلافُ أَيْضًا في {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} الآيتين: 71 ، 73. في الزُمَر في الموضِعين، {وَفُتِحَتِ السماءُ} الآية: 19. في النَّبأ، فإنَّ الجَماعةَ وافقوا ابْنَ عامرٍ على تشديدِها، ولم يَقْرَأْها بالتَخفيفِ إلاَّ الكُوفِيُّون، فقد جَرى ابْنُ عامرٍ على نمطٍ واحدٍ في هذا الفعلِ، والباقون شَدَّدوا في المواضِعِ الثَلاثةِ المُشارِِ إليها، وخفَّفوا في الباقي جَمْعًا بين اللُّغتين.
قولُه: {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} إذا: هي الفُجائيَّةُ وفيها ثلاثةُ مَذاهِبَ مَذهَبُ سيبويْهِ أَنها ظَرْفُ مكانٍ، ومَذْهَبُ جماعةٍ منهم والرِّياشِيِّ أَنها ظَرْفُ زمانٍ، ومذهب الكوفيين أنها حرف. فعلى تقديرِ كونها ظَرْفًا مَكانًا أوْ زمانًا الناصبُ لها خبرُ المبتدأ، أي أُبْلِسوا في مكان إقامَتِهم أو في زَمانها. والإِبلاسُ: الإِطراقُ، وقيلَ: هو الحُزْنُ المعتَرِضُ منْ شِدَّةِ البأسِ، ومنه اشْتُقَّ "إبليس" وقد تقدَّم في موضِعه وهل هو أَعجَميٌّ أمْ لا؟.
قولُه: {فَقُطِعَ دَابِرُ} الجمهور على "فَقُطِع" مَبْنيًّا للمفعول. "دابر" مرفوع به. وقرأ عِكرِمَةُ: "قَطَعَ" مَبْنِيًّا للفاعل وهو الله تعالى، "دابرَ" مفعول به، وفيه التفاتٌ، إذ هو خروجٌ منَ تَكَلُّمٍ في قولِه: "أخذناهم" إلى غيبةٍ. والدابِرُ: التابعُ مِنْ خلفٍ، يُقالُ: دَبَر الولدُ والدَه، ودَبَر فلانٌ القومَ يَدْبُرُهم دُبُورًا ودَبْرًا. وقيل: الدابِر: الأصلُ، يُقالُ: قَطَعَ اللهُ دابِرَه أي: أصلَه، قال الأصمعي. وقال أبو عبيد: "دابرُ القومِ آخرُهم"، وأنشدوا لأميَّةَ بْنِ أبي الصَلْتِ:
فاستُؤْصِلوا بعذابٍ حَصَّ دابِرَهُمْ ... فما استطاعوا له صَرْفاً ولا انتصرواومنه: دَبَرَ السهمُ الهدفَ أي: سقَطَ خلفَه.