وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ.
(66)
قَوْلُهُ تَعَالَى شأنُه: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} أَيْ كذَّب قومُكَ بِالْقُرْآنِ، أو بالعذابِ الذي توعَّدهمُ اللهُ به وهو رأي أكثر المفسِّرين. و"قَوْمِكَ" أيْ قُريش، وقيل: هُمْ وسائرُ العَرَبِ، وأيّاً مَا كان فالمُرادُ المُعانِدونَ منهم، وقولُه: "قومُك" إيذانٌ بسوءِ حالهم فإنَّ تكذيبَهم له صلى اللهُ عليه وسلّمَ معَ كونِهم مِنْ قومِه يَدُلُّ على مدى عُتُوِّهِم ومُكابَرَتِهم، فهم يعرفونه ويعرفون صدقه وقد كانوا يلقبونه قبل ذلك بالصادق الأمين، "وَهُوَ الْحَقُّ" أَيِ فيه الْقَصَصُ الْحَقُّ.
قولُه: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} قَالَ الْحَسَنُ المعنى: لَسْتُ بِحَافِظٍ أَعْمَالَكُمْ حَتَّى أُجَازِيَكُمْ عَلَيْهَا، إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَقَدْ بَلَّغْتُ، ونَظِيرُهُ {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} الأنعام: 104. أَيْ أَحْفَظُ عَلَيْكُمْ أَعْمَالَكُمْ. ثُمَّ قِيلَ: هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ. وَقِيلَ: لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ، عليه الصلاةُ والسلامُ، إِيمَانُهُمْ.
قولُهُ تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ} الهاء في "به" تعود على العذابِ المُتَقَدِّمِ في قولِهِ: {عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} وقيلَ: تَعودُ على النَّبي، صلى الله عليه وسلَّمَ، وهذا بعيدٌ لأنَّه خُوطِبَ بالكافِ عَقِيبَهُ، فلو كان كذلك لَقالَ: "وكذَّبَ بِهِ قَومُكَ. وادِّعاءُ الالْتِفاتِ فيهِ أَبْعَدُ، وقيلَ أيضاً: تعودُ على القرآنِ، وقيلَ: تعودُ على الوَعيدِ المُتَضَمَّنِ في هذه الآياتِ المتقدِّمَةِ. وقيل: لا بُدَّ مِنْ حَذفِ صِفَةٍ هنا كأن يكون: وكذَّبَ به قومُكَ المُعانِدون، أو الكافرون، لأنَّه لم يُكذِّبه كلُّ قومِهِ، كقوله تعالى مخاطباً نبيَّه نوحاً عليْه السَّلامُ: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} هود: 46، أي: إنّه ليس من أهلِكَ الناجين، لأنَّه كان في أهله من هو من الناجين. وحَذْفُ الصِفَةِ وبَقاءُ المَوصوفِ قليلٌ جِدّاً بخلافِ العَكْسِ.
وقرأَ ابْنُ عَبْلَةَ: "وكَذِّبَتْ" بتاءِ التأنيثِ، كقولِهِ تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ
نُوحٍ} الشعراء: 105. وكقولِه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} القَمَر: 33. باعتبارِ
الجَماعةِ.
قولُه: {وَهُوَ الحقّ} جملة مستأنَفةٌ، أو هي حالٌ مِنَ الهاءِ في "به" أي: كذَّبوا بِهِ في حالِ كونِهِ حَقّاً.
قولُهُ: {عَلَيْكُمْ} متعلِّقٌ بما بعدَهُ وهو توكيدٌ وقُدِّمَ لأجْلِ الفَواصِلِ، ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً مِنْ قولِه: "بوكيل"؛ لأنَّه لو تَأَخَّرَ لجازَ أنْ يَكونَ صفةً لَه، وهذا عندَ مَنْ يُجيزُ تقديمَ الحالِ على صاحبِها المجرورِ بالحَرْفِ، وهو كقولِه:
غافلاً تُعْرَضُ المَنِيَّةُ للمَرْ ....................... ءِ فيُدْعَى ولات حين إباءُ
فقدَّمَ "غافلاً" على صاحبِها وهو "المرء" وعلى عامِلِها وهو "تُعرَضُ" فهذا أَوْلى. ومنه أيضاً قولُ كُثَيِّرِ عَزَّةَ:
لَئِنْ كان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صادياً .................... إليَّ حبيباً إنها لحبيبُ
أي: إليَّ هيمانَ صادِياً، ومثلُه:
فإن يك أذوادٌ أُصِبْنَ ونسوةٌ ............... فَلَنْ يذهبوا فَرْغاً بقتل حبالِ
"فرْغاً" حال من "بقتل" و"حبال" بالمهملة اسمُ رَجُلٍ، مَعَ أَنَّ حرفَ الجَرِّ هُنا زائدةٌ فجَوازُهُ أَوْلى مِنْ ما ذَكَرْنا.