وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ
( قولُهُ ـ جَلَّ مِنْ قائلٍ: {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أيْ قالوا هَلّا أُنزِلَ علينا مَلَكٌ نَراهُ ويُكَلِّمُنا أنَّكَ نَبيٌّ حَقٌّ حتّى نؤمِنَ بكَ ونَتَّبِعَك، وقولُهم هذا دليلٌ على إيمانهم بوجودِ المَلائكةِ، وأَنَّ في أَعْماقِهم رَواسِبُ مِنْ دينِ إبراهيمَ ودينِ إسماعيلَ ـ عليهِما السلامُ، وقد بَقيتْ تِلكَ الآثارُ في نُفوسهم لأنَّها لا تَمَسُّ سيادتَهم وكبرياءهم ولا تنقص من أمولهم وجاههم شيئًا، أما دينُ الإسلامِ الذي جاء به محمّدٌ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ فقد رفضوه لأنه يأمر بالمساواة بينَهم وبيْنَ عَبيدِهم، إذْ لَيسَ فيه عبدٌ وسَيِّدٌ، أو سيّدٌ ومَسودٌ، وهذا مِنْ شأنِه أَنْ يَحُدَّ مِنْ نُفوذِهم وجاهِهم، ويُفقدَهم الكَثيرَ مِنِ امْتيازاتهم ومكاسِبِهم، وقولُهم هذا نوعٌ آخرُ مِنْ أَنْواعِ جُحودِهم لِنُبُوَّتِه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ وكفرِهِم بها، واسْتِئنافٌ لِبيانِ قَدْحِهم بِنُبُوَّتِه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ بما هو أصْرَحُ مِنَ الأوَّلِ، وهي مِنْ أَباطيلِهم وخُرافاتهم التي يَتَعلَّلون بها كلَّما ضاقتْ عليهِمُ الحِيَلُ، والمقصود به التوبيخ. فقد أَخرجَ ابْنُ المُنذِرِ وابْنُ أَبي حاتِمٍ عن مُحَمَّدٍ بْنِ إسْحَقَ قال: (دعا رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ قومَهُ إلى الإسلامِ وكلَّمَهم فأبْلَغَ إليْهم فيما بَلَغَني فقالَ لَهُ زَمَعَةُ بْنُ الأَسْوَدِ بْنِ المُطَّلِبِ، والنَّضْرُ بْنُ الحَرْثِ بْنِ كِلْدَةَ، وعَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ يَغوثَ، وأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ بْنِ وَهْبٍ، والعاصُ بْنُ وائلٍ بْنِ هِشامٍ: لو جُعِلَ مَعَكَ يا مُحَمَّدُ مَلَكٌ يُحَدِّثُ عَنْكَ النَّاسَ، ويَرى مَعَكَ. فأَنزَلَ اللهُ ـ سبحانَه وتعالى قولَه: "وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ.." أيْ هَلَّا أُنْزِلَ عليْهِ مَلَكٌ يَكونُ مَعَه يُحدِّثُ النّاسَ عنْه ويُخْبِرُهُم أَنَّهُ رَسولٌ مِنْ رَبِّهِ إليهم، وهو نَظيرُ قولِه تعالى: {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} الفرقان: 7. ومدارُ هذا الاقتراح على إنْزالِ المَلكِ على صورتِهِ وجعلِه مَعَه يُحَدِّثُ الناسَ عنْه ويُنذِرُهم. وقد أجيبوا عن ذلك بقولِهِ تعالى: "وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا" أيْ على صورتِهِ الحَقيقيَّةِ فشاهدوهُ بأَعْيُنِهِم "لَقُضِيَ الأمرُ" بِهَلاكِهم، قال مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: أيْ لَقَامَتِ السَّاعَةُ. أيْ لأَهْلَكناهم إذا لم يُؤمِنوا عِنْدَ نُزولِهِ ورُؤْيَتِهم لَهُ لأنَّ مِثلَ هذه الآيةِ البَيِّنَةِ، وهيَ نُزولُ المَلَكِ على تلك الصِفَةِ إذا لم يَقَعِ الإيمانُ بعدَها فَقدِ اسْتَحَقّوا الإهلاكَ والعقوبَةَ العاجلةَ، وهي سُنَّةُ اللهِ في الكُفّارِ أَنَّهم مَتَى سألوا آيةً ثمَّ لم يؤمِنوا بعدَها عذِّبوا واستُؤصِلوا. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَأُهْلِكُوا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، لِأَنَّ اللهَ أَجْرَى سُنَّتَهُ بِأَنَّ مَنْ طَلَبَ آيَةً فَأُظْهِرَتْ لَهُ فَلَمْ يُؤْمِنْ أهلكه الله في الحال. أوْ لَتَمَّ أَمْرُ إهْلاكِهِم بِسَبَبِ مُشاهَدَتِهم للملَكِ لِهَوْلِ المَنْظَرِ. فهم غيرُ مؤهَّلين لِرؤيَتِهِ، ولأنَّ مُجرَّدَ النَّظرِ إليه يَصْعَقُهم. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: لَوْ رَأَوْا الْمَلَكَ عَلَى صُورَتِهِ لَمَاتُوا إِذْ لَا يُطِيقُونَ رُؤْيَتَهُ. فالأنبياءُ ـ عليهم الصلاةُ والسَلامُ ـ إنَّما رَأَوا المَلَكَ في صُورةِ البَشَرِ ولَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنْهُم على صورتِهِ الحقيقيَّةِ غَيْرُ مُحَمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ـ فقد رآهُ مرَّةً في الأرْضِ ومَرَّةً في السَماءِ، كما قيلَ، فقد رَوى التِرمِذِيُّ وصحَّحَهُ عنِ السيدةِ عائشةَ ـ رَضيَ اللهُ تَعالى عنها ـ أنَّ النَبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ رأى جِبريلَ ـ عليه السلامُ ـ مرتيْن على صورتِهِ الأَصليَّةِ، ولَيْسَ فيهِ أنَّ أَحَدًا مِنْ إخوانِه الأنْبياءِ ـ عليهمُ السلامُ ـ لم يَرَهُ كذلك، ولم يَرِدْ هذا في شيءٍ مِنْ كُتُبِ الآثارِ، وخبرُ الخَصْميْنِ والأَضْيافِ لإبْراهيمَ ولُوطَ وداوودَ ـ عليهِمُ السلامُ ـ ليْسَ فيهِ دَلالةٌ على أَكْثَرِ مِنْ رُؤيَةِ هؤلاءِ الأَنْبياءِ للملائكةِ بِصورَةِ الآدَمِيّين، وهيَ لا تَسْتَلْزِمُ أنَّهم لا يمكن أن يَرَونَهم إلَّا كذلكَ فهي أمرٌ جائزٌ عقلًا ولله أن يفعل ما يشاء وأنْ يكرمَ مَنْ شاءَ من عبادِه بما شاء من فضلِه، وإلَّا للزم من رؤيةِ نَبِيِّنا ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ جِبريلَ ـ عليهِ السلامُ ـ بِصورةِ دُحْيَةَ الكَلْبِيِّ ـ رضيَ اللهُ تَعالى عنه ـ عدَمَ رُؤيتِه له إلَّا بالصورةِ الآدميَّةِ وهو خلافُ الصحيحِ من الأَخبارِ ـ كما سَلَفَ.
قولُه: {ثمَّ لا يُنْظَرون} أيْ لا يُمْهَلون بَعدَ نُزولِهِ ومُشاهدتهم له طرفةَ عيْنٍ لِتَوبةٍ أوْ مَعْذِرَةٍ، بَلْ يُعَجَّلُ لَهُمُ العذابُ، فَيَبْطُلُ ما أَرْسَلَ اللهُ لَهُ رُسُولَهُ وأَنْزَلَ بِهِ كتابَه مِنَ التَكليفِ الذي كَلَّفَ بِهِ عِبادَهُ لِيَبْلُوَهم أَيُّهم أَحْسَنُ عَمَلًا ولِيَظْهَرَ فضلُ مَنْ يُؤمِنُ بالغيبِ بعدَما اسْتَعْمَلَ عقلَه ففَكَّرَ في الآياتِ والمعجزاتِ وتَدَبَّرَ فهداه عقلُه السَوِيُّ وتَفكيرُه السليمُ إلى الإيمان، أمَّا إذا أنزلَ اللهُ المَلَكَ كما ـ يطلبون ـ فلن يَبْقى بعدَ المُعاينةِ مجالٌ للعَقلِ ولا للتدبُّرِ ولا ميزة للإيمانِ بالغيبِ الذي وَعَدَ اللهُ عليه عبادَهُ الأجْرَ العَظَيمَ والثوابَ الجَزيلَ في الآخرة، والعيشةَ الطيبة في الدنيا. وجَعَلَ عَدَمَ الإنْظارِ أَشَدَّ مِنْ قَضاءِ الأَمْرِ لأنَّ مُفاجأةَ العذابِ أَشَدُّ مِنْ نَفسِ العَذابِ وأَشَقُّ.
قولُهُ تعالى: {وَقَالُواْ لولا} جُملةٌ مُستأنَفَةٌ سِيْقَتْ للإِخبارِ عنْ فَرْطِ تَعَنُّتِهم وتَصَلُّبِهم في كُفْرِهِمْ. ويَجوزُ أنْ تَكونَ مَعطوفةً على جَوابِ "لو" أي: لو نَزَّلْنا عليك كِتابًا لَقالوا: "لولا أُنْزِل عليه مَلَك". و"لولا" هنا تحضيضيَّةٌ، وقيلَ جِيءَ بالجَوابِ على حذفِ اللّامِ مِنَ المُثْبَتِ، وفيه بُعْدٌ، لأنَّ قولَهم "لولا أُنْزل" ليس مُتَرتِّبًا على قولِه: "وَلَوْ أَنزَلْنَا"، والضَميرُ في "عليه" يعودُ على النبيِّ ـ صلى الله عليْه وسَلَّم، وهو الظاهرُ. وقيل: يَجوزُ أنْ يَعودَ على الكتابِ أوِ القِرطاسِ، والمعنى: لولا أُنْزل على الكتابِ مَلَكٌ لَشَهِدَ بِصِحَّتِه، كما يُرْوى في القِصَّةِ أنه قيلَ: لَهُ لَنْ نُؤمِنَ حتّى تَعرُجَ فتَأتيَ بكتابٍ، ومعَه أَربعةُ مَلائكةٍ يَشهَدون، وهذا على رأيِ مَنْ يَقولُ: إنَّ جُمْلةَ: "وقالوا: لولا أُنْزلَ" معطوفةٌ على جوابِ "لو"، فإنَّه يَتَعَلَّقُ بِه حينئذٍ مِنْ حَيْثُ المعنى.
وبناءُ الفعلِ الأوَّلِ في الجَوابِ للفاعِلِ مُسْنَدًا إلى نونِ العَظَمَةِ "أنزلنا" مَعَ كونِهِ في السُؤالِ مَبْنِيًّا للمَفعولِ "أُنْزِلَ" لِتهويلِ الأمْرِ وتَرْبِيَةِ المَهابَةِ، وبِناءُ الثاني للمَفعولِ "لَقُضِيَ" جَريٌ على سنَنِ الكِبْرياءِ.