فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ
(5)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} ضميرُ الرَّفعِ في "كذّبوا"، أيْ واوُ الجَماعةِ يَرْجِعُ إلى مُشْرِكِي مَكَّةَ و"الْحَقِّ" الذي كَذَّبوا به هو الْقُرْآنُ الكريمُ، وَقِيلَ: مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهم لم يَكْتَفوا بتَكذيبِ الحَقِّ إذْ جاءَهم على لِسانِ الرَسولِ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ وبِما اشْتَمَلَ عليْه القرآنُ الكريمُ مِنْ حَقائقَ ثابِتَةٍ بَلْ تَجاوَزوا إنْكارَ الحَقِّ إلى الاسْتِهْزاءِ بأَهْلِهِ، والسُخْرِيَةِ بِمُعْتَنِقيه؛ ولذلك قالَ ـ سُبحانَه: "فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئونَ" فإنَّ هذا النَصَّ الكريمَ يُشيرُ إلى إخْبارٍ بالاسْتِهْزاءِ مَطْوِيٍّ قدْ أَغنى عَنْ ذِكْرِهِ ما بعدَهُ في ثنايا القولِ الحَكيمِ، وهذا تهديدٌ لهم بأنَّه سَيَنْزِلُ بِهمْ عذابٌ شديدٌ هو نتيجةٌ لاستهزائهم هذا وثمرةٌ له.
قولُه: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ} أَيْ يَحِلُّ بِهِمِ العقاب، وأرادَ بالإنباءِ وَهِيَ أَخْبَارُ الْعَذَابَ، كَقَوْلِكَ: اصْبِرْ وَسَوْفَ يَأْتِيكَ الْخَبَرُ أَيِ الْعَذَابُ، وَالْمُرَادُ مَا نَالَهُمْ يَوْمَ بدرٍ ونحوُه. وقيلَ: يومُ القيامةِ.
قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُواْ} الفاء هنا للتعقيب، يَعْني أَنَّ الإِعْراضَ عَنِ الآياتِ أَعْقَبَهُ التَكْذيبُ. وقيل: "فقد كذَّبوا" مَردودٌ على كلامٍ مَحذوفٍ، والتقدير: إنْ كانوا مُعْرِضين عن الآياتِ فقدْ كذَّبوا بما هو أعظمُ آيةٍ وأَكبرُها. ولا ضَرورةَ تدعو إلى هذا مَعَ انْتِظامِ الكلامِ.
وقولُهُ: {بالحقِّ} مِنْ إقامَةِ الظاهِرِ مُقامَ المُضْمَرِ، إذِ الأَصْلُ: فقد كذَّبوا بها، أيْ بالآيَاتِ. والأنباءُ جمعُ نَبَأٍ، وهو ما يَعْظُم وَقْعُهُ مِنَ الأَخْبارِ. وفي الكلامِ حذفٌ، أيْ يَأتيهِم مَضمونُ الأنْباءِ. و"به" مُتعلِّقٌ بِخَبَرِ "كانوا". و"لمَّا" حرفُ وُجوبٍ أَوْ ظرفُ زَمانٍ، والعاملُ فيه "كَذَّبوا". ويَجوزُ أنْ تَكونَ "ما" موصولةً اسْمِيَّةً، والضميرُ في "به" عائدٌ عليها، ويَجوزُ أنْ تَكونَ مَصْدَرِيَّةً، قالَ ابْنُ عَطيَّةَ، أيْ أَنْباءُ كونِهم مُستهزئين، وعلى هذا فالضميرُ لا يَعودُ عليْها لأنَّها حَرْفيَّةٌ، بلْ يَعودُ على الحَقِّ، وهي عندَ الأخفشِ اسمٌ لذلك فالضميرُ يَعودُ عليْها.