وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.
(21)
قولُهُ ـ جَلَّ شأنُه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِبًا} الاستفهامُ هنا لاسْتِعْظامِ الادِّعاء واسْتِنْكارِه. والمَشهورُ أنَّ المُرادَ إنْكارُ أنْ يَكونَ أحدٌ أَظلَمُ مِمَّنْ فعلَ ذلك أوْ مُساوِيًا لَهُ، والتَركيبُ ـ وإنْ لمْ يَدُلَّ على إنْكارِ المُساواةِ وضعًا ـ يَدُلُّ عليْه اسْتِعْمالًا، فإنَّ قولك: لا أَفضَلُ مِنْ زَيْدٍ معناهُ أنَّه أَفضَلُ مِنَ الكُلِّ بِحَسَبِ العُرْفِ.
والافتراءُ لغةً: الاختلاقُ والكَذِبُ العَمْدُ وذلك بادِّعائهم أَنَّ للهِ جَلَّ وعَلا شريكًا، وبقولِهم إنَّ الملائكةَ بَناتُ اللهِ، وهؤلاءِ شفعاؤنا عندَ اللهِ. ومِنْ ذلك وصْفُهمُ النَبِيَّ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ بِخِلافِ أَوْصافِهِ المذكورة عندهم في الكتابين (التوراةُ والإنجيلُ).
قولُهُ: {أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} كأنْ كذَّبَ بالقرآنِ الذي مِنْ جُملَتِهِ الآيةُ الناطقةُ بأنَّ أهلَ الكتابِ يَعرِفونَه كما يَعرفون أبناءَهم، أوْ بِسائرِ المُعجزاتِ التي أُيِّدَ بها رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ ـ بأنْ سَمَّاها سِحْرًا، وعَدَّ مِنْ ذلكَ تحريفَ الكِتابِ وتَغييرَ نُعوتِه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ الذي ذَكَرَها اللهُ تعالى فيه، وإنَّما ذَكَرَ "أَوْ" وهُم جَمَعوا بَيْنَ الأَمْريْنِ إيذانًا بأنَّ كلًّا منهُما وحدَه بالغٌ غايةَ الإفراطِ في ظُلمِ النَفْسِ، حيث قالوا: لو شاءَ اللهُ ما أَشْركْنا ولا آباؤنا} الأنعام: 148. وقالوا: {واللهُ أَمَرَنَا بِها} الأَعراف: 28. وقالوا: {هؤلاءِ شفعاؤنا عندَ اللهِ} يونس: 18، وقالوا: الملائكةُ بَناتُ اللهِ، ونَسَبوا إليْه تحريمَ البحائرَ والسوائبَ، وكذبوا القرآنَ الكريمَ والمعجزاتِ وسَمُّوها سِحْرًا ولم يؤمنوا بالرَسولِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ. وهذه بعضُ أكاذيبهم وافترائهم على الله تعالى التي بلغوا بها أقصى درجاتِ الكَذِبِ، وبها اسْتَحَقّوا أنْ يَكونوا أظلمَ الناسِ وأكثرهم افتراء.
وقيلَ: نبَّه بـ "أَوْ" على أنَّهم جَمَعوا بيْن أمريْن مُتناقِضيْن، يَعني أنَّهم أَثْبَتوا المَنْفِيَّ ونَفُوا الثابتَ. والمُرادُ بالمُتناقضيْن أَمرانِ مِنْ شأنِهِما أَنْ لا يُجْمَعَ بينَهما عُرْفًا، أوْ يُقالُ: إنَّ مَن نَفى الثابتَ بالبُرهانِ يَكونُ بِنَفْيِ ما لَمْ يَثْبُتْ بِهِ أَوْلى، كذلك في الطَرَفِ الآخَرِ فالجَمْعُ بينَهُما جَمعٌ بيْن المُتناقضيْن مِنْ هذا الوَجْه.
قولُهُ: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} إنَّه: الضميرُ للشأنِ، و"لا يفلح الظالمون" القائلونَ على اللهِ الكَذِبَ والمُفتَرون عليهِ الباطلَ، يَوْمَ الحِسَابِ بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللهِ فِي النَّارِ، وَلا يَفُوزُونَ بِنَعِيمِ اللهِ فِي الجَنَّةِ.