قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ.
(56)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} أمْرٌ من اللهِ تَعَالَى لرَسُولِهُ صلى الله عليه وسَلَّمَ بِالرَدِّ عَلَى المُشْرِكِينَ، بِأنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ وكلِّ مَا يَعْبُدُهُ المُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ سبحانه وتعالى، وَأنَّهُ لَنْ يَتَّبِعَ مَا يَدْعُونَهُ إلَيْهِ مِنْ عِبَادَاتٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى الهَوَى، وذلك إثِرَ ما أُمِرَ به مِنْ معاملةِ مَنْ عَداهُم مِنْ ضُعَفاءِ المؤمنينَ وفُقَرائهم بما يَليقُ بحالهم، فقلْ لهم قَطْعاً لأطماعِهم بركونِكَ إليْهم وبياناً لكونِ ما هُمْ عليْه هوًى محْضاً وضَلالاً صِرْفاً، و"تَدْعُونَ" قِيلَ هي بِمَعْنَى تَعْبُدُونَ، وَقِيلَ: هي بمعنى تَدْعُونَهُمْ فِي مُهِمَّاتِ أُمُورِكُمْ عَلَى جِهَةِ الْعِبَادَةِ، سواءً أكانوا من ذوي العقولِ أَو جماداً من الأَصْنَام التي كانوا يعبُدونها لِتُقرِّبَهم إلى اللهِ زُلْفى بحَسَبِ اعْتِقادِهِمُ الفاسِدِ، إلا أنَّه عَبَّرَ بِصيغَةِ العُقَلاءِ جَرْياً منه على
ما يَزعُمونَ.
قولُه: {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ} فِيمَا طَلَبْتُمُوهُ مِنْ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَمِنْ طَرْدِ مَنْ أَرَدْتُمْ طَرْدَهُ، فلَيْسَ ما تطلبونَه عَلَى شَيءٍ مِنَ الحَقِّ وَالهُدَى.
وكَرَّرَ الأمرِ مَعَ قُرْبِ العَهدِ به اعْتِناءً بشأْنِ المأمورِ بِهِ وإيذاناً باختلاف القوليْنِ مِنْ حيثُ إنَّ الأوَّلَ حكايةٌ لما مَرَّ مِنْ جِهتِهِ تعالى مِنْ النَهْيِ، والثاني حكايةٌ لما مَرَّ مِنْ جِهَتِهِ عليْه الصَلاةُ والسَلامُ مِنَ الانْتِهاءِ عَنْ عِبادةِ ما يَعْبُدونَ. وفي هذا القولِ تجْهيلٌ لهم وتَنْصيصٌ على أنهم فيما هم فيه مِنْ عبادةِ غيرِ اللهِ تعالى تابعون لأهواءَ باطِلَةٍ وليْسوا على شيءٍ مما يَنْطَلِقُ عليْه الدينُ أَصْلاً، وإشْعارٌ بما يُوجِبُ النَهْيَ والانتِهاءَ. وفيه كما قيلَ إشارةٌ إلى عَدَمِ كِفايَةِ التَقليدِ الصِرْفِ في مِثْلِ هذِه المَطالِبِ.
قولُه: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أَيْ قَدْ ضَلَلْتُ إِنِ أَنَا اتَّبَعْتُ أَهْوَاءَكُمْ، وسأكُونُ مِنَ غَيْرِ المُهْتَدِينَ إنْ فَعَلْتُ. وهو اسْتِئْنافٌ مُؤَكِّدٌ لانْتِهائِهِ عليْهِ الصلاةُ والسَلامُ عمَّا نهِيَ عنْه مُقَرِّرٌ لِكونِه في غايةِ الضَلالِ. والعُدولُ إلى الإسميَّةِ للدَلالةِ على الدوامِ والاستمرارِ أي دوامِ النفيِ واستمرارِهِ لا نفيِ الدوامِ والاستمرارِ، والمرادُ كما قيلَ، وما أَنَا إذاً في شيءٍ مِنَ الهُدى حتى أَعُدْ في عِدادِهم، وفيهِ تعريضٌ بأنَّ المَقولَ لهُم كذلك.
قوله تعالى: {أَنْ أَعْبُدَ} هي على حَذْفِ حرفِ "عَنْ" والتقديرُ: نُهِيْتُ عنْ أنْ أَعْبُدَ.
وقولُهُ: {قَدْ ضَلَلْتُ إذاً} إذاً: حرفُ جوابٍ وجَزاءٍ لا عَمَلَ لها هُنا لِعدمِ وجودِ فعلٍ تَعمَل فيه، والمعنى: إنِ اتَّبَعْتُ أهواءَكم ضَللْت وما اهتدَيْت. فهي في قوَّةِ شَرْطٍ وجَزاءٍ.
قرأ الجُمهورُ: "ضَلَلْتَ" بفتحِ اللاّمِ الأُولى. وقرَأَ أبو عبدِ الرَّحمنِ ويحيى وطلحةُ بكسرِها، وقدْ تَقَدَّمَ أنها لُغَةٌ. ونقلَ صاحبُ التَحريرَ عن يحيى وابنِ أبي ليْلى أنهما قرآ هنا وفي "الم" السجدة: {أَإِذَا ضَلَلْنَا} بصادٍ غيرِ مُعْجَمَةٍ. يُقالُ: صَلَّ اللَّحْمُ أي: أَنْتَنَ، وهذا لَهُ بعضُ مُناسَبَةٍ في آيةِ السَجْدَةِ، وأَمَّا هُنا فمَعناهُ بَعيدٌ أوْ ممتَنِعٌ. ورَوى العبَّاسُ عنْ ابْنِ مجاهدٍ في "الشواذ" له: "صُلِلْنا في الأرض" أيْ دُفِنَّا في الصَّلَّةِ وهيَ الأرضُ الصُلْبَةُ.
وقولُه: {وَمَا أَنَاْ مِنَ المهتدين} تأكيدٌ لقولِه: "قَدْ ضَلَلْتُ" وأَتى بالأُولى جملةً فِعْلِيَّةً لِيَدُلَّ على تجَدُّدِ الفِعْلِ وحُدوثِهِ، وبالثانيةِ اسميَّةً لِيَدُلَّ على الثبوتِ والاستمرارِ كما تقدَّمَ.