بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ.
(41)
قولُه تباركت أسماؤه: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} انتهت الآيةُ الكريمةُ السابقةُ بقوله تعالى: {أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كنتُمْ صَادِقِينَ} أيْ إن كنتم صادقين في تحرّي الحقِّ. فأجاب سبحانه وتعالى عنهم بالإضراب عن تفكير أوهامهم وهو أنّهم لا يدعون سواه، ولذا قال سبحانه: "بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ" وقيل هو الإضرابُ الانتقالي عن تفكيرِهم وأوهامِهم، وتقديم المفعول على الفعل والفصل بقوله: "إِيَّاهُ تَدْعُونَ" للقَصْرِ، أي لا تدعون إلاّ إيّاه، إذًا لا تُفكِّرون في غيرِه، وهذا ملاحظٌ في الملحدين الذين تنكر ألسنتُهم وجودَ الخالقِ جلَّ وعلا فإذا وقع أحدُهم في ضيقٍ تسمعه يقول، تلقائيًّا (يا ألله) فالله سبحانه وتعالى فطَرَ المخلوقاتِ كلَّها حين خَلَقها على الإيمان به والإقرارِ له بالوحدانية، فقال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين} الأعراف: 172.
وذلك دليلٌ علىَّ أنَّ المشركين يَتَّجه تَفكيرُهم في الشدائدِ إلى القُوَّةِ الخَفِيَّةِ الخالِقَةِ في هذا الوجود، وهو الله سبحانه وتعالى خالقُ الكونِ ومسيِّرُه، فهو مجيبٌ المضطَّرَّ إذا دَعاه، وأنَّ اللهَ هو الذي يُزيل الضُرَّ، (يكشفُ) وكأنَّ الشِدَّةَ غِطاءٌ غامرٌ محيطٌ، وإزالتُه كَشفُه، فهي اسْتِعارَةٌ فيها تشبيهُ حالِ إزالةِ الشَرِّ، بحالِ كَشْفِ غِطاءٍ غامِرٍ مُؤلم، والفاء هنا لترتيب الفعل على الدعاءِ وسُرعةِ الإجابةِ.
وإنَّ اللهَ تعالى يَكشِفُ الضُرَّ إذا لم يَكُنْ في ذلك مَفْسٍدَةٌ وكان فيه خيرٌ، وكانت الرحمةُ تَفرِضُه، كما قال تعالى: {كَتَبَ رَبّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} الأنعام: 54، ولذا قال سبحانه: "إِن شَاءَ" أنْ يَتَفَضَّلَ عليكم بهذا الكَشْفِ، ويَرحمَكم ولم يكن في هذا مَضَرَّةٌ، ولا إغْراءٌ بالفَسادِ، ولا إيذاءٌ لغيرِهِ، فعَمَلُه تعالى في دائرةِ الحِكمَةِ والنَّفعِ، وإنْ لم يكن في ذلك إلزام، فإنه سبحانَه وتعالى {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).
وظاهرٌ أنَّ كَشْفَ الشِدَّةِ إنما يَكون في شدائدِ الدُنْيا، وهي التي تتعلَّق بها المشيئةُ، إنْ شاء أَنزَلها وأَبقاها لحكْمَةٍ، وإنْ شاءَ أزالها وأَنظرَهم، كما كان يَفعل مع قريشٍ، أمَّا ما يجيء بعدَ الساعةِ مِنْ حِسابِ المشركِين وعِقابهم، فإنَّ اللهَ لا يَكْشِفُهُ عَنِ المُشركين، إذْ يَقولُ سبحانَه: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْركَ بِهِ وَيَغْفِر مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} النساء: 48. فلا يمكن بمقتضى وعيدِهِ سُبحانَه أنْ تَكونَ عقوبةُ الشِرْكِ يَومَ القِيامةِ مَوْضِعَ كَشْفٍ أَوْ إزالةٍ.
وقولُه: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ} فإنَّ كَشْفَ الضرِّ مُتَعَلِّقٌ بالمشيئة، وأُريدَ بِهِ السببُ، ذلك أنَّ السِياقَ يُستَفادُ مِنْه أَنَّ الكَشْفَ عنِ الدُعاءِ، والحقيقةُ أنَّ الكَشْفَ عنِ الضُرِّ الذي هو سَببُ الدُعاءِ واللهُ سبحانَه وتعالى كاشِفُه، ومُزيلُ ضُرَّهم.
إنهم في هذا الحالِ (حال الضُرِّ) يَتْركون أحجارهم، لأنهم في هذه الحالِ تستيقظُ مَداركُهم وتعود إليهم فطرتُهم، فلا يَلتجؤون إلى أَوثانهم إذْ يَرونها لا تَنفعُ ولا تَضُرُّ، بلْ ربما يكونُ البلاءُ محطِّمًا لها، فيتركونها، أو أنَّ شِدَّةَ الهولِ تجعلُهم يَنسَوْنَ ما عَلِقَ بأوهامِهم عنها ولا يكونُ أمامَهم إلاَّ الحقائقُ الثابتةُ. ويكون هذا النسيانُ سببًا للترك وعدمِ الالْتِفاتِ، ولذا قال سُبحانَه وتعالى: "وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكونَ" أيْ تَغيب عن ذاكرتكم فتتركونها لأنها لا حَول لها ولا طَولَ، ولا يَذكرون إلاَّ خالقَ الكونِ، ورَبَّ الوُجودِ كلِّه، وهو الحيُّ القيّومُ، ولكنَّ نسيانهم له قد لا يَستَمِرُّ فيذكرونها بعدَ زوالِ الشِدَّةِ.
فالمشركون مِنْ قريشٍ لم تَكُنْ قد ذَهبَتْ بهم اللَّجاجة في المادة إلى الإيمان بالروح، فقد كانوا مع إشراكهم بالله تعالى يُحِسّون بمُقتَضى الفِطرَةِ أنَّ هُناكَ قوَّةً روحيَّةً تُسيِّرُ الأمورَ الكَوْنِيَّةَ؛ قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} العنكبوت: 63.
قوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} بل: حرفُ إضرابٍ وانْتِقالٍ، و"إياه"
مفعولٌ مُقدَّمٌ للاخْتِصاصِ، أوْ للاعْتِناء، والضميرُ في "إياه" منصوبٌ وهو منفصل تقدَّم الكلامُ عليه مشبعًا في الفاتحةِ عند قوله: "إياك" فالهاءُ هنا مثلُ الكاف هناك. وقال ابنُ عَطيَّةَ هنا: "إيَّا" اسْمٌ مُضْمَرٌ أُجْرِيَ مُجْرَى المُظْهَراتِ في أنَّهُ مُضافٌ أَبَدًا، قال أبو حيَّانَ التَوحيديُّ: وهذا خِلافُ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، فإنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ أنَّ ما بعدَ "إيَّا" حرفٌ يُبَيِّنُ أَحْوالَ الضَمير، وليسَ مُضافًا لمِا بعدَهُ، لِئَلاَّ يَلزَمَ تَعريفُ الإِضافةِ، وذلك يَسْتَدْعي تنكيرَه، والضَمائرُ لا تَقْبَلُ التَنكيرَ فلا تَقبَلُ الإِضافة.
قولُه: {مَا تَدْعُونَ} ما" الأظهرُ أنَّها مَوصولةٌ بمعنى الذي أي: فيكشِفُ الذي تَدْعون، والعائدُ محذوفٌ أي: تَدْعونه. أوْ أنَّها ظَرْفيَّةٌ، وعليه فمفعولُ "يكشفُ" محذوفٌ تقديرُه: فيَكشِفُ العذابَ مُدَّةَ دُعائكم أيْ: ما دُمْتُمْ داعِين. أوْ أنَّها نَكِرَةٌ مَوْصوفَةٌ والعائدُ محذوفٌ أي: فيَكشِفُ شيئًا تَدْعونه أي: تَدْعون كَشْفَه، والحذفُ مِنَ الصِفَةِ أَقلُّ مِنْهُ مِنَ الصِلَةِ. ويَصِحُّ أنْ تَكونَ مَصْدَرِيَّةً على حذفٍ في الكلامِ، مثل: {وَسْئَلِ القريةَ} يوسف: 82. والتَقديرُ: فيكشِفُ سببَ دُعائكم وموجبَه وهو خلافُ الظاهر، إلاَّ أَنْ تجعلَها مَصدَرًا بمعنى المَفعولِ تقديرُه: فيَكشِفُ مَدْعُوَّكم الذي تَدْعُونَ لأَجْلِهِ، وهو هنا الضُّرُّ.
قوله: {إِلَيْهِ} متعلِّقٌ بـ "تَدْعون"، والضميرُ حينَئِذٍ يَعودُ على "ما" الموصولةِ أي: الذي تدعون إلى كَشْفِه، و"دعا" بالنسبة إلى مُتَعَلّقِ الدُعاءِ يَتَعدَّى بـ "إلى" أوْ باللام. قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله} فُصّلت: 33. وقال: {وَإِذَا دعوا إِلَى اللهِ} النور: 48. وقال طَرَفَةُ بنُ العبدِ:
وإن أُدْعَ للجُلَّى أكنْ مِنْ حُماتها ........ وإِنْ يَأْتِكَ الأَعْداءُ بالجَهْدِ أَجْهَد
وقال بَشامَةُ بنُ حَزْنٍ النَهْشَلي:
وإنْ دَعَوْتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ ............ يومًا سَراةَ كرامِ النّاسِ فادْعِينا
وقال آخر:
دعوتُ لِما نابني مِسْوَرًا ......................... فَلَبِّيْ فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ
ويمكنُ أنْ يتلعَّق "إليه" بـ "يَكْشِفُ" فيصبح المعنى: يرفعُهُ إليه، وعلى هذا فالضميرُ عائدٌ على الله تعالى. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والضميرُ في "إليه" يُحتَمَلُ أنْ يَعودَ إلى اللهِ بتقديرِ: فيَكْشِفُ ما تَدْعون فيه إليه.
قولُه: {إِنْ شَاءَ} شرطٌ محذوفٌ جوابُه لِفَهْمِ المعنى، ودَلالةِ ما قبلِهِ عليه، أي: إنْ شاءَ أنْ يَكشِفَ كَشَفَ، وادِّعاءُ تقديمِ جوابِ الشَرْطِ هنا واضحٌ لاقتِرانِه بالفاءِ، فهو أَحْسَنُ مِنْ قولك: "أنت ظالم إنْ فعلت" لكنْ يمنع مِنْ كونها جوابًا هنا أنها سببيَّةٌ مُرتِّبةٌ أي: أنها أفادَتْ ترتُّبَ الكشفِ على الدعاءِ، وأنَّ الدُعاءَ سببٌ فيه.
قولُه: {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} ما: هنا مَوصولَةٌ اسميَّةٌ، كما هو الظاهرُ، والمرادُ بها ما عُبِدَ مِنْ دون اللهِ مُطلَقًا: العُقلاءُ وغيرُهم، إلاَّ أنَّه تعالى غَلَّبَ غيرَ العُقلاءِ عليهم كقولِه: {وللهِ يَسْجُدُ مَا فِي السموات} النحل: 49. والعائدُ محذوفٌ أي ما تُشْركونَه مَعَ اللهِ في العِبادةِ، والأَصْلُ وتَنْسَونَ دُعاءَ ما تُشركون، فحَذَفَ المُضافَ. ويجوزُ أنْ تكونَ مَصْدَرِيةً، فلا تحتاج إلى عائدٍ عندَ الجُمهورِ. ثمّ هل هذا المصدر باق على حقيقته؟ أي: تَنْسَون الإِشراكَ نفسَه لِما يلحقُكم من الدَّهْشَة والحَيْرة، أو هو واقعٌ موقعَ المفعولِ به، أي: وتنسَوْن المُشْرَك بِه وهي الأصنامُ وغيرُها، وعلى هذا فمعناه كالأوَّل حينئذٍ يحتملُ السِياقُ أنْ يَكون على بابِه مِنَ الغَفْلَةِ، وأنْ يَكونَ بمعنى التَرْكِ، وإنْ كانوا ذاكرين لها، أيْ للأصْنامِ وغيرِها.