وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. (97)
قَوْلُهُ ـ سبحانَهُ وتَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ما زِلْنا في عجائبِ السَماءِ مَعَ دَلائلِ قُدْرَتِهِ ـ تبارك وتعالى ـ فهذِه الآيةُ العظيمةُ تبَيِّنَ لَنا كَمَالَ قُدْرَتِهِ ـ سبحانَهُ ـ في النُجومِ. وَفِي النُّجُومِ مَنَافِعُ جَمَّةٌ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ مَنَافِعِهَا، وَهِيَ الَّتِي نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، فقالَ: "لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ" فهو ـ سبحانَه وتعالى ـ وحدَهُ الذي سخَّرَ لَنا هذِه الكواكِبَ النَيِّرَةَ لِنَهْتَديَ بِها إلى الطُرِقِ والمَسالِكِ خِلالَ سَيْرِنا في ظُلُماتِ اللَّيلِ بَرّاً وبحراً، حيثُ لا نَرَى شَمْساً ولا قَمَراً. وَفِي سورةِ الصافاتِ ذكَرَ لَنا مَنافِعَ أُخْرى فقال: {وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ} الآيةِ: 7. أيْ أنَّ هذه النُجومَ تتصدى لِمَرَدَةِ الشياطينِ الذين يحاولون اسْتِراقَ السَمْعِ ومَعْرِفَةَ ما يَحْدُثُ في المَلَأِ الأَعْلى، فتَقْذِفُهم بالشُهُبِ الحارِقَة كما جاءَ في سورةِ الجِنِّ حيثُ قال تعالى على لسانِ الجانِّ: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} الآية: 9. وسنذكُرُ المزيدَ لِبيانَ ذلكَ في مَوْضِعِهِ إنْ شاءَ اللهُ تعالى. وفي سورةِ المُلك ذَكَرَ لَنا نَوعاً آخَرَ مِنْ المَنافِعِ في هَذِهِ النُجومِ فقالَ: {وَلَقدْ زَيَّنا السماءَ الدُنْيا بِمَصابيحَ} الآية: 5. فإنَّ هذه النُجومَ لها وظيفةٌ جماليَّةٌ أَيْضاً، فهي تُزَيِّنُ السَماءَ حتَّى أَنَّ الناظرَ إليْها لا يَمَلُّ مِنَ الاسْتِمْتاعِ بهذا الجَمَالِ الأخَّاذِ. وكما أَنَّ نُجومَ السَماءِ يُهتَدى بها في الفَلَواتِ، فَكذلك نُجُومُ القُلوبِ يُهتَدى بها في معرفة رَبِّ الأرضين والسموات. وقيلَ: المُرادُ بـ "النجوم" هو كلُّ ما عَدا النَيِّريْن (الشمس والقمر) لأنَّ هذه النجومَ هي التي بِها الإهْتِداءُ، في الليلِ، ولأنَّ النَّجْمَ يُخَصُّ في العُرْفِ بما عَداهُما. وجُوِّزَ أَنْ يَدْخُلا فيها فيكونُ هذا بياناً لِفائدتِهِما العامَّةِ إثْرَ بيانِ فائدتِهِما الخاصَّةِ، ويَقْسِمُ علماءُ الفَلَكِ النُّجومَ إلى ثوابتَ وسَيَّاراتٍ، فالثوابتُ كثيرةٌ لا يحصي عَدَدَها إلاَّ اللهُ تعالى، وهي ثابتةٌ نِسْبِيّاً لأنَّنا نَراها هكذا لِشِدَّةِ بُعدِها عنها، وإنَّما هي متحركةٌ في أفَلاكِها بِحَسَبِ نظامِها الذي وَضَعَهُ لَها خالقُها ـ تَبارَكَ وتَعالى ـ فَلا ثَباتَ لِمخلوقٍ في هذا الكون، وإنَّما يَجْري كلٌّ إلى أَجلِهِ. وأمَّا السياراتُ فهيَ تِسْعٌ بما فيها كَوْكَبُ الأَرْضِ التي نَحْنُ عليها وهي: نِبْتون، أُورَانوس، زُحَل، المشتري، المريخ، الزهرة، عطارد، بلوتن. وكان القًدَماءُ يَحْسِبونَها سَبْعاً، ثُمَّ اكْتَشَفَ العُلماءُ لَها ثامِناً فتاسعاً، وكلُّها تَدورُ حَوْلَ الشَمْسِ بِسُرْعةٍ فائقةٍ، بعضُها يُكمِلُ دورةً كلَّ ثمانينَ يَوماً مِنْ أَيّامِنا، وهو عُطارد، أَقرَبُ الكَواكِبِ إلى الشمسِ، وهي سَنَتُهُ؛ وبعضُها يُكْمِلُ دورةً كاملةً في مئتيْن وثمانٍ وارْبعينَ سَنَةً مِنْ سِنِيِّ أَرْضِنا، وهو أَبْعدُها مِنَ الشَمْسِ، ويَدورُ في دائرةٍ مِساحَتُها سَبْعَةُ بَلايينَ وخَمْسِمِئةِ مِليون مِيلٍ، حَسْبَ ما يُقَدِّرُ عُلَماءُ الفَضاءِ. والقُمَرُ أَقْرَبُ الأَجرامِ السَماوِيَّةِ مِنَّا، حيثُ قَدَّرَ العُلَماءُ المَسافةَ بينَه وبينَ الأَرْضِ بِنَحْوِ مِئتَيْن وأَرْبعينَ أَلْفَ مِيلٍ، وهو الوَحيدُ الذي اسْتَطاعَ الإنْسانُ أَنْ يَصِلَ إليْهِ بِوِساطَةِ المَراكِبِ الفَضائيَّةِ، فَنَزَلَ على سَطْحِهِ، وسَبَرَ أَغْوارَه، وتَعَرَّفَ على تضاريسِهِ وأَتى بِعَيِّناتٍ مِنْ مائهِ وتُرْبَتِهِ وأَحجارِهِ، وهو يَدورُ حولَ الأَرْضِ مرةً كلَّ تسعةٍ وعِشْرينَ يَوماً ونِصْفَ اليومِ، وهو الشهرُ القَمَرِيُّ الذي يَعْتَمِدُهُ المُسلِمون في تَقويمِهم، وحِسابِ أَوْقاتِ صِيامِهم وحَجِّهم. وتَبْعُدُ أَرْضُنا عن الشَمْسِ ثلاثةً وتِسْعينَ مِليونَ ميلٍ، بتقديرِ العُلماءِ، وتَدورُ الأرضُ حولَ مِحْورِها بِسُرْعَةِ ألْفِ مِيلٍ في الساعةِ، حسبَ ما يقولُ عُلَماءِ فيزياءِ الفَضاءِ، وتَدورُ حولَ الشَمْسِ في دائرةٍ مِساحَتُها مِئةٌ وتِسعونَ مِلْيونَ مِيلٍ، وتَسْتَكْمِلُ دَوْرَتَها في هذه الدائرةِ مَرَّةً واحدةً كلَّ سنةٍ. ويَدورُ حولَ هذِهِ الكواكبِ واحدٌ وثلاثون قَمَراً أُخْرى. وقَدَّرتْ بعضُ الدِراساتِ المُتَخَصِّصةِ وُجودَ حَلَقةٍ مِنْ ثلاثينَ أَلْفاً مِنَ النُجَيْماتِ وآلافِ المُذَنَّباتِ، وشُهْبٍ لا حَصْرَ لَها ولنَّكها تَدورُ حولَ ذلكَ السَيَّارَ العِمْلاقِ الذي نسَمِّيهِ الشَّمْس، والتي يَبْلُغُ قطرُها بحَسَبِ بَعْضِ النَظَريَّاتِ: ثَمانَمِئةٍ وخَمْسَةً وسِتِّينَ أَلفَ مِيلٍ. وهي أكْبَرُ مِنْ الأرضِ بِمِلْيونَ مَرَّة ورُبْعِ المِليون.
ولا تُشَكِّلُ هذهِ الشَمْسُ وما حَوْلَها مِنَ الكَواكِبِ المَذْكورةِ، والأقْمارِ، والنُجَيْماتِ، والشُهُبِ التي تَشَغَلُ هَذا المَجالَ الواسِعَ ذَرَّةً صَغيرةً في هذا المَكانِ الواسِعِ الذي لا يُدْرِكُهُ عَقْلٌ ولا بَصَرٌ. ثمَّ إنَّ هذِهِ الشمسُ لَيْسَتْ ثابِتَةً أو واقفةً في مَكانٍ ما، وإنَّما {وكلٌّ في فلكٍ يسبحون} يس: 40. فهي بِدَوْرِها ـ ومَعَها كُلُّ هذِه الأجرامِ التي ذَكَرْناها ـ تَدورُ في نِظامٍ رائعٍ بَديعٍ بِسُرْعَةِ ستِّمِئةِ أَلفِ ميلٍ في الساعةِ. وفي هذا الكون الفسيحِ العَجيبِ آلافُ الأنظِمَةِ ـ غَيْر نِظامِنا الشَمْسِيِّ ـ يَتَكَوَّنُ مِنْها ذلِكُمُ النِّظامُ الذي نُسَمِّيهِ (المَجَرَّات) أوْ مَجاميعِ النُجومِ، وكأنَّها جَميعَها طَبَقٌ عَظيمٌ تَدورُ عليْه النُجومُ والكَواكِبُ مُنْفَرِدَةً ومُجْتَمِعَةً.
وتتحرَّكُ مجَرّاتُ النُّجومِ هذِه بِدَوْرِها أَيْضاً، فالمجَرَّةُ التي يَقَعُ فيها نِظامُنا الشَمْسِيُّ تَدورُ حولَ مِحْوَرِها بحيثُ تُكْمِلَ دَورةً واحدةً كلَّ مئتيْ بِلْيون سَنَةً ضوئيَّةً، وهذا شَيْءٌ مُذْهِلٌ ومُحَيِّرٌ لا تَتَصَوَّرُهُ العُقولُ ولا تستوعِبُه.
ويُقَدِّرُ عُلَماءُ الفَلَكِ أَنَّ هذا الكونَ يَتَأَلَّفُ مِنْ خَمْسِمِئةِ مِليون مَجَرَّة، في كلٍّ مِنْها مئةُ مليون نَجْم، أوْ نَحو ذلك. ويُقدِّرونَ أنَّ أَقْرَبَ مَجْموعَةٍ مِنَ النُّجومِ، وهي التي نَراها في الليلِ كَخُيوطٍ بَيْضاءَ دَقيقةٍ، والتي نُسَمِّيها دَرْبَ التَبَّانَةِ، تَضُمُّ حَيِّزاً مَداهُ أَلْفُ سَنَةٍ ضَوْئيَّة. وسُرْعَةُ الضَوْءِ ثلاثمئةِ أَلْفِ (كم / الثانية). وبِمَعرِفَةِ هذه الحقيقةِ يَتَبَيَّنُ لَنا اتِّساعُ السَنَةِ الضَوئيَّةِ ومِقدارُ زَمَنِها، ومسافةُ ألفِ سَنَةٍ ضَوئيَّة شيءٌ مُذْهِلٌ، فوقَ ما يُحيطُ به عقلُ بَشَرٍ وفوقَ طاقتِهِ. ونحنُ ـ سُكَّانَ الأرضِ ـ نَبْعُدُ عنْ مَرْكَزِ هذِهِ المَجْموعَةِ بمِقدارِ ثلاثين ألفَ سَنَة ضَوْئيَّة، وهذه المَجموعةُ جُزْءٌ مِنْ مَجْموعَةٍ كَبيرةٍ تَتأَلَّفُ مِنْ سَبْعَ عَشْرَةَ مَجَرَّةً. وقُطْرُ هذه المَجموعَةِ الكَبيرة مِلْيونا سَنَة ضوئيَّة.
ويَبقى كلُّ هذا في إطارِ النظريَّاتِ والتَكَهُّناتِ، وهو قابلٌ للجَديدِ دائماً ـ بحَسَبِ تَطَوُّرِ العِلْمِ وأَدواتِ البَحْثِ العِلْمِيِّ، وحينَ يَنْظُرُ العَقْلُ إلى هذا النِّظامِ العَجيبِ، والتَنْظِيمِ الدَقيقِ الغَريبِ المُدْهِشِ لا يَلْبَثُ أنْ يَحْكُمَ باسْتِحالةِ أنْ يَكونَ هذا كُلُّهُ قائماً بِنَفْسِهِ، بَلْ إنَّ هُنالِكَ طاقة غَيْر محدودةٍ هي التي تقيمُ هذا النِظامَ العَظيمَ، وتهيمنُ عليه.
وبعضُ العُلَماءِ يَقولُ: إنَّ كُلَّ إنْسانٍ في الوُجودِ لَهُ نَجْمٌ، وتَرْتَبِطُ حياتُهُ بهذا النَجْمِ، وحينَ يَأْفُلُ النَّجْمُ يَأْفُلُ قَرينُهُ على الأرْضِ، وهُناكَ نُجومٌ لامعةٌ نَرصُدُ حركتَها، ونُجومٌ أُخرى غيرُ لامِعَةٍ وبَعيدةٌ عنا، ويُقالُ إنَّها تَخُصُّ مخلوقاتٍ لا يَدْري بِها أَحَدٌ لِقِلَّةِ تَأثيرِها في الحياة.
قولُه: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ} أَيْ بَيَّنَّاهَا مُفَصَّلَةً لِتَكُونَ أَبْلَغَ فِي الِاعْتِبَارِ. أيْ بَيَّنّا الآياتِ المَتْلُوَّةِ المَذْكورَةِ لِنِعَمِهِ ـ سبحانَه ـ التي هذِهِ النِعْمَةُ مِنْ جُمْلَتِها، أوْ الآياتِ التَكْوينِيَّةِ الدّالَّةِ على شُؤونِهِ تَعالى فَصْلاً فَصْلاً.
قولُهُ: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} إنَّ ذَلك مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِه على وُجودِ الصانِعِ المُخْتارِ وكَمالِ قُدْرَتِهِ وعَظَمَتِهِ وبَديعِ صَنْعَتِهِ وعِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ. وخَصَّهُم بالذِكرِ لأنَّهم المُنْتَفِعون بِمعاني الآياتِ المَذكورَةِ فيَعْمَلون بِمُوجِبِها أَوْ يَتَفَكَّرونَ في الآياتِ التَكْوينِيَّةِ فَيَعلَمون حَقيقةَ الحالِ، وقد خصَّهم بالتَفْصيلِ مَعَ عُمومِهِ لِلكُلِّ.
وقد كَثُرَتِ الأَخبارُ في النَهْيِ عَنْ عِلْمِ النُجُومِ والنَّظَرِ فيها، إلاَّ في حدودِ التفكُّرِ في عَظَمَةِ اللهِ والتعرُّفِ عَلَيْه مِنْ خِلالِ عظيمِ صَنَعَتِه وبديعِ خلقِهِ، وإلاَّ لِمَعرِفَةِ أَوْقاتِ العِباداتِ، وتحديدِ المَسافاتِ والجِهاتِ وضَبْطِ المٌعامَلاتِ. والمَقصودُ بالنَهْيِ هو ما نَراهُ منَ المُشَعْوِذين الذين يَدَّعونَ معرفةً بالنُّجومِ، فيَتَنَبَّؤون بالمُسْتَقْبَلِ ويسْتَشْرفونَ الغَيْبَ وما شاكلَهُ. فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ والخَطيبُ عنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضيَ اللهُ تَعالى عنهُما ـ قال، قالَ رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ: ((تَعَلَّموا مِنَ النُجومِ ما تَهْتَدون بِهِ في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ ثُمَّ انْتَهوا)). وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ وأَبو داوودَ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وروى أَحْمَدٌ ومُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما ـ قال، قالَ رَسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ: ((مَنِ اقْتَبَسَ عِلْماً مِنَ النُّجومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِحْرِ زَادَ مَا زَادَ)). صحيح، الجامع الصغير: 595. وشرح مُسْنَدِ أَبي حَنيفَةَ النُعمانِ ـ رضي الله عنه: (1/ 143)
وأَخْرَجَ الخَطيبُ عَنْ مَيْمون بْنِ مَهرانَ قال، قُلتُ لابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تَعالى عنهُما ـ أَوْصِني، قالَ: (أُوصيكَ بِتَقْوَى اللهِ تَعالى، وإيَّاكَ وعِلْمِ النُجُومِ فإنَّه يَدْعُو إلى الكَهَانَةِ). وأَخْرَجَ الخطيبُ أيضاً عنْ عَلِيٍّ ـ كَرَّمَ اللهُ تَعالى وجْهَهُ ـ قال: (نَهاني رَسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ عنِ النَظَرِ في النُّجومِ). وعن أَبي هُريرةَ وأمِّ المؤمنين عائِشَةَ الصِّدِّيقةِـ ـ رَضيَ اللهُ تعالى عنهُما ـ نحوَه. وأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عَنْهُما قال، قالَ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ: ((إنَّ مُتَعَلِّمَ حُروفِ أَبي جادوراءَ في النُّجومِ ليسِ لَهُ عِنْدَ اللهِ تَعالى خَلاقٌ يَومَ القِيامَةِ)). إلى غيرِ ذلكَ مِنَ الأخبارِ، ولَعَلَّ ما تُفيدُهُ مِنَ النَهْيِ عَنِ التَّعلُّمِ مِنْ بابِ سَدِّ الذَّرائعِ، لأنَّ ذلك العِلْمَ ربَّما يَجُرُّ إلى مَحْظورٍ شَرْعاً، كَما يُشيرُ إليْهِ خَبَرُ ابْنِ مَهْرانَ. وكذا النَهْيُ عنِ النَظَرِ فيها مَحْمولٌ على النَظَرِ الذي كانت تَفعلُهُ الكَهَنَةُ الزاعمون تأثيرَ الكَواكِبِ بأَنْفُسِها، والحاكِمونَ بِقَطْعيَّةِ ما تَدُلُّ عليْه بِتَثْليثِها وتَرْبِيعِها واقْتِرانِها ومُقابَلَتِها ـ مَثلاً ـ مِنَ الأَحْكامِ بِحيثُ لا تَتَخَلَّفُ قَطْعاً على أَنَّ الوُقوفَ على جَميعِ ما أَوْدَعَ اللهُ تعالى في كلِّ كَوْكَبٍ مِمّا يَمْتَنِعُ لِغَيْرِ عَلاَّمِ الغُيوبِ. والوُقوفُ على بَعضٍ، أوْ كلِّ بعضٍ منها، لا يُجْدي المُتَمَسِّكَ بِهِ نَفْعاً، ولا يُفيدُ إلاَّ ظَنّاً، كالمُتَمَسِّكِ بِحبالِ القَمَرِ، والقابِضُ عليْهِ كالقابِضِ على شُعاعِ الشَمْسِ.
نَعم إنَّ بعضَ الحَوادِثِ في عالَمِ الكَوْنِ، قدْ جَرَتْ عادةُ اللهِ تَعالى بإحداثِهِ في الغالِبِ عِنْدَ طُلوعِ كَوْكَبٍ أَوْ غُروبِهِ أَوْ مُقارَنَتِهِ لِكوكَبٍ آخَرَ، وفيما يُشاهَدُ عندَ غيْبوبَةِ الثُريّا وطُلوعِها وطُلوعِ سُهيلٍ شاهدٌ لِما ذَكَرْنا. ولا يَبْعُدُ أنْ يَكونَ ذلكَ مِنَ الأَسْبابِ العاديَّةِ، وهي قدْ تَتَخَلَّفُ مُسَبِّباتُها عَنْها سَواءً قُلْنا: إنَّ التَأْثيرَ عِندَها ـ كما هو المَشهورُ عنِ الأَشاعِرَةِ ـ أَمْ قُلْنا: إنَّها المُؤَثِّرَةُ بإذْنِ اللهِ تَعالى كما هُو المأثورُ عنِ السَلَفِ، ويُشيرُ إليهِ كلامُ حُجَّةِ الإسْلامِ الغَزالَيِّ في العِلَّةِ. فمَتى أَخْبَرَ المُجَرِّبُ عَنْ شيءٍ مِنْ ذلكَ على هذا الوَجْهِ لمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَأْسٌ.
وما أَخْرَجَهُ الخَطيبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سأَلَ رَجُلاً عَنْ حِسابِ النُّجومِ وجَعَلَ الرَّجُلُ يَتَحَرَّجُ أَنْ يُخْبِرَهُ، فقالَ عِكْرِمَةُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضيَ اللهُ تعالى عنهُما ـ يَقولُ: عِلْمٌ عَجَزَ النَّاسُ عَنْه وَدِدْتُ أَنّي عَلِمْتُهُ. وما أَخْرَجَهُ الزُبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عِنْ عبدِ اللهِ بْنِ حَفْصٍ قال: خُصَّتِ العَرَبُ بِخِصالٍ: بالكَهَانَةِ والقِيافَةِ والعيافَةِ والنُّجومِ والحِسابِ، فهدَمَ الإسلامُ الكهانَةَ وثَبَتَ الباقي بعدَ ذَلكَ، وقولُ الحَسَنِ بْنِ صالح: سمِعتُ عن ابْنِ عبّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنهُما ـ أَنَّهُ قالَ في النُجومِ: (ذلكَ عِلْمٌ ضَيَّعَهُ النَّاسُ)، فَلَعَلَّ ذلك ـ إنْ صَحَّ ـ مَحمولٌ على نَحْوِ ما قُلْنا. وهو عِلْمٌ لا يَنْفَعُ، والجَهْلُ بِهِ لا يَضُرُّ، فما شاء اللهُ تعالى كان وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
وقد وَرَدَ في اسْتِحْبابِ مُراعاةِ الشَمْسِ والقَمَرِ لِذِكْرِ اللهِ ـ سبحانَه ـ لا لِغَيْرِ ذَلك أَحاديثُ، مِنْها ما رواهُ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال، قالَ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: ((أَحَبُّ عِبادِ اللهِ إلى اللهِ الذين يُراعونَ الشَمْسَ والقَمَرَ لِذِكْرِ اللهِ)). وعندَ ابْنِ شاهينَ والطَبَرانيِّ والخَطيبِ وأَحْمَد، عنِ ابْنِ أَبي أَوْفَى وأَبي الدَرْداءِ وأَبي هُريرَةَ ـ رضيَ اللهُ عنهم ـ نحوُه.
وأَخْرَجَ الحاكِمُ في تاريخِهِ، والدَيْلَمِيُّ بسنَدٍ ضعيفٍ عنْ أَبي هريرةَ أيضاً قال، قالَ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((ثلاثةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ: التاجرُ الأمينُ، والإمامُ المُقْتَصِدُ، وراعي الشمسِ بالنَّهارِ)). وأَخْرَجَ عبدُ اللهِ بْنُ أحمد في زَوائدِ الزُهْدِ عَنْ سَلْمانَ الفارسِيِّ ـ رضي اللهُ عنه ـ قالَ: ((سبْعةٌ في ظِلِّ اللهِ يَومَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّه فَذَكَرَ مِنْهمُ الرَجُلَ الذي يُراعي الشَمْسَ لِمَواقيتِ الصَلاةِ)).
فهذه الأحاديثُ مُقَيَّدَةٌ بكونِ المُراعاةِ لِذِكْرِ اللهِ والصَلاةِ، لا غيرِ، وقد جَعَلَ اللهُ انْقِضاءَ وقتِ صَلاةِ الفَجْرِ طُلوعَ الشَمْسِ، وأَوَّلَ صلاةِ الظُهْرِ زَوالَها، ووقتَ العَصْرِ ما دامتِ الشَمْسُ بَيْضاءَ نَقِيَّةً، ووقْتَ المَغْرِبِ غُروبَ الشَمسِ، وورَدَ في صلاةِ العِشاءِ أِنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ كان يُؤقِّتُ مَغيبَ القَمَرِ لَيْلَةَ ثالثَ عَشَرَ، وبِالشمسِ والقَمَرِ يُعرَفُ أَوائلُ الشُهورِ وأَوْساطُها وأَواخِرُها، فمَنْ راعاهُما لِهذِه الأُمورِ فهو الذي أَرادَهُ ـ صلى الله عليْه وسَلَّمَ ـ ومَنْ راعاهُما لِغيْرِ ذلكَ فهوَ غيرُ مُرادٍ بما وَرَدَ. وقد أَخرجَ الطَبَرانيُّ والخَطيبُ عَنِ ابْنِ مَسعودٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلَّمَ: ((إذا ذُكِرَ أَصحابي فأَمْسِكوا، وإذا ذُكِرَ القَدَرُ فأَمْسِكوا، وإذا ذُكِرَتِ النُجُومُ فأَمْسِكوا)).
وهذه الأَحاديثُ مَحْمولَةٌ على النَّظرِ فيها لِما عَدا الاهْتِداءِ والتَفَكُّرِ والاعْتِبارِ وما وَرَدَ في جَوازِ النَظَرِ في النُّجومِ أو الحثِّ عليْه، فهو مُقَيَّدٌ بالاهتداءِ والتَفَكُّرِ والاعْتِبارِ كما دَلَّتْ عليْه الأحاديثُ والآثارُ السابقُةُ، وعليْه يُحمَلُ ما رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّه سألَ رَجَلاً عَنْ حِسابِ النُّجومِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَتَحَرَّجُ أَنْ يُخبِرَهُ فقالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقولُ: (عِلْمٌ عَجَزَ النَّاسُ عنْهُ ووَدِدْتُ أَنّي عَلِمْتُهُ) وقد تَقَدَّمَ.
ومِنْ ثمَّ فإنَّ هذه النجومَ لا تتحرُّكُ إلاَّ بأَمْرِ اللهِ وليس لَها حولٌ ولا طَوْلٌ ولا قوَّةٌ مِنْ ذاتِها، ولا علاقةَ لها بأحدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ، كَما قدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ ضِعافِ العُقولِ، فقدْ أَخْرجَ أَبو داوودَ والخَطيبُ عَنْ سُمْرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ أَنَّهُ خَطَبَ فَذَكَرَ حديثاً عَنْ رَسولِ اللهِ ـ صَلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ أَنَّه قال: ((أمَّا بعدُ: فإنَّ ناساً يَزْعُمون أَنَّ كُسوفَ هذِهِ الشَمْسِ، وكُسوفَ هذا القَمَرِ، وزَوالَ هذِه النُجومِ عنْ مَواضِعِها، لِمَوْتِ رجالٍ عُظماءَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، وإنَّهم قدْ كَذَبوا، ولَكِنَّها آياتٌ مِنْ آياتِ اللهِ يَعتَبِرُ بِها عِبادُه، لِيِنْظُرَ ما يَحدُثُ لَهم مِنْ تَوبةٍ)). أَخرجَهُ كذلك أَحمد بنُ حنبلٍ: 5/16. وقد ثَبَتَ في الصحيحيْن وغيرِهِما في كُسُوفِ الشَمْسِ والقَمَرِ عَنِ النَبِيِّ ـ صَلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((أَنَّهما لا يَنْكَسِفانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ ولا لِحَياتِهِ، ولَكنْ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِما عِبادَه)). وكان قدِ اتَّفَقَ أَنْ كُسِفَتِ الشَمْسُ عندَ وَفاةِ إبراهيمَ ابْنِ سَيِّدِنا رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وآلِهِ وسلَّمَ ـ فقالَ النَّاسُ: إنَّها كُسِفَتْ لِمَوتِهِ. فقامَ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ خطيباً لِيُبَيِّنَ للنَّاسِ بأنَّها والقَمَرِ وغيرَهُما، لا تُخْسَفُ ولا تُكْسَفُ لِمْوتِ أَحدٍ أو ولادته، ولا لِغيرِ ذلك، إنَّما هي جَميعُها تحتَ هَيْمَنَةِ اللهِ وسَطْوَتِه، يُحَرِّكُها بقدرته كيفَ شاءَ، ويفعلُ بها ما يَشاءُ، لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتَها حِكْمَتُهُ وارْتَضَتْها
مَشَيئتُه.
وقولُهُ تَعالى: {جَعَلَ لَكُمُ النجومَ} الظاهِرُ أَنَّ "جَعَلَ" بِمَعْنى خَلَقَ فَتَكونُ مُتَعَدِّيَةً لِواحِدٍ، و"لَكمْ" مُتَعَلِّقٌ بـ "جَعَلَ" وكذا "لتهتدوا". فإنْ قِيلَ: كيف يَتَعَلَّقُ حَرْفا جَرٍّ متَّحدانِ في اللَّفْظِ والمَعنى؟ فالجَوابُ أَنَّ الثاني بدلٌ مِنَ الأَوَّلِ بَدَلُ اشْتِمالٍ بإعادَةِ العامِلِ، فإنَّ "لِيَهْتَدوا" جارٌّ ومَجْرورٌ، إذِ اللاَّمُ لامُ كَيْ، والفِعْلُ بَعدَها مَنْصوبٌ بإضْمارِ "أَن" عندَ البَصْرِيّينَ وقدْ تَقَدَّمَ تَقريرُهُ. والتَقديرُ: جَعَلَ لَكُمْ النُجومَ لاهْتِدائكم، ونَظيرُهُ في القُرآنِ: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} الزخرف: 33. فَـ "لِبُيوتِهم" بَدَلٌ مِنْ "لِمَنْ يَكْفُرْ" بإعادَةِ العامِلِ، وقالَ ابْنُ عُطْيَةَ: وقدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكونَ بَمَعْنى "صَيَّرَ" ويُقَدَّرُ المَفْعولُ الثاني مِنْ "لتَهْتدوا" أَيْ: جَعَلَ لَكُمُ النُجومَ هِدايةً.
قالَ الشَيْخُ: وهُوَ ضَعيفٌ لِنُدورِ حَذْفِ أَحَدِ مَفْعُولَيْ ظَنَّ وأَخَواتِها. ابْنُ عَطِيَّةَ لم يَدَّعِ حَذْفَ المَفعولِ الثاني حتَّى يَجْعَلُهُ ضَعيفاً إنَّما قالَ: إنَّهُ مِنْ "لِتَهْتَدُوا" أيْ: فيُقَدَّرُ مُتَعَلَّقُ الجارِّ الذي وَقَعَ مَفْعُولاً ثانياً كَما يُقدَّرُ في نَظائِرِهِ والتَقديرُ: جَعَلَ لَكمُ النُجومَ مُسْتَقِرَّةً أوْ كائنةً لاهْتِدائكم. وأَمَّا قولُهُ: "أَيْ جَعَلَ لَكمُ النُّجومَ هِدايةً" فلإِيضاحِ المَعْنَى وبَيانُهُ. والنُّجومُ مَعْروفَةٌ وهيَ جَمْعُ نَجْمٍ، والنَّجْمُ في الأَصْلِ مَصْدَرٌ، يُقالُ: نَجَمَ الكَوْكَبُ يَنْجُمُ نَجْماً ونُجُوماً فهُوَ ناجِمٌ، ثُمَّ أُطْلِقَ على الكَوْكَبِ مَجازاً، فالنَّجْمُ يُسْتَعْمَلُ مَرَّةً اسْماً للكَوْكَبِ ومَرَّةً مَصْدَراً، والنُجومُ تُسْتَعْمَلُ مَرَّةً للكَواكِبِ وتارَةً مَصْدَراً ومِنْهُ: نَجَمَ النَبْتُ أيْ: طَلَعَ، ونَجَمَ قَرْنُ الشاةِ وغَيْرُها، والنَّجْمُ مِنَ النَّباتِ ما لا ساقَ لَهُ، والشَجَرُ ما لَهُ ساقٌ، والتَنْجِيمُ: التَفْريقُ، ومِنْهُ نُجومُ الكِنَانَةِ تَشْبيهاً بِتَفرُّقِ الكَواكِبِ.