قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ.
(46)
قولُه تباركت أسماؤه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قلُوبِكُم} هو تَعليمٌ مِنَ اللهِ تعالى ذِكرُهُ، لنَبيَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم الحُجَّةَ على المشركين، قلْ يا محمَّدُ لهؤلاءِ المُكذِّبين بِكَ العادلينَ بيَ الأوْثانَ والأصنامَ: أرأيتم، أيُّها المُشرِكونَ باللهِ غيرَه، إنْ أَصَمَّكُمُ اللهُ فذَهَبَ بأسماعِكم، وأَعْماكم فذَهَبَ بِأبصارِكم، وخَتَمَ على قلوبِكم فطَبَعَ عليْها، حتى لا تَفقهوا قولاً ولا تُبْصِروا حُجَّةً، أيَّ إلهٍ غيرَ اللهِ الذي خلقكم يرُدُّ عليكم ما ذَهَبَ اللهُ بِه مِنْكم مِنَ الأسماعِ والأبْصارِ والأَفْهام، حتى يستحقَّ عبادتَكم له أو أن تشرِكوهُ في عِبادَةِ ربِّكم الذي يَقْدِرُ على أن يَذْهَبِ منكم بهذه النعمِ التي أنعم بها عليكم؟، ومن غيرُه قادرٌ على ردِّها عليكم إذا شاء؟ فالذين تعبدونهم مِنْ دونِ اللهِ أو تشركونهم في العبادةِ لا يملكون لَكمْ ضَرًّا ولا نَفْعًا، وإنما يَستَحِقُّ العِبادةَ مَنْ كان بِيَدِهِ الضَرُّ والنَّفْعُ، والقَبْضُ والبَسْطُ، القادِرُ على كلِّ ما أَرادَ، لا العاجزُ الذي لا يَقْدِرُ على شيءٍ.
ومعنى أَخْذِ اللهُِ سمعِهم وأَبْصارِهِم والخَتْمِ على أَفئِدَتهم، أَنْ يُصْبِحوا لا يَسمعون حقيقةً ولا يُبْصِرونَ حَقيقةً، ولا يَفقهونَ فيَسَلِبَهُم سبْحانَه الفَهمَ والإدْراكَ، وواضحٌ أنَّ أخذَ السَمْعِ والبَصَرِ يَكونُ بعدمِ السَماعِ والإبْصارِ؛ لأنَّ هاتين الحاسَّتين تَسمَعانِ وتَريان، وأَخْذُهما فَقْدُ عَمَلِهِما، ولكنَّ الأفئدةَ لا تُؤخَذُ بَلْ هي باقيةٌ، ولكنْ يُغشى عليها، فليس الجُنونُ ذَهابُ العَقْلِ، وإنما الجُنون سَتْرُ العَقلِ فلا يُدْرِكُ الأُمورَ على وجْهِها، ولِذلك عبرَ عنْ فَقدِ الإدْراكِ بالجِنَّةِ؛ لأنَّ العَقلَ يُستَرُ ولا يَذْهبُ كما يَذْهَبُ السَّمْعُ والبَصَرُ.
وقد كان سبحانَه وتَعالى قد ذَكَرَ قبلَ هذه الآيةِ الكريمةِ ما يَنْزِلُ حولَهم مِنْ دَمارٍ ثمَّ يُصيبُهم، وهُنا ذَكَر ما يَنْزِلُ بحواسِّهم وكَيانُهم قائمٌ لم يَنْقُصْ شيئًا، وفيها بيانٌ لِقدرَةِ اللهِ تعالى عليهم في أنفُسِهم وفي أَجزائهم وحواسِّهِم، وامْتِلاكِه لهذِه المَداخلِ التي تُكَوِّنُ إِدْراكَهم وهي السَّمْعُ والبَصَرُ والفُؤادُ؛ كما قالَ تعالى في آيةٍ أُخرى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} يونس: (31).
قولُه: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} يَصْدِفون: معناهُ يُعْرِضُون، يُقالُ: صَدَف عَنِ الشيءِ صَدْفًا وصُدُوفًا وصَدافِيَةً، قال عديُّ بْنُ الرِّقاعِ العامليُّ:
إذا ذكرْنَ حديثًا قُلْنَ أَحْسَنَهُ ............ وهُنَّ عنْ كلِّ سُوءٍ يُتَّقى صُدُفُ
صُدُف: جمعُ صَدُوفٍ ك صُبُرٍ في جمعِ صَبُورٍ، وقيل: مَعنى صَدَفَ: مالَ، مأخوذٌ مِنَ الصَّدَفِ في البَعيرِ وهُو أنْ يَميلَ خِفُّهُ مِنَ اليَدِ إلى الرِّجْلِ مِنَ الجانِبِ الوَحْشِيِّ. والصَّدَفُ جمعُ صَدَفَةٍ وهي المَحارةُ التي تكونُ فيها الدُّرَّةُ قال:
وزادَها عَجَبًا أَنْ رُحْتُ في سُبُلٍ ....... وما دَرَتْ دَوَرَان الدُّرِّ في الصَّدَفِ
والصَّدَفُ والصُّدُفُ بفتحِ الصادِ والدالِ وضَمِّهِما، وضَمِّ الصادِ وسُكونِ الدالِ ناحيةُ الجَبَلِ المُرتَفِعِ.
قولُه تعالى: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله} جملةٌ الاسْتِفْهاميَّةٌ في مَوْضِعِ نَصْبِ مفعولٍ ثانٍ والمفعولُ الأوَّلُ محذوفٌ تَقديرُهُ: أَرَأَيْتُمْ سَمْعَكم وأَبْصارَكم إنْ أَخَذَها اللهُ، وجوابُ الشَرْطِ محذوفٌ. ولم يُؤْتَ هنا بِكافِ الخِطابِ وأُتيَ بِه هُناك؛ لأنَّ التَهديدَ هناك أَعْظَمُ فناسَبَ التأكيدَ بالإِتْيانِ بِكافِ الخِطابِ، ولمَّا لم يُؤْتَ بالكافِ وَجَبَ بُروزُ علامةِ الجَمْعِ في التاءِ لِئَلاَّ يَلْتَبِسَ، ولو جِيءَ مَعَها بالكافِ لا سْتُغْنِيَ بها، وتَوحيدُ السَمْعِ وجَمْعُ الأَبْصارِ مَفهومٌ
ممَّا تقدَّم ذكرُه في البقرةِ.
قولُه: {مَنْ إلهٌ غيرُ الله يأتيكم به} "مَنْ" اسْتفهاميَّةٌ، مُبْتَدَأٌ، و"إلهٌ" خَبَرٌ، و"غيرُ الله" صفةٌ بـ "إلهٌ" و"يأتيكم" صفةٌ ثانيةٌ، و"به" الهاء ضميرٌ يعودُ على سمعكم. وقيل: يعودُ على الجميع، وَوُحِّدَ ذَهابًا بِهِ مَذْهَبَ اسْمِ الإِشارةِ، وقيلَ: تَعودُ على الهَدْيِ المَدلولِ عَلَيْه بالمَعنى. وقيلَ: يَعودُ على المأخوذِ والمَختومِ المَدْلولِ عليهِما بالأَخْذِ والخَتْمِ. والاسْتِفهامُ هُنا للإِنْكارِ.
قولُه: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} كيف: معمولةٌ لِـ "نُصَرِّفُ"، ونَصْبُها: إمَّا على التَشبيهِ بالحالِ أوِ التَشبيهِ بالظَرْفِ، وهيَ مُعَلِّقةٌ لـ "انْظُرْ" فهي في محلِّ نَصْبٍ بإسْقاطِ حرْفِ الجَرِّ، وهذا كُلُّهُ ظاهرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ.
وقرأ الجمهورُ: "به انظر" بِكَسْرِ الهاءِ على الأصلِ، وروى المُسَيِّبي عن نافع: "بِهُ انْظُرْ" بضمِّها نَظَرًا إلى الأَصْل: وقَرأَ الجُمهورُ أيْضًا: "نُصَرِّف" مُضَعَّفًا، وقُرِئَ شاذًّا: "نَصْرِف" بكَسْرِ الراءِ مِنْ صَرَفَ ثُلاثِيًّا.