وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
(13)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} هو احْتِجَاجٌ ثانٍ عَلَيْهِمْ. و"سكَنَ" أَيْ ثَبَتَ، و"سَكَنَ" حلَّ، فهو مِنَ السُكْنَى، وقيل: هو مِنَ السُكونِ وهو ضَعيفٌ لأنَّ الأشياءَ منها ساكنةٌ ومتحرِّكةٌ فلا يَعمُّ، والمقصود عُمومُ مُلْكِهِ تَعالى لَكُلِّ شيءٍ، وَ"سَكَنَ" أيضًا هَدَأَ وَاسْتَقَرَّ، وَالْمُرَادُ مَا سَكَنَ وَمَا تَحَرَّكَ، فَحُذِفَ لِعِلْمِ السَّامِعِ. وَقِيلَ: خَصَّ السَّاكِنَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مَا يَعُمُّهُ السُّكُونُ أَكْثَرُ مِمَّا تَعُمُّهُ الْحَرَكَةُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى مَا خَلَقَ، فَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ مُتَحَرِّكِهَا وَسَاكِنِهَا، فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالسُّكُونِ ضِدَّ الْحَرَكَةِ بَلِ الْمُرَادُ الْخَلْقُ، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ شَتَاتَ الْأَقْوَالِ. فاللهُ تَعَالَى هُوَ المُتَصَرِّفُ فِي الخَلْقِ كُلِّهٍ دَقِيقِهِ وجَلِيلِهِ، كَمَا يَشَاءُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الرُّبُوبِيَّةُ الكَامِلَةِ، وَجَمِيعِ مَا فِي الوُجُودِ عِبَادٌ للهِ، وَخَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُمْ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَقَدْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيءٍ مِنْ حَرَكَاتِ العِبَادِ.
قولُهُ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} السميع: أي السميعُ لأصواتهم، المُبالِغُ في سَماعِ كلِّ مَسموعٍ فيَسمَعُ هواجسَ كلِّ ما يَسْكُنُ. "العليمُ" بأحوالهم وما يُسِرُّونَ فِي ضَمَائِرِهِمْ وما يعلنون، أي المُبالغُ في العِلْمِ بِكلِّ مَعلومٍ مِنَ الأجناسِ المُختلِفةِ؛ والجُملةُ مَسوقةٌ لِبيانِ إحاطةِ سمعِه وعِلمِه ـ سبحانَه وتعالى ـ بعدَ بيانِ إحاطةِ قدرتِه ـ جَلَّ شأنُه ـ أو للوَعيدِ على أَقوالِهم وأَفعالِهم ولِذا خَصَّ السمعَ والعِلمَ بالذِكرِ.
وَقِيلَ في سببِ النزول: إنّها نَزَلَتِ لِأَنَّ قريشًا قَالُوا: عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى مَا تَفْعَلُ إِلَّا الْحَاجَةُ، فَنَحْنُ نَجْمَعُ لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَصِيرَ أَغْنَانَا، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: أَخْبِرْهُمْ أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ للهِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُغْنِيَنِي.
قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ} جملة من مبتدأ وخبر قيل هي في محل نصب نسقاً على قوله: "لله" أي على الجملة المحكية بـ "قل" أي: قل: هو لله وقل: له ما سكن. والأظهر أنَّها استئناف إخبار بذلك. و"ما" موصولة بمعنى الذي، ولا يجوز غيرُ ذلك. و"سَكَنْ" قيلَ: معناه ثَبَتَ واسْتَقَرَ. وقيلَ: هو مِنْ سَكَن مُقابِلَ تَحَرَّك، فعلى الأوَّلِ لا حَذْفَ في الآية الكريمة، وتَعَدِّيه بـ "في" كما في قوله: {وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ} إبراهيم: 45. و اختلفوا على الثاني، فمنهم مَنْ قال: لا بُدَّ مِنْ مَحذوفٍ لِفَهْمِ المعنى، وقدَّر ذلك المحذوفَ معطوفًا فقال: تقديرُه: ولَهُ ما سَكَنَ وما تَحَرَّك، كقولِه في موضِعٍ آخَرَ: {تَقِيكُمُ الحرَّ} النحل: 81. أيْ: والبَرْدَ، وحَذْفُ المعطوفِ كثيرٌ في كلامِ العربِ، قالَ امْرُؤ القيسِ:
كأنَّ الحصى مِنْ خلفِها وأَمامِها .......... إذا نَجَلَتْهُ رِجْلُها خَذْفُ أَعْسَرا
يُريدُ: رجلَها ويدَها. وقالَ النابغةُ:
فما كان بين الخيرِ لو جاءَ سالمًا ............... أبو حُجُرٍ إلَّا لَيالٍ قَلائلُ
يريد: بين الخير وبيني.
ومنهم مَنْ قالَ: لا حَذْفَ؛ لأنَّ كلَّ متحرِّكٍ قد يُسَكَّن. وقيلَ: لأنَّ المتحرِّكَ أَقَلُّ والساكنَ أَكثرُ، فلِذلك أُوثِرَ بالذِكْرِ.