قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ
(50)
قَوْلُهُ تَعَالَى جّدُّه: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ} هذا جَوابٌ لقولِهم: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} الأنعام: 37. فَالْمَعْنَى لَيْسَ عِنْدِي خَزَائِنُ قُدْرَتِهِ فَأَنْزَلَ مَا اقْتَرَحْتُمُوهُ مِنَ الآيَاتِ، وَلا أَعْلَمَ الْغَيْبَ فَأُخْبِرُكُمْ بِهِ. وَالْخِزَانَةُ مَا يُخَزَّنُ فِيهِ الشَّيْءُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: ((فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطَعِمَاتِهِمْ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرَبَتُهُ فَتُكْسَرُ خِزَانَتُهُ)). وَخَزَائِنُ اللهِ مَقْدُورَاتُهُ، أَيْ لا أَمْلِكُ أَنْ أَفْعَلَ كُلَّ مَا أُرِيدُ مِمَّا تَقْتَرِحُونَ.
وكانَ المُشرِكونَ يَسْتَكْثِرونَ أَنْ يَكونَ محَمَّدًا صلى اللهُ عليه وسلَّم نَبِيَّا مُرْسَلاً، ولم يَكنْ مِنَ الأغْنياءِ العُظَماءِ في أَمْوالهِمْ، بَلْ كان يَتيمًا فَقيرًا، فقدْ قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرآنُ عَلَى رَجُلٍ منَ الْقَرْيتينِ عَظِيمٍ}، وحَسِبُوا أنَّ النَبيَّ يجبُ أنْ يَكونَ محُدِّثًا عَنِ الغيبِِ، وقد ذَكَرَ النَبِيُّ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ أَنَّهُ لا يَعلَمُ الغيبَ، وأَمَرَهُ اللهُ تعالى أنْ يَقولَ: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. (188). وقد كانوا يقولون إنهم يُريدون مَلِكًا رَسُولاً. فقد أَخبرَ تَعالى عنهم فقال: {وقالوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ}. وقد توَلّى الله سبحانَه وتَعالى الرَدّ عليهم في هذه الآيةِ، فأَمَرَهُ بأنْ يقولَ لهم: "قُل لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ" أَمَرَهُ اللهُ تَعالى بأنْ يُحَدِّدَ مضمونَ الرِّسالَةِ، لألاَّ يَتَوَهَّموا أنَّ الرِسالةَ تَقتَضي أَنْ يَكونَ الرسولُ مالِكًا للأموالِ والخَزائنِ، ولا أَنْ يَكونَ عَليمًا بالغَيْبِ، وأَنْ الرَسولَ لم يَدَّعِ شيئًا مِنْ ذلك، وإنَّه ليست لَهُ خاصَّةٌ إلاَّ أنَّه يُبَشِّرُ ويُنذِرُ، وأنَّه يُوحى إليْه مِنْ رَبِّ العالمين، وأَنَّه مَعَ مَنْ يَدْعوهم يَتَّبِعُ ما يُوحى إليْه مِنْ رَبِّهِ. وإنَّ الرِسالةَ الإلهيَّة يَضَعُها اللهُ تعالى في عِبادِهِ المُصْطَفَيْنَ الأَخيارَ مِنَ البَشَرِ، فـ {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، وإنَّ محمَّدًا صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ ما تَطَاوَلَ بِفَضْلِ مالٍ ولا ثَرْوَةٍ، ولا غِنًى، ولكنَّه كانَ فَقيرًا يُحِسُّ بآلام الفقراءِ، وكان مِنَ البَشَرِ، لِيُخاطِبَ البَشَرَ، {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ}. وإنَّ التَفرقَةَ ليست بين الغِنى والفَقْرِ، وإنَّما بين العِلمِ والجهلِ وبين الهِدايَةِ والضلالِ؛ ولِذا قالَ سبحانَه في التفرقَةِ بين مَنِ اسْتَبْصَرَ وأَدْرَكَ ولو فَقيرًا، وبينَ مَنْ ضَلَّ وغَوى، ولو كانَ غَنِيًّا: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ". فأمرَ اللهُ تعالى نبيَّهُ بأنْ يُنَبِّهَهم إلى أَنَّه لا يَستوي العالِمُ والجاهِلُ والمَهدِي والضالُّ، والرَشيدُ والسَفيهُ، وكان أَمْرُ اللهِ تَعالى بِذلِكَ لِنَبِيِّهِ، وتَكرارُ الأمرِ بأنْ يَقولَ لهم ما يَقولُ، لِفَضْلِ التَنبيهِ، ولِتَقْوِيَةِ الإيمانِ بأنَّه يَتَكَلَّمُ عن رَبِّهِ، ولأَنَّهُ الذي يَتَوَلّى مُحاججتَهم، والاستفهامُ هنا لِنَفْيِ الوُقوعِ مَعَ التَنْبِيهِ إلى هذا، والمُرادُ مِنَ الأعْمى غيرُ المُدْرِكِ للحقيقةِ وغيرُ المُهتَدي، ومَنْ طَمَسَ اللهُ تعالى على بَصيرتِه فأصبحَ لا يَصلُ الحَقُّ إليْه، والمُبْصِرُ مَنْ أَدْرَكَ كُلَّ هذا، ففي الكلامِ تشبيهُ الضلالِ بالعَمَى، وإدْراكُ الحقِّ والإذْعانُ لَهُ والاهْتِداءُ به بالإبصارِ؛ لأنَّه يَعيشُ في نُورِ البَصيرةِ، بينما الآخَرُ يَعيشُ في ظلامِ الجَهْلِ
والضَلالِ. وقدَّمَ العمى في الذِكْرِ علىَ الإبْصارِ؛ لأنَّ المُُشركين يَدَّعونَ أنَّهم مَعَ ضَلالِهم وجَهلِهم وبُعدِهم أَعْلى مَنْزِلَةً مِنْ أَتباعِ النَبيِّ صلى الله عليه وسلَّمَ مِنَ المؤمنين، وذلك لِكَثْرَةِ أَمْوالِهم، وقِلَّةِ أَمْوالِ المؤمنين، فَبَيَّنَ سبحانَهُ لهم أنَّهم لا يمكنُ أنْ يُساوُوهم في المَنزِلَةِ فَضْلاً على أَنْ يَكونوا أعلى منزِلةً منهم؛ لأنَّ الأعْمى ولو كانَ غَنِيًّا، لا يُساوي المُبْصِرَ ولو كانَ فَقيرًا، فنعمة البصرِ أثمن من نعمة المالِ فكم من غنيٍّ أعمى البَصَرِ يَوَدُّ لو اشترى الإبصارَ بكلِّ ما مَلَكتْ يَداهُ مِنْ مالٍ، فكان عليهم بَدَلَ أنْ يُفَضِّلوا أَنفُسَهم على المؤمنينَ لِفَقْرِهم أَنْ يَتَفَكَّروا ويَتَدَبَّروا في أَسْبابِ الفَقْرِ والغِنى، وأَسبابِ الفَضْلِ وأَسْبابِ العُلُوِّ والرفعةِ، وأنْ يَتَدبَّروا في حاضِرِ أَمْرِهم وقابِلِهِ، وأَنْ يَعْتَبِروا بالعِظاتِ والأَمْثالِ التي تُساقُ إليْهِمْ، ولذلك قالَ تعالى: "أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ".
قولُه: {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} المعنى ولا أَدَّعي أيضًا أَنّي أَعلَمُ الغيبَ مِنْ أَفعالِهِ عَزَّ وَجَلَّ حتى تَسأَلوني عَن وَقتِ الساعةِ أوْ وَقْتِ إِنزالِ العذابِ أوْ نحوِهما وخَصَّ ابْنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهُما الغيبَ بعاقبةِ ما يَصيرونَ إليْه، أيْ لا أَدَّعي ذلك، ولا أَدَّعي أيْضًا المَلَكِيَّةَ حتى تُكَلِّفوني مِنَ الأفاعيلِ الخارِقةِ للعاداتِ ما لا يُطيقُه البَشَرُ مِنَ الارْتِقاءِ في السماءِ ونحوِهِ، أوْ تَعُدُّوا عَدَمَ اتِّصافي بِصفاتهم قادِحًا في أَمْري كما يُنْبِئُ عنْه قولُهم: {مَا لهذا الرَّسولِ يَأْكُلُ الطعامَ وَيَمْشِي فِي الأسواقِ} الفُرقان: 7. فقد كَانَ الْقَوْمُ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْمَلائِكَةَ أَفْضَلُ، أَيْ لَسْتُ بِمَلَكٍ فَأُشَاهِدُ مِنْ أُمُورِ اللهِ مَا لا يَشْهَدُهُ الْبَشَرُ. وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمَلائِكَةَ أَفْضَلُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ مَضَى فِي سورة "الْبَقَرَةِ" تفصيلُ الْقَوْلُ فِيهِ فَتَأَمَّلْهُ هُنَاكَ. وليس في الآية على هذا دليلٌ على تَفضيلِ الملائكةِ على الأنْبياءِ عليهم الصلاةُ والسلامُ فيما هو مَحَلُّ النِّزاعِ كما زَعَمَ الجِبائي لأنها إنما وَرَدَتْ رَدًّا على الكُفَّارِ في قولهم {مَا لهذا الرسولِ} الخ، وتَكليفِهم لَه عليهِم الصلاةُ والسلامُ بِنَحوِ الرُّقيِّ في السَماءِ. ونحن لا نَدَّعي تميُّزَ الأنبياءِ على الملائكةِ عليهِمُ جميعًا الصلاةُ والسَّلامُ في عدمِ الأَكْلِ مَثَلاً والقُدرةِ على الأفاعيلِ الخارقةِ كالارتقاءِ ونحوِهِ، ولا مُساوَاتِهم لهمْ في ذلك، بلْ كونُ الملائكةِ متميّزين عليهم، عليهمُ الصلاةُ والسلامُ في ذلك ممَّا أَجمعَ عليْه المُوافِقُ والمُخالِفُ ولا يُوجِبُ ذلك اتِّفاقًا على أنَّ الملائكةَ أَفضلُ مِنْهم بالمعنى المُتَنازَعِ فيهِ وإلاَّ لَكانَ كَثيرٌ مِنَ الحَيَواناتِ أَفْضَلَ مِنَ الإنْسانِ ولا يَدَّعي ذلك إلاَّ جَمَادٌ.
وهذا الجوابُ أَظْهَرُ ممَّا نُقِلَ عَنِ القاضي زَكريَّا مِنْ أَنَّ هَذا القولَ
منْه صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ مِنْ بابِ التَواضُعِ وإظْهارِ العُبوديَّةِ نَظيرَ قولِهِ عليْه الصلاةُ والسَلامُ: ((لا تُفَضِّلوني على ابْنِ مَتَّى)). بلْ هو ليْسَ بِشيْءٍ كما لا يَخفى. وقِيلَ: إنَّ الأَفضليةَ مَبْنِيَّةٌ على زَعْمِ المُخاطَبين وهو مِنَ ضِيقِ العَطَنِ، وقيلَ: حيثُ كان مَعنى الآيَةِ لا أَدَّعي الأُلُوهيَّةِ ولا المَلَكِيَّةَ لا يَكونُ فيها تَرَقٍّ مِنَ الأَدْنى إلى الأَعْلى بَلْ هِيَ حِينئذٍ ظاهرةٌ في التَدَلِّي، وبِذلكَ تُهْدَمُ قاعدةُ اسْتِدلالِ الزَمخشريِّ في قولِه تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلاَ المَلائكةُ المُقرَّبون} النساء: 172. على تَفْضيلِ المَلَكِ على البَشَرِ إذْ لا يُتَصَوَّرُ التَرَقِّي مِنَ الأُلوهِيَّة إلى مَا هُو أَعْلا مِنْها إذْ لا أَعْلا لِيَتَرَقَّى إليه. وتُعِقِّبَ بأنَّه لا هَدْمَ لها مَعَ إِعادَةِ "لا أَقُولَ" الذي جَعَلَهُ أَمْرًا مُسْتَقِلاًّ كالإضْرابِ إذِ المَعنى لا أَدَّعي الأُلُوهيَّةَ بَلْ ولا المَلَكِيَّةَ، ولِذا كَرَّرَ "لا أَقُولَ".
وقالَ بعضُهم في التَفرِقَةِ بين المَقاميْنِ: إنَّ مَقامَ نَفْيِ الاسْتِنْكافِ يَنْبَغي فيه أَنْ يَكونَ المُتَأَخِّرُ أَعْلى لِئَلاَّ يُلْغُو ذِكْرَهُ، ومَقامُ نَفْيِ الادِّعاءِ بالعَكْسِ فإنَّ مَنْ لا يَتَجاسَرُ على دَعْوى المَلَكِيَّةِ أَوْلى أَنْ لا يَتَجاسَرَ على ادَعاءِ الأُلوهِيَّةِ الأَشَدِّ اسْتِبْعادًا، نعمْ في كونِ المُرادِ مِنَ الأَوَّلِ نَفْيُ دَعوى الأُلوهِيَّة، والتَبَرُّؤِ مِنْها نَظَرٌ، وإلاَّ لَقيلَ لا أَقولُ لكم إني إِلهٌ كما قيلَ: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّي مَلَكٌ} وأيضًا في الكِنايَةِ عن الأُلوهيَّة بِـ "عندي خزائن الله" ما لا يخفى مِنَ البَشاعةِ، وإضافةُ الخَزائنِ إليْه تعالى مُنافِيَةٌ لها. ودَفْعُ المُنافاةِ بأنَّ دَعوَى الأُلوهيَّةِ ليسَ دَعوى أَنْ يَكونَ هُو اللهُ تَعالى بَلْ أَنْ يَكونَ شَريكًا لَهُ عَزَّ اسْمُهُ في الأُلوهيَّةِ فيه نَظَرٌ لأنَّ إضافةَ الخَزائنِ إليْه تَعالى اختصاصِيَّةٌ فتُنافي الشِرْكَةَ، اللَّهُمَّ إلاَّ أَنْ يَكونَ خزائنَ مثلُ خَزائنِ اللهِ أوْ تُنسبُ إليْهِ وهو كما تَرى. ومن هنا قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله: إنَّ جَعلَ ذلك تَبرِّيًا عنْ دَعوى الأُلوهيَّةِ مما لا وَجْهَ لَه قطعًا.
قَوْلُهُ: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ} ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لا يَقْطَعُ أَمْرًا إِلاَّ إِذَا كَانَ فِيهِ وَحْيٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ يَجُوزُ مِنْهُمُ الاجْتِهَادُ، وَالْقِيَاسُ عَلَى
الْمَنْصُوصِ، وَالْقِيَاسُ أَحَدُ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ. ولا يَخفى أنَّ هذا أبلغُ مِنْ إنِّي نبيٌّ أوْ رَسولٌ ولِذا عَدَلَ إليْه. ولا دَلالةَ فيه لِنُفاةِ القياسِ ولا لِمانِعي جَوازِ اجْتهادِهِ عليْهِ الصَلاةُ والسَلامُ كما لا يَخفى. وذَهَبَ البَعْضُ إلى أَنَّ المَقصودَ مِنْ هذا الرَدِّ على الكَفَرَةِ كأنَّه قيلَ: إنَّ هذه دَعوى ولَيْسَتْ ممَّا يُسْتَبْعَدُ إنَّما المُستبْعَدُ ادِّعاءُ البَشَرِ الأُلوهِيَّةَ أوْ المَلَكِيَّةَ ولَسْتُ أَدَّعيهِما. وقدْ عَلِمَتَ آنِفًا ما في دَعوى أنَّ المَقصودَ ممَّا تَقَدَّمَ نَفْيُ ادِّعاءِ الأُلوهِيََّةِ والمَلَكِيَّةِ.
قَوْلُهُ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمى وَالْبَصِيرُ} أيْ الضَالُ والمُهتَدِي على الإطلاقِ كما قالَ غيرُ واحدٍ من المفسِّرين، وقالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهِ: "الأَعْمى وَالْبَصِيرُ" أَيِ الْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ. وَقِيلَ: الْجَاهِلُ وَالْعَالِمُ. والإستفهامُ إنْكارِيٌّ، والمُرادُ إنْكارُ اسْتِواءِ مَنْ لا يَعلَمُ ما ذُكِرَ مِنَ الحقائقِ ومَنْ يَعلَمُها مَعَ الإشعارِ بِكمالِ ظُهورِها والتَنفيرِ عنِ الضَلالِ والتَرغيبِ في الاهتداءِ، وتكريرُ الأمرِ (لتثبيت) التَبْكيتِ وتَأكيدِ الإلْزامِِ.
قولُه: {أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} أَنَّهُمَا لا يَستويان؟ أي ألاَ تَسمَعونَ هذا الكلامَ الحَقَّ؟ أَفَلا تَتَفَكَّرونَ فيهِ أو أَتَسْمَعونَه فلا تَتَفَكَّرون. وذَكَرَ بعضُهم أنَّ في "الأعمى والبصيرِ" ثلاثُ احْتِمالاتٍ: إمَّا أنْ يَكونا مِثالاً للضالِّ والمُهْتَدي، أوْ مِثالاً للجاهلِ والعالِمِ، أوْ مثالاً لِمُدَّعي المُستحيلِ كالأُلوهِيَّةِ والمَلَكِيَّةِ، ومُدَّعي المُستقيمِ كالنُبُوَّةِ. وإنَّ المعنى لا يَسْتَوي هذان الصِنْفانِ أَفَلا تَتَفَكَّرونَ في ذلكَ فتَهْتَدوا، أي فتُمَيِّزُوا بيْنَ ادِّعاءِ الحَقِّ والباطِلِ أوْ فتَعْلَمُوا أَنَّ اتِّباعَ الوَحْيِ ممَّا لا مَحيصَ عنْه. واعتُرِضَ القولُ باستحالةِ المَلَكِيَّةِ بأنَّها مِنَ المُمْكناتِ لأنَّ الجواهرَ مُتَماثِلَةٌ والمعاني القائمةُ ببَعْضِها يَجوزُ أنْ تَقومَ بِكُلِّها. وأُجيبَ بعدَمِ التسليمِ بما فيهِ لأَنَّ البَشَرَ حالَ كونِه بشرًا محالٌ أنْ يَكونَ مَلَكًا لِتَمايُزِهما بالعَوارِضِ المُتنافِيَةِ بِلا خِلافٍ، وإقدامُ آدَمَ عليه الصلاةُ والسلامُ على الأَكلِ بعدَ سماعِ {مَا نهاكما رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} الأعْراف: 20. ليس طمَعًا في المَلَكِيَّةِ حالَ البَشَرِيَّةِ، على أَنَّه يجوزُ أَنْ يُقالَ: إنَّه لم يَطْمَعْ في المَلَكِيَّةِ أَصْلاً وإنَّما طَمِعَ في الخُلودِ فَأَكَلَ.
قولُه تعالى: {ولا أَعْلَمُ الغيبَ} معطوفٌ على "لا أقولُ" لا مَعمولٌ لَه، فهو صلى الله عليه وسلَّم أُمِرَ أنْ يُخْبِرَ عن نفسِه بهذِه الجُملِ الثلاثِ فهي مَعمولَةٌ للأمرِ الذي هوَ "قُلْ"، وقيل هي جمْلةٌ في محلِّ نَصْبٍ مَقولَ القولِ عَطْفًا على قولِه: "عندي خزائنُ اللهِ" لأنَّه مِنْ جملة المَقولِ، كأنَّه قال: لا أَقولُ لَكمْ هذا القولَ ولا هذا القولَ، وفيه نظرٌ مِنْ حيثُ إنَّه يُؤدِّي إلى أَنَّه يَصيرُ التقديرُ: ولا أَقولُ لَكم لا أَعْلَمُ الغيب، وليس بصحيحٍ.
قولُه: {أفلا تتفكّرون} استفهامٌ للتقريرِ والتوبيخِ، ومَناطُ التَوبيخِ عدمُ الأَمْرَيْنِ (علمُ الغيب ومُلْكيَّةُ خزائنِ الله)، وعَدَمُ التَفكرِ مَعَ تحقُّقِ ما يُوجِبُه. والكلامُ داخلٌ تحتَ الأَمْرِ، لأنَّ فيه حَثٌّ على التفكُّرِ. والجُملةُ معطوفةٌ على مُقَدَّرٍ يَقتَضيهِ المَقامُ. وهي تَذْييلٌ لما مَضى إمَّا مِنْ أَوَّلِ السُورَةِ إلى هُنا أوْ تذييلٌ لِقولِهِ سُبْحانَه: {إِنْ أَتَّبِعُ} الخ، أوْ لِقولِهِ عَزَّ شأنُهُ {لا أَقُولَ ..}.