فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
(125)
قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ} أيْ فمن يُرِدِ اللهُ أنْ يُعرِّفَهُ طَريقَ الحَقِّ ويُوفِّقَهُ للإيمان. وقالَ فريقٌ مِنَ المُعْتَزِلَةِ (جَعفر بْنِ حَرْبٍ والكَعْبِيِّ) تَأْويلُه: أَنَّ مَنْ قَبِلَ هِدايةَ اللهِ في الابْتِداءِ شَرَحَ اللهُ صَدرَه بعدَ ذلك بالخيراتِ؛ ثوابًا لما قَبِلَ مِنَ الهداية، ومَنْ تَرَكَ قبولَ هِدايةِ اللهِ في الابْتِداءِ عاقَبَهُ اللهُ بِضيقِ صَدْرِهِ؛ عقوبةً له في تَرَكَ قَبولِهِا؛ إذ للهِ أنْ يَهدي الخلقَ كلَّهم وأَنْ يَشرَحَ صُدرَهم للإسلام، لكنَّهم لَمْ يَهْتَدوا.
وقال فريق آخرُ منهم: "فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ" طريقَ الجَنَّةِ في الآخِرَةِ شَرَحَ صَدْرَهُ في الدُنيا للإسلامِ، ومَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُضِلَّهُ طَريقَ الجَنَّةِ في الآخرةِ جَعَلَ صَدْرَهُ في الدُنيا ضَيِّقًا حَرجًا؛ فهم إذاً فقد أقرّوا بأنَّهُ ـ سبحانَه ـ أرادَ أَنْ يُضِلَّهم، فكيف يقولون إنَّه أَرادَ أَنْ يَهديَ الخلقَ كُلَّهم ويَشْرَحَ صَدْرَهم للإسْلام، ثمَّ يَقولون: إنَّه يُضِلُّهم طريقَ الجَنَّةِ في الآخرة؛ فهذا جورٌ منه تعالى على زَعْمِهم؛ لأنَّه أَرادَ في الدُنيا أَنْ يَهديَهم ويُريدُ في الآخرةِ ـ أيضًا ـ لَهم بِعَيْنِهم أَنْ يُضِلَّهم عَنْ طريقِ الجَنَّةِ فهذا جَورٌ على حَسْبِ زعمِهم. وظاهرُ الآيةِ يَرُدُّ قولَهم ويَنْقُضُ مَذْهَبَهم؛ لأنَّه قال: "فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ حرجاً" فقد جَعَلَهم على صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ عَلِمَ مِنْهُم بِعِلْمِه الذي يَكْشِفُ حقائقَ الأمورِ وما تَكونُ عليه من أَنَّهُم يَختَارُون الهُدى ويَقْبَلُونهُ فأرادَ أنْ يَهديهم ويَشرَحَ صُدورهم للإسلام، وصِنْفٌ عَلِمَ منهم أنَّهم يَخْتارون الضَلالَ فأرادَه لَهم وجعلَ صدرَهم ضيقًا حَرَجًا، وهو مُنْتَهى العَدْلِ لأنَّه إذا لمْ يُرِدْ أَمْراً فَلَنْ يَكونَ البَتَّةَ، فكيفَ يَكونُ إذاً مُهْتَدٍ وضالٌّ؟! لكنَّهُ ـ سبحانَه وتعالى ـ عَلِمَ أَنَّ هذا سَيَخْتارُ طرَيقَ الهِدايةِ فأَرادَهُ لَهُ وَشَرَحَ صَدْرَهُ، وأَنَّ الآخَرَ سَيَخْتارُ طَريقَ الضَلالِ، فأَرادَهُ لَهُ وجَعَلَ صَدْرَهُ ضَيِّقاً للهِديةِ. ولقَدْ أكَّدَ ـ جَلَّ جَلالُهُ ـ هذا المَعنى في غيرِ مَوْضعٍ مِنْ كِتابِهِ العزيزِ، ومِنْ ذلك قولُهُ: {إنَّا هَدَيْناهُ السَبيلَ إمَّا شاكراً وإمَّا كَفُوراً} سورة الإنسان، الآية: 3. و{وهديناه النجدين} سورة البلد، الآية: 10. في جانبٍ مِنْ تَفْسيراتِها.
والمُعتزلةُ يَقولون: قد أَرادَ أنْ يَهديَ الكُلَّ لكنَّهم أَرادوا أَلاَّ يَهْتَدوا فلم يهتَدوا، وهذا يعني أنَّ إرادَتُهم قد غَلَبَتْ إرادَةَ اللهِ ـ تعالى ـ وهو فُحْشٌ مِنَ القولِ في حَقِّهِ ـ جَلَّ وعَلا ـ نَعوذُ باللهِ مِنْه ومِنْ كُلِّ زَيْغٍ عَنِ الحَقِّ، ولا قوَّةَ إلاَّ باللهِ.
قولُه: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} يُوَسِّعْهُ لَهُ، فيَتَّسِعُ للإسلامِ ويَنْفَسِحَ، وَيُوَفِّقْهُ إليه وَيُزَيِّنْ عِنْدَهُ ثَوَابَهُ. وهُوَ من المَجازِ كِنايَة عن جعلِ النَّفسِ مهيَّأَةً لِقبولِ الحقِّ خاليةً ممَّا يَمنعُه ويُنافيه، قال أبو جعفرٍ المَدايِنِيُّ: سُئِلَ رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ عن ذلك فقيلَ لَهُ: كيف الشرحُ يا رسول الله؟ فقال: ((نورٌ يُقذَفُ في الصَدْرِ فيَنْشَرِحُ لَهُ ويَنْفَسِحُ)) فقيل: هل لذلك من آيةٍ يُعرَفُ بها يا رسولَ اللهِ؟ فقال ـ عليه الصلاةُ والسَلامُ: ((الإنابةُ إلى دارِ الخُلودِ، والتَجافي عن دارِ الغُرورِ، والاسْتِعْدادُ للموتِ قبلَ لقاءِ المَوْتِ)). أَخْرَجه ابْنُ المُباركِ في الزُهْدِ، وعبدُ الرزاق، والفريابي، وابْنُ أَبي شيبةَ وعبدُ بنُ حميدٍ، وابنُ جَريرٍ وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ، وأَخرجَ ابْنُ أبي الدنيا عنِ الحَسَنِ نحوَهُ أَيْضاً، وأَخرجَ أبو الشيخِ والحاكِمُ، وأَخرجَ سعيدٌ بْنُ مَنْصورٍ وابْنُ النَجَّارِ في تاريخِه نحوَهُ. وهذه الطُرُقُ يُقوّي بعضُها بعضاً والمُتَّصلُ يُقوّي المُرْسلَ، فالمَصيرُ إلى هذا التفسيرِ النَبَوِيِّ مُتَعَيِّنٌ كما جاء في فتح القدير: (2/162). وَشَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ وَسَّعَهُ بِالْبَيَانِ لِذَلِكَ. وشرحتُ الأمرَ: بيَّنْتُه وَأَوْضَحْتُهُ. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهَلْ يَنْشَرِحُ الصَّدْرُ؟ فَقَالَ: ((نَعَمْ يَدْخُلُ الْقَلْبَ نُورٌ)) فَقَالَ: وَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَةٍ؟ فَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ)).
قال الإمامُ القُشَيْريّ: المُسْلِمُ لا يَتَحرَّكُ في باطِنِهِ عِرْقٌ للمُنازَعَةِ مَعَ التَقْديرِ، فإنَّ الإسلامَ يَقتَضي تَسليمَ الكُلِّ بِلا اسْتِئْثارٍ، ومَنْ اسْتَثْقَلَ شيْئاً مِنَ التَكليفِ أَوْ بَقِيَ مِنْهُ نَفَسٌ لِكَراهيةِ شيءٍ فيُعدُّ غيرَ مُسْتَسْلِمٍ لِحُكْمِه ـ
جلَّ جلالُه.
قولُه: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} يُضلَّه: يُغْوِيَهُ ويَصْرِفُ اخْتِيارَهُ إلَيْهِ، أَيْ مَنْ لم تَتَدارَكْهُ العِنايةُ الإلهيَّةُ فَتَشْرَحُ صدرَه للإيمان، كما سَبَقَ بيانُه، بل تُرك لهوى نفسِهِ وغِوايَةِ شَيْطانِه. ولَيْسَ الإضْلالُ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ مِنْ جانِبِ مَنْ أَرادَ اللهُ تعالى إضْلالَه، إنَّما يَكونُ بِعَمَلٍ مِنْ جانِبِهِ قدْ كَتَبَهُ اللهُ تَعالى عَلَيْهِ، بأنْ تَهْوي نَفسُه في طريقِ الضَلالَةِ بالمَيْلِ إليها، والرَغْبَةِ فيها، والحِرْصِ على طَريقٍ يَدْفَعُه إليْهِ الغُرورُ ونِسيانُ الآخِرَةِ، وأَنْ يَعتَقِدَ أَنَّهُ لَا حياةَ إلاَّ الدُنْيا ومَا فيها. وإنَّه إذا سارَ على هذا النَّحْوِ أَرادَ اللهُ تعالى لَه الضَلالَ، وهو منتهى العدلِ، لأنَّهُ ما مِنْ أَمْرٍ يَحدُثُ في هذا الوُجودِ بمَعْزِلٍ عن إرادتِه ـ سبحانَه وتَعالى ـ فأنْ يُريدَ الهدى لهذا فيَهتديَ، ولا يُريدُ الضلالَ لِذاكَ فلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَضِلَّ، لا يَتَوافَقُ وعدالةِ الجَزاءِ الذي أعَدَّهُ لهما في الآخرةِ، مِنْ نَعيمٍ للمُهتَدي وعَذابٍ للضالِّ، والكُلُّ بِما كَتَبَهُ اللهُ تعالى عَلَيْه بمقتضى عِلْمِهِ السابق، وقد بيَّنَّا ذلك غيرَ مرَّة، بأنَّ العِلْمَ كاشِفٌ لا مُجْبِرٌ، وأَنَّ عِلمَهُ ـ سُبْحانهَ يَكْشِفُ الأَشْياءَ على حَقيقتِها قَبْلَ حُدوثِها وبَعْدَهُ بِلا وَسيلةٍ ولا واسِطَةٍ، لأنَّ عِلْمَهُ ـ سبحانه ـ قديم مُطْلَقٌ، بينَما عِلمُنا لا يستطيع معرفَةَ الأُمورِ إلاّ بَعدَ حُدوثِها وبِوِساطَةِ الحواسِّ الخمسِ، لأنَّ عِلمَنا حادثٌ ومحدودٌ. والعِلْمُ ـ بالنسبةِ إلينا ـ عِلْمانِ: عِلْمُ المُعامَلَةِ، وعِلْمُ المُكاشَفَةِ، فالأوَّلُ هو العِلمُ بِما يُقَرِّبُ إليْهِ ـ تعالى ـ وما يُبْعِدُ عنه، وهو مُقَدَّمٌ على الثاني الذي هو نورٌ يَظهَرُ في القلبِ، فيُشاهَدُ بِهِ الغَيْبُ لأنَّه الشَرْطُ لَهُ لا يَنْفَكُّ عَنْه، قالَ تعالى في سورةِ العنكبوت: {والذين جاهَدوا فِينا لَنَهْدِيَّنَهم سُبُلُنا} الآية: 69. ولأنَّه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ صرَّحَ في الحديثِ المَذكورِ آنِفاً بأنَّ الإنابةَ والتَجافي والاسْتِعْدادَ ـ التي هي مِنْ عِلْمِ المُعاملَةِ ـ علامةُ ذلك النُورِ فقال: ((نورٌ يَقذِفُهُ اللهُ في قلبِ المُؤمِنِ فَيَنْشَرِحُ لَهُ ويَنْفَسِحُ)). ويُقالُ مَنْ وَجَدَ أَنْوارَ الغَيْبِ ظَهَرَتْ لَهُ خَفايا الأُمورِ فلا يُشكِلُ عليْهِ شيءٌ مِنْ ذَواتِ الصُدورِ عِندَ ظُهورِ النُورِ، قالَ ـ صلى الله عليه وسلَّم: ((اتَّقوا فِراسَةَ المُؤْمِنِ فإنَّه يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ تعالى)). أَخْرَجَه البُخاريُّ في التاريخ والترمِذيُّ وابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ السني وأبو نُعيم وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والخَطيبُ عن أَبي سعيدٍ الخِدْرِيِّ ـ رضي الله عنه. وفي فضلِ المُكاشَفَةِ، ورَدَ قَوْلُهُ ـ عليْه الصلاةُ والسلامُ: ((فضلُ العالِمِ على العابِدِ كَفَضْلي عَلى أُمَّتي)). وفي روايةٍ أخرى ((كفضلي على أدناكم)) ـ أخرجه الترمذي وقال حديث حسنٌ غريب صحيح، وأخرجه غيره من أئمة الحديث من وجوه أخرى ـ إذْ غيرُ المُكاشَفَةِ تَبَعٌ للعَمَلِ لِثُبوتِهِ شَرْطاً لَهُ كما نصَّت الآيةُ الكريمةُ التي تقدَّمَ ذِكْرُها. ويُقالُ نُورٌ في البدايةِ هوَ نورُ العَقْلِ، ونورٌ في الوسائطِ هو نورُ العِلْمِ، ونورٌ في النِهايَةِ هو نورُ العِرفانِ؛ فصاحِبُ العَقلِ مَعَ البُرهانِ، وصاحبُ العِلْمِ مَعَ البَيانِ، وصاحبُ المَعْرِفَةِ في حُكْمِ العِيانِ.
قولُهُ: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ كما جاء في الصحيحين: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)). وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِشَرْحِ الصَّدْرِ وَتَنْوِيرِهِ. وَالدِّينُ الْعِبَادَاتُ، كَمَا قَالَ تعالى في محكم كتابه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ} سورة آل عمران، الآية: 19. وَدَلِيلُ خِطَابِهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا ضَيَّقَ صَدْرَهُ، وَأَبْعَدَ فَهْمَهُ فَلَمْ يُفَقِّهْهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: الْحَرَجُ مَوْضِعُ الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ، فَكَأَنَّ قَلْبَ الْكَافِرِ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْحِكْمَةُ كَمَا لَا تَصِلُ الرَّاعِيَةُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي الْتَفَّ شَجَرُهُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ هَذَا الْمَعْنَى، ذَكَرَهُ مَكِيّ والثَعلبيّ وغيرُهُما، أنَّ جَماعةً مِنَ الصَحابَةِ قرؤوا أَمامَ عمرَ ـ رضي اللهُ عنه: "ومَنْ يُرِدْ أَنْ يُضلَّهُ يَجعلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرِجاً" بِكَسْرِ الراءِ فقالَ عُمَر: يا فَتى ما الحَرَجَةُ فيكم؟ قالَ الحَرَجَةُ فينا الشَجَرَةُ تَكونُ بيْنَ الأَشْجارِ التي لا تَصِلُ إليْها راعيةً ولا وَحشِيَةً. فقال ـ رضي اللهُ عنه: كذلكَ قَلْبُ المُنافِقِ لا يَصِلُ إليْه شيءٌ مِنَ الخَيْرِ.
قَوْلُهُ: {كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ} مِنَ الصُعودِ وهُوَ الطُّلُوعُ، فقد شَبَّهَ
اللهُ الْكَافِرَ فِي نُفُورِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَثِقَلِهِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَكَلَّفَ مَا لَا يُطِيقُهُ، كَمَا أَنَّ صُعُودَ السَّمَاءِ لَا يُطَاقُ. وَكَذَلِكَ يَصَّاعَدُ وَأَصْلُهُ يَتَصَاعَدُ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ، ومَعْنَاهُ َيُكَلِّفُ نفسَهُ ما لا تُطيق، كَقَوْلِكَ: يَتَجَرَّعُ وَيَتَفَوَّقُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَافِرَ مِنْ ضِيقِ صَدْرِهِ كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى كَادَ قَلْبُهُ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ نَبْوًا عَنِ الْإِسْلَامِ.فعن ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ تعالى عنهما، قال: "كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ" يقول: فكما لا يَستَطيعُ ابْنُ آدمَ أَنْ يَبْلُغَ السَماءَ، فكذلك لا يَسْتَطيعُ أَنْ يَدْخُلَ التَوْحيدُ والإيمانُ قَلبَه، حتَّى يُدْخِلَهُ اللهُ في قلبِهِ. وقالَ الإمامُ الأوزاعيُّ: كيفَ يَستَطيعُ مَنْ جَعلَ اللهُ صَدْرَهُ ضَيِّقاً أَنْ يَكونَ مُسْلِماً. وقال الإمامُ أَبو جَعْفَر بْنُ جَريرٍ: وهذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِقَلْبِ هذا الكافرِ في شِدَّةِ تَضْييقِهِ إيَّاهُ عنْ وُصولِ الإيمانِ إليه. يقولُ: فمَثَلُه في امْتِناعِهِ مِنْ قَبولِ الإيمانِ وضِيقِهِ عنْ وُصولِهِ إليْهِ، مَثَلُ امْتِناعِهِ مِنَ الصُعودِ إلى السَماءِ وعَجْزِهِ عنْه؛ لأنَّه ليْسَ في وُسْعِهِ وطاقَتِهِ.
قولُهُ: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الذين لا يؤمنون}، كَجَعْلِهِ ضِيقَ الصَّدْرِ فِي أَجْسَادِهِمْ. يَجعلُ الرجسِ عَلَيْهم. وأَصْلُ الرِّجسِ ـ على ما قيلَ ـ مِنَ الارْتِجاسِ وهوَ الاضْطِرابُ، وَأَصْلُ الرِّجْسِ فِي اللُّغَةِ النَّتْنُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الْعَذَابُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: الرِّجْسُ هُوَ الشَّيْطَانُ، أَيْ يُسَلِّطُهُ عَلَيْهِمْ. فإذا سَمِعَ أحدُهم ذِكْرَ اللهِ اشْمَأَزَّ قلبُهُ، وإذا ذَكَرَ شَيْئاً مِنْ عِبادَةِ الأَصْنامِ ارْتاحَ إلى ذلك. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرِّجْسُ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ الرِّجْسُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ هُوَ النَّتْنُ. فَمَعْنَى الْآيَةِ وَاللهُ أَعْلَمُ: وَيَجْعَلُ اللَّعْنَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ. "عَلَى الَّذِينَ لَا يؤمنون"، أيْ عليهم. ووضَعَ الظاهرَ مَوْضِعَ المُضْمَرِ للتَعليلِ.
وقولُهُ تَعالى: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يشرح صدرهُ للإسلام} مَنْ: يَجوز فيهِا أنْ تَكونَ مرفوعةً بالابْتِداءِ، و"يُرِد" فعلُ الشرطِ، والجُمْلَةُ مِنْهُ في مَحَلِّ رفعٍ خبراً لـ "مَنْ"، كما يَجوزُ أنْ تكونَ "مَنْ" منْصوبةً بمُقدَّرٍ بعدَها على الاشْتِغالِ أيْ: مَنْ يُوَفِقِ اللهُ يُرِدْ أَنْ يَهْدِيَهُ، و"أنْ يهديه" مَفعولُ "يُرِد". و"يشرح صدرَهُ" جوابُ الشرطِ، والشرحِ: البَسْطُ والسَّعَةُ والفتحُ ومنه: شَرَحْتُ اللحم أيْ فتَحْتُهُ. وشرَحَ الكلامَ بَسَطَهُ وفَتَحَ مُغْلَقَهُ، وهو استِعارةٌ في المعاني، حقيقةٌ في الأَعْيانِ.
وقوله: {يَجْعَلْ} يَجوزُ أنْ تكون التصييريةَ، ويجوزُ أنْ تَكونَ الخَلْقِيَّةَ، كما يَجوزُ أنْ تكونَ بمَعنى سَمَّى، وهو ما ذهب إليه المُعتزِلَة كالفارسِيِّ وغيرِهِ مِنْ مُعْتَزِلَةِ النُحاةِ، لأنَّ اللهَ لا يُصَيِّر ولا يَخْلُقُ أَحَداً كذا، فعلى الأوَّلِ يَكونُ "ضَيِّقاً" مَفعولاً عندَ مَنْ شدَّدَ ياءَهُ وهُمْ عامَّةُ القراءِ غيرَ ابنِ كَثيرٍ، وكذلكَ عندَ مَنْ خفَّفَها ساكِنَةً، ويكونُ فيه لُغَتان: التَثقيلُ والتَخفيفُ كَمَيِّتٍ ومَيْتٍ وهيِّنٍ وهَيْنٍ. وقيل: المُخَفَّفُ مَصْدرُ ضاقَ يَضيقُ ضَيْقاً كقوله تعالى: {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ} سورة النحل، الآية: 27. يُقالُ: ضاقَ يَضيقُ ضَيْقاً وضِيقاً بفتحِ الضادِ وكسرِها، وبالكَسْرِ قَرَأَ ابْنُ كثيرٍ في سورتي النَّحلِ والنَّملِ، فعلى جَعْلِه مَصْدَراً يَجيءُ فيه الأوْجُهُ الثلاثةُ في المَصْدَرِ الواقِعِ وَصْفاً لِجُثَّةٍ نحوَ: رَجُلٌ عَدْلٌ، وهي حَذْفُ مُضافٍ أوْ المُبالغة أوْ وقوعه موقعَ اسم الفاعل أي: يجعلُ صَدْرَه ذا ضِيقٍ أوْ ضائقاً أوْ نَفْسَ الضِيقِ مُبالَغةً، والذي يظهرُ مِنْ قِراءةِ ابْنِ كَثيرٍ أنَّه عِندَهُ اسْمٌ صِفَةٌ مُخَفَّفٌ مِنْ فَيْعِل وذلك أَنَّهُ اسْتَغْربَ قراءتَه في مَصْدَرِ هذا الفِعْلِ دونَ الفَتْحِ في سُورتي النَحْلِ والنَّملِ، فلو كان هذا عندَهُ مَصْدراً لَكانَ الظاهرُ في قراءتِه الكَسْرَ كالمَوْضعين المُشارِ إليْهِما، وهذا مِنْ مَحاسِنِ عِلْمِ النَّحْوِ والقِراءاتِ، والخِلافُ الجاري هُنا جارٍ في سورة الفُرقانِ. وقالَ الكِسائيُّ: الضَّيِّقُ بالتَشديد في الأَجْرامِ، والضيقُ بالتَخْفيفِ في المَعاني. ووزنُ ضَيِّقٍ "فَيْعِلٍ" كميِّتٍ وسَيِّدٍ عندَ جُمهورِ النَّحْويّينَ، ثمَّ أدغم، ويَجوزُ تَخفيفُهُ كما تَقَدَّمَ تحرُيرُه. قال الفارسي: والياءُ مثلُ الواوِ في الحَذْفِ وإنْ لم تَعْتَلَّ بالقَلْبِ كَما اعْتَلَّتِ الواوُ، وأُتْبِعَتِ الياءُ الواوَ في هذا كما أُتْبِعَتْ في قَوْلِهم "اتَّسِرْ" مِنَ اليُسْرِ فجُعِلَتْ بِمَنْزِلَةِ اتَّعِد. وقال ابْنُ الأَنْباري: الذي يُثقِّلُ الياءَ يقولُ وَزْنُه مِنَ الفَعْلِ فَعِيل، والأصلُ فيه ضَيِيقٌ على مِثالِ كريمٍ ونَبيلٍ، فجَعلوا الياءَ الأُولى أَلِفاً لِتَحَرُّكِها وانْفِتاحِ ما قَبْلها مِنْ حيثُ أَعَلُّوا ضاقَ يَضيقُ، ثمَّ أَسْقَطوا الأَلِفَ لِسُكونِها وسُكونِ ياءِ "فَعِيل" فأَشْفَقوا مِنْ أَنْ يَلْتَبِسَ "فعيل" بـ "فَعْل"، فزادوا ياءً على الياءِ يَكْمُلُ بِها بناءُ الحَرْفِ ويَقَعُ بِها فَرْقٌ بيْنَ "فعيل" و"فَعْل". والذين خَفَّفُوا الياءَ قالوا: أُمِنَ اللَّبْسُ لأنَّه قد عُرِفَ أَصْلُ هذا الحَرْفِ، فالثِقَةُ بمعرفتِهِ مانِعَةٌ مِنَ اللَّبْسِ. وقال البَصْريّون: وزنُه مِنَ الفَعْلِ فَيْعِل فأُدْغِمتْ الياءُ في التي بعدَها فشُدِّدَ ثمَّ جاءَ التَخفيفُ. قال: وقد رَدَّ الفراءُ وأَصْحابُه هذا على البَصْريّين، وقالوا: لا يُعرفُ في كلامِ العَرَبِ اسْمٌ على وَزْنِ فَيْعِل ـ يَعْنُون بكسرِ العينِ ـ إنَّما يُعرفُ فَيْعَل ـ يَعنون بفتحها ـ نحوَ صَيْقَل وهَيْكَل، فمتى ادّعى مُدَّعٍ في اسمٍ معتلٍّ ما لا يُعرَفُ في السالِمِ كانتْ دَعْواهُ مَردودةً. وقد تقدَّم تحريرُ هذِه الأقوالِ عندَ قوله تعالى في سورة البقرة: {أَوْ كَصَيِّبٍ}، الآية: 19. وإذا قُلنا إنَّه مُخفَّفٌ مِنَ المُشَدَّدِ فهل المَحذوفُ الياءُ الأُولى أَمِ الثانيةُ؟ خِلافٌ مرَّتْ لهُ نَظائرُه.
وإذا كانت "يَجْعَل" بمعنى يخلق فيكون "ضيقاً" حالاً، وإن كانت بمعنى "سَمَّى" كانت مفعولاً ثانياً، والكلامُ عليه بالنِسْبَةِ إلى التشديد والتخفيف وتقدير المعاني كالكلامِ عليه أوَّلاً.
وحَرَجاً وحَرِجاً بفتح الراء وكسرها: هو المتزايد في الضيق فهو أخصُّ من الأول، فكلُّ حَرَج ضيق من غير عكسٍ، وعلى هذا فالمفتوح والمكسور بمعنى واحد يقال: رجل حَرِج وحَرَج قال الراجز:
لا حَرِجُ الصدرِ ولا عنيفُ
قال الفراء: هو في كسره ونصبه بمنزلة الوحَد والوِحد والفرَد والفرِد والدَّنَف والدَّنِف. وفرَّق الزجاج والفارسي بينهما فقالا: المفتوح مصدر والمكسور اسم فاعل. قال الزجاج: الحَرَج أضيق الضيق، فَمَنْ قال: رجل حرَج يعني بالفتح فمعناه ذو حَرَج في صدره، ومن قال حرِج يعني بالكسر جعله فاعلاً وكذلك دنَف ودنِف. وقال الفارسي: مَنْ فتح الراء كان وصفاً بالمصدرِ نحو: فَمَن وحَرَىً ودنَف ونحو ذلك من المصادر التي يوصف بها، ولا تكون كبطل لأن اسم الفاعل في الأمر العام إنما يجيء على فَعِل، ومن قرأ حَرِجاً ـ يعني بكسر الراء ـ فهو مثل دنِف وفَرِق بكسر العين. وقيل: الحَرَج بالفتح جمع حَرَجَة كقصبة وقصب، والمكسور صفة كدَنِف، وأصل المادة من التشابك وشدة التضايق فإنَّ الحَرَجة غَيْضة من شجر السَّلَم ملتفَّةٌ لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يصل إليها قال رؤبةُ العَجَّاجُ:
عايَنَ حَيَّاً كالحِراج نَعَمُهْ ................... يَكون أَقصى شَلِّه مَحْرَنْجَمَهْ
الحِراج: جمع حِرْج، وحِرْج جمع حَرَجة. معناهُ أنَّ القومَ إذا فاجأتْهُمُ الغارةُ لم يَطْرُدْوا معهم، وكان أَقْصى طَرْدِهم لَها أَنْ يُنيخوها في مَبارِكِها ثم يقاتلوا عنها، ومبركها هو محرنجمها والحراجمةُ اللصوص. ومن غريب ما يُحكى أن ابن عباس قرأ هذه الآية فقال: هل هنا أحد من بني بكر؟ فقال رجل: نعم. قال: ما الحَرَجة فيكم؟ قال: الوادي الكثير الشجر المستمسك الذي لا طريق فيه. فقال ابن عباس: فهكذا قلب الكافر، هذه رواية عبيد بن عمير. وقد حكى أبو الصلت الثقفي هذه الحكاية بأطولَ من هذا عن عمر بن الخطاب فقال: قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية فقال: ابغوني رجلاً من بني كنانة واجعلوه راعياً، فأتَوْه به فقال له عمر: يا فتى ما الحَرَجَةُ فيكم؟ قال: الحَرَجَةُ فينا الشجرة تُحْدِق بها الأشجار فلا تصل إليها راعيةٌ ولا وحشية. فقال عمر: وكذلك قلبُ الكافر لا يصل إليه شيء من الخير.
وبعضهم يحكي هذه الحكاية عن عمر رضي الله عنه كالمنتصر لمن قرأ بالكسر قال: قرأها بعض أصحاب عُمَر له بالكسر فقال: ابغوني رجلاً من كنانة راعياً وليكن من بني مُدْلج فَأَتَوْه به فقال: يا فتى ما الحَرَجَةُ تكون عندكم؟ فقال: شجرةٌ تكون بين الأشجار لا يصل إليها راعيةٌ ولا وحشية فقال: كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيٌ من الخير. قال الشيخ: وهذا تنبيه والله أعلم على اشتقاق الفعل من اسم العين كاستنوق واستحجر. قلت: ليس هذا من باب التنوق واستحجر في شيء، لأن هذا معنى مستقل ومادة مستقلة متصرفة نحو: حَرِجَ يَحْرَج فهو حَرِج وحارج بخلاف تِيْكَ الألفاظ فإن معناها يُضطر فيه إلى الأخذ من الأسماء الجامدة، فإنَّ معنى قولك استنوق الجمل أي: صار كالناقة، واستحجر الطين أي: صار كالحجر، وليس لنا مادةٌ متصرفة إلى صيغ الأفعال من لفظ الحجر والناقة، وأنت إذا قلت: حَرِج صدرُه ليس بك ضرورة أن تقول: صار كالحَرَجة، بل معناه تزايدَ ضيقُه، وأمَّا تشبيهُ عمر بن الخطاب فلإِبرازه المعاني في قوالبِ الأعيان مبالغةً في البيان.
وكلُّ ضِيقٍ حَرَج. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَكَانٌ حَرِجٌ وَحَرَجٌ أَيْ ضَيِّقٌ كثيرُ الشَجَرِ لا تَصِلُ إليهِ الراعيَةُ. وَالْحَرَجُ أَيْضًا: النَّاقَةُ الضَّامِرَةُ. وَيُقَالُ: الطَّوِيلَةُ. وَالْحَرَجُ: خَشَبٌ يُشَدُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ يُحْمَلُ فِيهِ الْمَوْتَى، وَهُوَ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَإِمَّا تَرَيْنِي فِي رِحَالَةِ جَابِرٍ ............... عَلى حَرجٍ كَالْقَرِّ تَخْفُقُ أَكْفَانِي
وَرُبَّمَا وُضِعَ فَوْقَ نَعْشِ النِّسَاءِ، قَالَ عَنْتَرَةُ يَصِفُ ظَلِيمًا:
يَتْبَعْنَ قُلَّةَ رَأْسِهِ وَكَأَنَّهُ ...................... حَرَجٌ عَلَى نَعْشٍ لَهُنَّ مُخَيَّمُ
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَرَجُ: أَضْيَقُ الضِّيقِ. فَإِذَا قِيلَ. فُلَانٌ حَرَجُ الصَّدْرِ، فَالْمَعْنَى ذُو حَرَجٍ فِي صَدْرِهِ.
وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم "حَرِجاً" بكسر الراء، والباقون بتفحها، وقد عُرِفا. فأمَّا على قراءة الفتح فإن كان مصدراً جاءت فيه الأوجه الثلاثة المتقدمة في نظائره ، وإن جُعِلَ صفة فلا تأويل.
ونصبه على القراءتين: إمَّا على كونه نعتاً لضيقاً، وإمَّا على كونِهِ مفعولاً به تعدَّد ، وذلك أن الأفعالَ النواسخَ إذا دخلت على مبتدأ وخبر كان الخبران على حالهما فكما يجوز تعدُّدُ الخبر مطلقاً أو بتأويل في المبتدأ والخبر الصريحين كذلك في المنسوخين حين تقول: زيدٌ كاتب شاعر فقيه. ثم تقول: ظننتُ زيداً كاتباً شاعراً فقيهاً، فتقول: "زيداً" مفعول أول "كاتباً" مفعول ثان "شاعراً" مفعول ثالث "فقيهاً" مفعول رابع، كما تقول: خبر ثان وثالث ورابع، ولا يلزم من هذا أن يتعدَّى الفعل لثلاثة ولا أربعة لأن ذلك بالنسبة إلى تعدُّد الألفاظ، فليس هذا كقولك في: أعلمْتُ زيداً عمراً فاضلاً، إذ المفعولُ الثالثُ هناك ليس متكرراً لشيء واحد، وإنما بَيَّنْتُ هذا لأنَّ بعض الناس وَهِمَ في فهمه، وقد ظهر لك ممَّا تَقَدَّم أنَّ قوله: "ضيقاً حَرَجاً" ليس فيه تكرار. وقال مكي: ومعنى حَرِج يعني بالكسر كمعنى ضيق كرِّر لاختلاف لفظه للتأكيد. قلت: إنما يكون للتأكيد حيث لم يظهر بينها فارق فتقول: كُرِّر لاختلاف اللفظ كقوله: {صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} سورة البقرة، الآية: 157. وكقول الشاعر عديٍّ بْنِ زيدٍ:
وَقَدَّمْتِ الْأَدِيمَ لِرَاهِشَيْهِ ......................... وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا
وأما هنا فقد تقدَّم الفرق بينهما بالعموم والخصوص أو غير ذلك. وقال أبو البقاء: وقيل هو جمع "حَرَجَة" مثل قَصَبَة وقَصَب والهاءُ فيه للمبالغة. ولا أدري كيف تَوَهَّم كونَ هذه الهاءِ الدالَّةِ على الوَحْدة في مفرد أسماء الأجناس كثمرة وبُرّة ونَبِقة للمبالغة كهي في راوية ونَسَّابة وفَرُوْقة؟
وقوله: "كأنما" "ما" هذه مهيِّئة لدخول كان على الجمل الفعلية كهي في {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ} سورة آل عمران، الآية: 185.
وقرأ ابن كثير: "يَصْعَد" ساكنَ الصاد مخفَّف العين، مضارع صَعِد أي ارتفع، وأبو بكر عن عاصم يصَّاعد بتشديد الصاد بعدها ألف، وأصلها يتصاعد أي: يتعاطى الصُّعود ويتكلَّفه، فأدغم التاء في الصاد تخفيفاً، والباقون يَصَّعَّد بتشديد الصاد والعين دون ألفٍ بينهما، مِنْ يصَّعَّد أي يفعل الصعود ويُكَلَّفه والأصل: يتصعَّد فأدغم كما في قراءة شعبة، وهذه الجملة التشبيهية يحتمل أن تكون مستأنفة شبَّه فيها حال مَنْ جعل الله صدره ضيقاً حَرَجاً بأنه بمنزلة مَنْ يطلب الصُّعود إلى السماء المُظِلة، أو إلى مكان مرتفع وَعْرٍ كالعقبة الكَؤُود.
وجَوَّزوا فيها وجهين آخرين أحدهما: أن يكون مفعولاً آخر تعدَّد كما تَعَدَّد ما قبلها، والثاني: أن يكون حالاً، وفي صاحبها احتمالان، أحدهما: هو الضميرُ المستكنُّ في "ضيِّقا"، والثاني: هو الضمير في "حَرَجا" و"في السماء" متعلِّق بما قبله.
قوله: {كذلك يَجْعَلُ} هو كنظائِرِه، وقدَّره الزجاج: مثل ما قَصَصْنا عليك يَجْعل، أي: فيكون مبتدأ وخبراً أو نعت مصدر محذوف، فلك أن ترفعَ "مثل" وأن تنصِبَها بالاعتبارين عنده، والأحسن أن يُقَدَّر لها مصدرٌ مناسب كما قدَّره الناس وهو: مثل ذلك الجَعْل أي جَعْلِ الصدرِ ضيقاً حرجاً يجعل اللهُ الرجس، كذا قدَّره مكي وغيره، و"يجعل" يُحتمل أن تكونَ بمعنى "ألقى" وهو الظاهر فتتعدَّى لواحد بنفسها وللآخر بحرف جر، ولذلك تَعدَّتْ هنا ب على، و المعنى: كذلك يلقي اللهُ العذاب على الذين لا يؤمنون، ويجوز أن يكون بمعنى صَيَّر أي: يُصَيِّره مُسْتعلياً عليهم محيطاً بهم، والتقدير الصناعي: مستقراً عليهم.