قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ.
(104)
قَوْلُهُ ـ تبارك وتَعَالَى: {قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: أَيُّها الناسُ قد جاءكم مِنْ ربِّكم ومولاكم وخالِقِكم قرآنٌ فيه آياتُ وَبَرَاهِينُ وحُججٌ ودَلالات يُبْصَّرُ بها ويُفَرَّقُ بيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، توضِّحُ الهُدى مِنَ الضَلالِ، لِتُمَيِّزوا بينَ الحقِّ والباطِلِ، وتَتَّبِعوا الصِراطَ المُسْتَقيمَ. وإطلاق البصائر على هذه الآيات من إطْلاق اسْمِ المُسَبِّبِ على السَبَبِ. و"بصائرُ" جَمْعُ بَصِيرَةٍ وَهِيَ نورٌ في القلبِ، وهي أيضاً الدَّلَالَةُ، ومنه قيلَ للدَمِ الدالِّ على القتيلِ بصيرة. قَالَ الأَسْعَرُ الجعفيّ:
جاءوا بَصائرُهم على أَكْتافِهمْ .............. وبَصِيرَتي يَعدو بِها عتد وَآيُ
يَقولُ الشاعر: إنَّهم تَرَكوا دَمَ أَبيهم وجَعلوهُ خَلْفَهم، أيْ لم يَثْأَروا بِهِ وأَنَا أَطْلُبُ ثأري. والعَتَدُ (بفتح التاء وكسرها): الفَرَسُ التامُّ الخَلْقِ السَريعُ الوَثْبَةِ المُعَدُّ للجَري، ليسَ فيهِ اضْطِرابٌ ولا رَخاوَةٌ. والوَآي (بِفَتْحِ الواوِ والمَدِّ): الفرسُ السَّريعُ المُقْتَدِرُ. ويَعْنِي بِالْبَصِيرَةِ هنا الْحُجَّةَ الْبَيِّنَةَ الظَّاهِرَةَ. وَوَصَفَ الدَّلَالَةَ بِالْمَجِيءِ لِتَفْخِيمِ شَأْنِهَا، إِذْ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْغَائِبِ الْمُتَوَقَّعِ حُضُورُهُ لِلنَّفْسِ، كَمَا يُقَالُ: جَاءَتِ الْعَافِيَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الْمَرَضُ، وَأَقْبَلَ السُّعُودُ وَأَدْبَرَ النُّحُوسُ. و"من ربِّكم" أضافَ اللهُ ـ سبحانَه وتعالى ـ البصائرَ إلى الذاتِ العَلِيَّةِ للإشارَةِ إلى أَنَّه صاحِبُ النِّعَمِ المُتَوالِيَةِ عليهم والتي تَوَجَّبَ عليهم شُكْرُها والإيمانُ بها، وتَبَصُّرُ ما تَدعو إليه هذه الآيات.
ويقال لقوة القلب المُدْرِكة بَصيرة وبَصَر ، قال تعالى : { مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى } [ النجم : 17
قولُهُ: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها} شَبَّهَ ـ سبحانَهُ ـ المُعْرِضَ عنْ آياتِهِ بالأعمى فلا يُبْصرُ. والْإِبْصَارُ: هُوَ الْإِدْرَاكُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، أَيْ فَمَنِ اسْتَدَلَّ وَتَعَرَّفَ فَقد نَفَعَ نَفْسَهُ، وَ"مَنْ عَمِيَ" فلَمْ ينظر في أمره ولم يَسْتَدِلَّ، فَهو بِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى، وعماه سيعود عَلَى نَفْسِهِ، وسيرتُّ عليه وبالاً وخسرانا وندماً.
قولُه: {وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أَيْ لَمْ أؤمَرْ بِحِفْظِكُمْ عَلَى أَنْ تُهْلِكُوا أَنْفُسَكُمْ. وَقِيلَ: أَيْ لا أَحْفَظُكم مِنْ عَذابِ اللهِ. وقيلَ: "بحفيظ" أي بِرَقيبٍ، لأُحْصي عَلَيْكم أَعْمالَكم، إنَّما أَنَا رَسُولٌ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وربِّكم، وَهُوَ الْحَفِيظُ عَلَيْكم، ولا يَخفى عَليْه شيءٌ مِنْ أمركم ولا من أَفْعَالِكُمْ، ولا شأنٌ من شؤونكم. وقيلَ: نَزَلَ هَذَا قَبْلَ فَرْضِ الْقِتَالِ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ عِبادَةِ الأَوْثانِ بِالقوَّةِ وحدِّ السَّيْفِ. وقولُه تعالى: "وَمَا أنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظ} هو كالنَتيجةِ المَنْطقيَّةِ لِقَوْلِه: "فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِي فَعَلَيْهَا" أيْ فالتَبِعَةُ عَلَيْكُمْ، كما قال تَعالى في سورة يونس: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} الآية: 108.
قولُهُ تَعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَّبِّكُمْ} إنَّما ذَكَرَ الفِعْلَ لِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُما الفَصْلُ بالمَفعولِ، والثاني كونُ التَأْنيثِ مَجازيّاً. و"مِنْ رَّبِّكُمْ" يَجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بالفِعْلِ قبلَهُ، وأنْ يَتَعَلَّقَ بمَحذوفٍ على أَنَّه صِفَةٌ لِما قَبلَهُ، أي: بَصائرُ كائنةٌ مِنْ رَبِّكم، و"مِنْ" في الوجهيْن لابْتِداءِ الغايَةِ مَجازاً.
قولُه: {فَمَنْ أَبْصَرَ} يَجوزُ أنْ تكونَ شَرْطِيَّةً، وأَنْ تَكونَ مَوصولَة، فالفاءُ جوابُ الشَرْطِ على الأَوَّلِ، ومَزيدةٌ في الخَبَرِ لِشِبْهِ المَوْصولِ باسْمِ الشَرْطِ على الثاني، ولا بُدَّ قبلَ لامِ الجَرِّ مِنْ مَحذوفٍ يَصِحُّ بهِ الكلامُ، والتقديرُ: فالإِبْصارُ لِنَفْسِهِ ومَنْ عَمِيَ فالعَمَى عَلَيْها. والإِبْصارُ والعَمَى مُبْتَدَآنِ، والجارُّ بَعْدَهما هوَ الخَبَرُ، والفاءُ داخلَةٌ على هذِهِ الجُمْلةِ الواقِعَةِ جواباً أوْ خَبَراً، وإنَّما حُذِفَ مُبْتَدَؤُها للعِلمِ بِه، وقدَّرَ الزَجَّاجُ قَريباً مِنْ هذا فقالَ: فَلِنَفْسِهِ نَفْعُ ذلك، ومَنْ عَمِيَ فعليْها ضَرَرُ ذلك. وقال الزمخشريُّ: فَمَنْ أَبْصَرَ الحقَّ وآمَنَ فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ وإيَّاها نَفَعَ، ومَنْ عَمِيَ فعلَيْها أي: فعلى نَفْسِهِ عَمِيَ، وإيّاها ضَرَّ. قال أبو حيّانَ التوحيديُّ: وما قَدَّرْناهُ مِنَ المَصْدَرِ أَوْلى، وهوَ فالإِبْصارُ والعَمى، لِوَجْهيْنِ، أَحَدُهُما: أنْ المَحذوفَ يَكونُ مُفرَداً لا جُمْلَةٍ، والجارُّ يَكونُ عِمْدةً لا فَضْلةً، وفي تقديرِهِ هو المحذوفُ جملةٌ والجارُّ والمجرورُ فضلةٌ. والآخرُ: وهوَ أَقوى وذلك أَنَّهُ لو كانَ التقديرُ فِعْلاً لم تَدْخُلِ الفاءُ سواءً كانت "مَنْ" شَرْطيَّةً أَمْ مَوْصولةً مُشَبَّهَةً بالشَرْطِ؛ لأنَّ الفِعْلَ الماضي إذا لَمْ يَكُنْ دُعاءً ولا جامِداً، وَوَقَعَ جوابَ شَرْطٍ أوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُشَبَّهٍ بالشَرْطِ لم تَدْخُلِ الفاءُ في جوابِ الشَرْطِ ولا في خَبَرِ المُبْتَدَأِ، لو قلتَ: "مَنْ جاءني فأكرمتُه" لم يَجُزْ بخلافِ تقديرِنا فإنَّهُ لا بُدَّ فيه مِنَ الفاءِ، ولا يَجوزُ حَذْفُها إلاَّ في الشِعرِ. قلت: وما قدَّرَهُ الزَمخشرِيُّ مَسبوقٌ إليْهِ سَبَقَهُ إليْهِ الكَلْبِيُّ فإنَّهُ قال: فَمَنْ أَبْصَرَ صَدَّقَ وآمَنَ بِمُحَمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ فلِنَفْسِهِ عَمِلَ ومَنْ عَمِيَ فلَمْ يُصَدِّقْ فَعلى نَفْسِهِ جَنَى العذابَ. وقولُهُ: إنَّ الفاءَ لا تَدْخُلُ فيما ذُكِرَ. قد يُنازَعُ فيه، وإذا كانوا فيما يَصْلُحُ أنْ يَكونَ جَواباً صَريحاً ويَظهَرُ فيهِ أَثَرُ الجازِمِ كالمُضارِعِ يَجوزُ فيهِ دُخولُ الفاءِ نحو: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} المائدة: 95. فالماضي بدخولِها أَوْلى وأَحْرى.
وقوله: {وَمَا أنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظ} قدَّمَ الجارَّ والمَجرورَ؛ لأنَّ نُفوسَهم سَتُهِمُّهم؛ ولِذلكَ قدَّمَ خِطابَهم على الوَصْفِ، وقدْ أكَّدَ ـ سبحانَهُ النَفْيَ بالباءِ، وأَكَّدَهُ بالجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ، والمَعْنى وما أَنَا بِحفيظْ عليكم مِنْ أَنْ تُعَذَّابوا لإنكاركم آياتِ ربِّكم، وكُفْرِكُمْ باللهِ بعدَ أَنْ بَدَتِ الدَّلائلُ القاطِعَةُ.