وَجَعَلُوا للهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ.
(100)
قَوْلُهُ ـ سبحانه وتَعَالَى: {وَجَعَلُوا للهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ} أَيْ اعْتَقَدَوا أنَّ للهِ تعالى شُرَكَاءَ مِنَ الْجِنِّ. أو أَنَّهم عَبَدوا الجِنَّ معَ عِبادَتهم للهِ. وهو نَوْعٌ آخَرُ مِنْ زيْغِ المُشْرِكينَ الكَفَرَةِ وجَهَالَاتِهِمْ، ومن معاني إشْراكِهم بِالْجِنِّ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ كَطَاعَةِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وهُمُ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللهِ. وتَسْمِيَتُهُمْ جِنّاً مَجازٌ لاجْتِنانِهم واسْتِتارِهِمْ عَنِ الأَعْيُنِ كالجِنِّ. ونَزَلَتْ في مُشْرِكِي العَرَبِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الزَّنَادِقَةِ الذين يعتقدون: أنَّ اللهَ ـ جلَّ جلالُه ـ وَإِبْلِيسَ أَخَوَانِ، فَاللهُ خَالِقُ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ، وَإِبْلِيسُ خَالِقُ الْجَانِّ وَالسِّبَاعِ وَالْعَقَارِبِ. وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ الْمَجُوسِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ: إلهٌ قديمٌ، والثاني شيطانٌ حادثٌ مِنْ فِكْرِ الْإِلَهِ الْقَدِيمِ، وَزَعَمُوا أَنَّ صَانِعَ الشَّرِّ حَادِثٌ. وَكَذَا الْحَائِطِيَّةُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بْنِ حَائِطٍ، زَعَمُوا أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعَيْنِ: الْإِلَهُ الْقَدِيمُ، وَالْآخَرُ مُحْدَثٌ، خَلَقَهُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَوَّلًا ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ تَدْبِيرَ الْعَالَمِ، وَهُوَ الَّذِي يُحَاسِبُ الْخَلْقَ فِي الْآخِرَةِ. وهكذا القائلون إنَّ كُلَّ خَيْرٍ مِنَ النُّورِ وكُلَّ شَرٍّ مِنَ الظُلْمَةِ وهُمُ المانَويَّةُ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وقدْ يَقولُ قائلٌ: إنَّ المُشركين قد عَبَدوا الأَصْنامَ، ولَمْ يَعْبُدوا الجِنَّ، فكيفَ يُقالُ إنَّ الشُركاءَ للهِ الجِنُّ، وقد قالَ في مُحكَمِ آياتِهِ أَنَّهم اتَّخَذوا الأَنْدادَ، والأَندادَ التي حَسِبوها أَنْداداً للهِ هيَ الأَصْنامُ؟. والجوابُ عن هذا التساؤلِ ذو شِقَّيْنِ، الأوّلُ: أَنَّ الشَياطِين ـ وهُمْ مِنْ أَتباعِ إبليسَ وهوَ رأسُ الجِنِّ ـ هُمُ الذين سَوَّلوا لَهم عِبادةَ الأَوْثانِ، وزَيَّنوها لَهم، وقدْ جاء ذلك في عدد من النُصوصِ القرآنية، كقولِهِ تَعالى في سورة يس: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} الآيتان: 60 و 61. ويَقولُ اللهُ تَعالى في سورة سبأ على لِسانِ المَلائِكَةِ: {سُبْحَانَكَ أَنتَ ولِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} الآية: 41. ويقولُ تعالى في سورة النساء: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} الآيات:117 ـ 119. وإنَّه ما مِنْ شِرْكٍ إلاَّ والشَيْطانُ وراءَهُ، والشيطانُ مِنَ الجِنِّ؛ إذْ هُو تابِعٌ لإبْليسَ، وهوَ مِنَ الجِنِّ، كما قالَ تعالى في سورة الكهف: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} الآية: 50. وعلى ذلك أَكْثَرُ المُفسِّرين.
أَمَّا الشِقُّ الثاني: فهو أَنَّ الذين كانوا يَعبُدونَ الجِنَّ هُمُ الثَنَويَّةُ مِنَ المَجوسِ الذين كانوا يَقولون إنَّ الوُجودَ يَحْكُمُه إلاهان: إلهُ الخَيْرِ، واسْمُهُ يَزدان، وإلهُ الشَرِّ واسْمُهُ أَهْرَمَن. رُويَ ذلك عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ والكَلْبِيِّ، ولقد قالَ ابنُ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: إنَّ مَوضوعَ الآيةِ الزَنادِقَةُ، وقال فَخْرُ الدين الرازي: (إنَّما قالَ ابنُ عبّاسٍ هذا قولُ الزَنادِقَةِ لأنَّ المَجوسَ يُلَقَّبون بالزَنادِقَةِ، لأنَّ الكِتابَ الذي زَعَمَ زَرادَشْت أنَّهُ نَزَلَ عليْهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ سُمِيَ بالزِنْدِ، والمَنْسوبُ إليْهِ يُسَمَّى زِنْديٌّ، ثمَّ عُرِّبَ فقيلَ زِنْديق، ثمّ جُمعَ فقيلَ زَنادِقَة، واعْلَمْ أَنَّ المَجوسَ قالوا: كُلُّ ما في هذا العالَمِ مِنَ الخَيْراتِ، فَهو مِنْ يَزدان، وكلُّ ما فيه مِنَ الشُرورِ فهُوَ مِنْ أَهْرَمَن، وأَهْرَمَن، هُو إبْليسُ بِلُغَةِ القُرآنِ، والقُرآنُ قالَ إنَّه مِنَ الجِنِّ، فمَنْ قالَ بِهذا المَذْهَبِ، فهو يعتبِرُ إبليسَ وذُرِّيَّتَه مِنَ الجِنِّ شُرَكاءَ للهِ ـ تعالى ـ في مَعنى الأُلوهِيَّةِ، وبِذلكَ تتحَقَّقُ شِرْكَةُ الجِنِّ). والآيَةُ تَشْمَلُ بِعُمومِها عُبَّادَ الأوثانِ والزَنادِقَةَ، لأنَّ كِلَيْهِما عَبدا الشَيْطان، وسيدنا إبراهيمُ ـ عليهِ السلامُ ـ عندما نَهى أَباهُ عَنْ عِبادَةِ الأَوْثانِ قالَ لَهُ: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} سورة مريم: (44). وعلى ذلك يكونُ المُشْرِكون والمَجوسُ قد أَشْرَكُوا الجِنَّ في عِبادَةِ اللهِ تَعالى، سَواءً أَكانَ ذلكَ بأنْ سَوَّلوا لهم عِبادَةَ الأَحْجارِ، فَتَكونُ عِبادتُها عبادةً للجِنِّ، أَمْ عَبَدوا الجِنَّ مُباشَرَةً كالثَنَوِيَّةِ، وتلكَ عُقوبةٌ عُجِّلَتْ لأَرْبابِ الغَفْلَةِ والبُعْدِ عَنِ اللهِ. وقد سُدَّتْ بَصائرُهم فاكْتَفُوا بِكُلِّ مَنْقوصٍ أَنْ يَعْبُدوه.
قولُه: {وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} خَلَقَهُم: أي أنَّ اللهَ تَعالى هو الذي خَلَقَهم، والمخلوقُ، لا يَصْلُحُ أَنْ يَكونَ مَعبوداً، فالمَعبودَ بِحَقٍّ هُو القَديمُ الذي لَا أَوَّلَ لَهُ، والباقي الذي لَا آخِرَ لَهُ. "وخرقوا" اخْتَلَقُوا وَافْتَعَلُوا بأَنِ ادَّعَوْا أَنَّ للهِ بَنَاتٍ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَسَمَّوْهُمْ جِنًّا لِاجْتِنَانِهِمْ. وسُئلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ مَعْنَى "وَخَرَقُوا لَهُ" بِالتَّشْدِيدِ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ "وَخَرَقُوا" بِالتَّخْفِيفِ، كَلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ، كَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَذَبَ فِي النَّادِي قِيلَ: خَرَقَهَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. ومَعْنَى "خَرَّقُوا" بالتشديدِ عَلَى التَّكْثِيرِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ: "خَرَقُوا" كَذَبُوا. يُقَالُ: إِنَّ مَعْنَى خَرَقَ وَاخْتَرَقَ وَاخْتَلَقَ سَواءٌ، أيْ أَحْدَثَ. وقالَ الراغِبُ الأصفهانيُّ: أَصْلُ الخَرْقِ قَطْعُ الشيْءِ على سَبيلِ الفَسادِ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ ولا تَدَبُّرٍ. ومِنْهُ قولُهُ تَعالى في سورة الكهف: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} الآية: 71. وهو ضِدُّ الخَلْقِ، فإنَّ الخلقَ فعلُ الشيءِ بِتَقْديرٍ ورِفْقٍ، والخَرْقُ يكونُ بغيرِ تَقديرٍ، قالَ تعالى: "وَخَرَقُواْ لَهُ" أيْ حَكَمُوا بِذَلِكَ على سَبيلِ الخَرْقِ وباعْتِبارِ القَطْعِ. و"بَنِينَ وَبَنَاتٍ" فقالتِ اليَهودُ؛ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ، وقالتِ النَّصارى: المَسيحُ ابْنُ اللهِ، وقالَتِ العَرَبُ المَلائِكَةُ بَناتُ اللهِ، واللهُ ـ سُبحانَه وتعالى ـ مُنَزَّهٌ عَن جميعِ ما قالوه. "بِغَيْرِ عِلْمٍ" بحقيقتِهِ مِنْ خَطأٍ أَوْ صَوابٍ، ولا فِكْرٍ ولا رَوِيَّةٍ فيه، بلْ قالوه عنْ عَمًى وجَهالَةٍ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمٍ بمَرْتَبَةِ ما قالوهُ وأَنَّهُ مِنَ الشَناعَةِ بالمَحَلِّ البَعيدِ. أوْ خَرَقوا مُلْتَبِسينَ بِغَيْرِ عِلْمٍ أوْ خَرْقاً كائناً بِغيْرِ عِلْمٍ، والمقصودُ على الوجهيْنِ ذَمُّهُم بالجَهْلِ، وقيلَ: إنَّ ذلكَ كِنايَةٌ عنْ نَفْيِ ما قالوا فإنَّ ما لا أَصْلَ لَهُ لا يَكونُ مَعلومًاً ولا يُقامُ عَليْهِ دَليلٌ، ولا حاجةَ إليْهِ إذْ نَفْيُهُ مَعلومٌ مِنْ جَعْلِهِ اخْتِلاقاً وافْتِراءً.
وقولُهُ: {سُبْحانَهُ وتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ} سبحانه: مِنْ أَنَّ لَهُ شَريكاً أَوْ وَلَداً، وقد تقدَّمَ الكلامُ في "سُبْحانَ" وما يُفيدُهُ مِنَ المُبالَغَةِ في التَنْزيهِ، و"تَعَالَى" الفرقُ بَيْنَ التَسْبيحِ والتَعالي بأنَّ الأَوْلَّ راجِعٌ إلى أَقوالِ المُسَبِّحين، والثاني إلى صِفاتِهِ تَعالى الذاتيَّةِ التي حَصَلَتْ لِذاتِهِ ـ سبحانَه ـ لا لِغَيْرِهِ، والمُرادُ بالبَنينَ فيما تَقَدَّمَ ما فَوْقَ الواحِدِ، أوْ أَنَّ مَنْ يُجَوِّزُ الواحِدَ يُجَوِّزُ الجَمْعَ.
قولُهُ تعالى: {وجعلوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ} قرأَ الجُمْهورُ بنصبِ "الجن" على أنَّ "الجِنَّ" هوَ المَفعولُ الأَوَّلُ، والمفعول الثاني هو "شركاءَ" قُدِّمَ، وقُدِّمَ اسْمُ اللهِ على "شركاء" اسْتِعْظاماً أَنْ يُتَّخَذَ للهِ شَريكٌ كائناً مَنْ كان، مَلَكاً أو جنِّيَّاً أو إِنسِيَّاً. و"لله" مُتَعَلِّقٌ بِشُركاءَ. والجَعْلُ هُنا بمَعنى التَصْييرِ. وهذا الوجهُ هُوَ الأَظهرُ لهذه القراءةِ. وثَمَّةَ أَوْجُهٌ أُخرى منها: أَنْ يَكونَ "شركاءَ" مَفعولاً أَوَّلَ و"لله" مُتَعَلِّقٌ بِمَحذوفٍ على أَنَّه المَفعولُ الثاني، و"الجنَّ" بَدَلٌ مِنْ "شركاء"، إلاَّ أنَّ مكِّيَّاً لَمَّا ذَكَرَ هذا الوجهَ جَعَلَ اللامَ مِنْ "لله" مُتَعَلِّقةً بِجَعَلَ فإنَّهُ قال: (الجنَّ مفعولٌ أَوَّلُ لَجَعَلَ و"شركاءَ" مفعولٌ ثانٍ مُقدَّمٌ، واللامُ في "لله" مُتَعَلِّقَةٌ بِشُرَكاءَ، وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَ "شركاء" مَفعولاً أَوَّلَ، و"الجِنَّ" بَدَلاً مِنْ "شُرَكاءَ"، و"لله" في مَوْضِعِ المَفعولِ الثاني، واللامَ مُتَعلِّقةً بِجَعَلَ). وكيف يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجْعَلَ اللامَ مُتَعَلِّقةً بالجَعْلِ بَعدَ أَنْ جَعَلَ "لله" مفعولاً ثانياً؟! هذا ما لا يجوزُ لأنَّه لَمّا صارَ مَفْعولاً ثانياً تَعيَّنَ تَعَلُّقُهُ بِمَحذوفٍ، ولأنَّهُ يصِحُّ للبَدَلِ أنْ يَحِلَّ مَحَلَّ المُبْدَلِ مِنْهُ فيَكونَ الكَلامُ مُنْتَظِماً، فلو قلتَ: وجعلوا للهِ الجِنَّ لَمْ يَصِحَّ، وشَرْطُ البَدَلِ أَنْ يَكونَ على نِيَّةِ تَكرارِ العامِلِ على أَشْهَرِ القَولَيْنِ، أوْ مَعمولاً للعامِلِ في المُبْدَلِ مِنْهُ على قولٍ. قال أبو حيان: وهذا لا يَصِحُّ هُنا البَتَّةَ لِما ذَكَرْنا. وهذا القولُ منسوبٌ للزَمَخْشَرِيِّ ومَنْ ذُكِرَ مَعَهُ سَبَقَهُم إليْهِ الفَرَّاءُ وأَبو إسْحاقَ فإنَّهُما أَجازا أَنْ يَكونا مَفْعولَيْنِ قُدِّمَ ثانِيهِما على الأوَّلِ وأَجازا أَنْ يَكونَ "الجنَّ" بدلاً من "شركاء" ومُفَسِّراً للشُرَكاءِ، وهو معنًى صَحيحٌ ـ أَعْني كونَ البَدَلِ مُفَسِّراً ـ فلا مَعنى لِرَدِّ هذا القَوْلِ، لأنه سَبِقَ له أنْ رَدَّ عليه عندَ قولِهِ تعالى {إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدوا} المائدة: 117. بأَنَّه لا يَلْزَمُ في كُلِّ بَدَلٍ أَنْ يَحِلَّ مَحَلَّ المُبْدَلِ مِنْهُ، قالَ: أَلا تَرى إلى تَجْويزَ النَّحْويين "زَيْدٌ مَرَرْتُ بِه، أَبي عَبْدِ اللهِ" ولو قلتَ: "زَيدٌ مَرَرْتُ بأبي عَبْدِ اللهِ" لَمْ يَجُزْ إلاَّ على رَأْيِ الأخْفَشِ، فقد قرَّرَ هو أَنَّه لا يَلْزَمُ حُلولُ البَدَلِ مَحَلَّ المُبْدَلِ مِنْه فكيفَ يَرُدُّ بِهِ هُنا؟
وذكرَ الحوفيُّ وجْهاً ثالثاً لِقراءةِ الجُمهورِ: هو أَنْ يَكونَ "شركاءَ" هو المَفعولُ الأوَّلُ و"الجنَّ" هو المَفعولُ الثاني، وهذا لا يَصِحُّ لِما عَرَفْتَ أَنَّ الأوَّلَ في هذا البابِ مُبْتَدَأٌ في الأصلِ والثاني خَبَرٌ في الأَصْلَ، وتقرَّرَ أَنَّهُ إذا اجْتَمَعَ معرفةٌ ونَكِرَةٌ جَعَلْتَ المَعْرِفَةَ مُبْتَدَأً والنَكِرَةَ خَبَراً، مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ إلاَّ في ضَرورَةٍ تقدَّمَ التَنْبيهُ على الوارِدِ مِنْها.