لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. (67)
قولُه تعالى شأنُه: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} أي لِكُلِّ خَبَرٍ جَاءَ فِي القُرْآنِ وَقْتٌ يَتَحَقَّقُ فِيهِ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ صِدْقَ هَذِهِ الأَخْبَارِ عِنْدَ وُقُوعِهَا. أو لِكُلِّ خبر حقيقَةٌ، أي لِكُلِّ شيءٍ وَقْتٌ يَقَعُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمٍ وَتَأَخُّرٍ. وَقِيلَ: أَيْ لِكُلِّ عَمَلٍ جَزَاءٌ. قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ، لأَنَّهُمْ كَانُوا لا يُقِرُّونَ بِالْبَعْثِ. وقال الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَعِيدًا بِمَا يَنْزِلُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وقَالَ السُّدِّيُّ: اسْتَقَرَّ يَوْمَ بَدْرٍ مَا كَانَ يَعِدُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ. والنَبَأُ هو الخبرُ المُهِمُّ المدهشُ العظيمُ، فليس كلُّ خبرٍ نَبَأً، ومثالُ الخبرِ المُهِمِّ قولُ الحقِّ: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النبإ العظيمِ * الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} النبأ: 1 ـ 3. و"المُسْتَقَرُّ" هو ما طُلبَ القرارُ فيه. وسوفَ يَعلَمُ الإنسانُ مُستَقَرَّ كلِّ خبرٍ عندما يَأْذَنَ الحَقُّ بميلادِ هذا المُستَقَرِّ الذي يُعْلَنُ فيهِ الخَبرُ. ولا أَعظمَ مِنْ أنْ يمُنَّ اللهُ على أهل الأرضِ بمنهجٍ يُنْقذُهم مما هم فيه مِنْ ضَلالٍ، وهذا المنهجُ عامٌّ لِكلِّ زمان ولكلِّ مكان. فهو إذاً نبأ عَظيم لأنَّه يخلِّصُ الناسَ مِنْ الجبابِرة الذين يسعون في الأرض فساداً، منهجٌ يحرُّرُ الناسَ جميعاً من أهوائهم. فلا أَضَرَّ بالمجتمع مِنْ أَنْ يَتَّبِعَ كلُّ إنسانٍ هواهُ؛ لأنَّ هوى كلِّ نفسٍ يخدمُ شَهواتها، والشَهواتُ مُتناقضةٌ، فإذا حَكَّمَ كلُّ إنسانٍ هواهُ فلَنْ تجدَ في الأَرْضِ قَضيَّةً واحدةً يتفقُ عليها الجميع. ولذلك تكفَّلَ الحقُّ سبحانَه وتعالى بوضعِ المنهج الذي ينظم الحياةَ. فكان نصرُ اللهِ لِنَبيِّهِ عليه الصلاة والسلامُ ولدينه الإسلام، نبأً عظيماً. وأمَّا الأمرُ الذي تَلتَقي فيه الأهواءُ وهو اسْتِنْباطُ ما في الأرْضِ مِنْ كنوزٍ واسْتِكْشافُ ما في الكَوْنِ مِنْ أَسرار، فقد تَرَكَهُ الحقُّ للإنسانِ ليَسْتَنْبِطَهُ بالعقلِ الذي زوَّدَهُ بِه. ولم تختلف الدولُ والمجتمعات في تلك المجالات، بل التَقَتْ كلُّ الأهواءِ عند هذه الاكتشافات، كما هو الحال في اكتشاف الكهرباءِ وغيرها مما أنتجه التقدم العلمي الذي شهدته البشرية في السنوات الماضية. لكنَّ الخلافات التي احتدمت بين هذه الدول كانت حول النُظُمِ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي حاول كل منها أن يستأثِرَ بابْتِكاراتِ العَقلِ البَشَرِيِّ واكْتِشافاتِه، وأنْ يُسَخِّرَها لمصَْلحَتِهِ، لذلك فقدْ وَضَعَ اللهُ تعالى للإنسانيَّةِ المِنْهجَ والنِّظامَ الذي يَضمَنُ الاسْتِفادَةَ العادلةَ مِنْ هذِه المُكتشفاتِ ويُنَظِّمُ العلاقاتِ العامَّةِ بين البَشَرِ كافَّةً إلى قيامِ الساعةِ.
قولُهُ تعالى: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} يجوزُ أَنْ يَكونَ الجارُّ والمجرورُ "لِكلِّ: في محلِّ رَفْعٍ خبراً مُتَقَدِّماً للمبتدأِ المؤخَّرِ "نبأ" وعليه ف "نبأ" مبتدأٌ مؤخَّرٌ مرفوعٌ، ويجوزُ عندَ الأخفشِ أنْ يكونَ الجارُّ والمجرورُ "لكلِّ" في محلِّ نصبٍ على أنّه مفعولٌ به وفاعلُه "نبأ"، ويجوزُ أنْ يكونَ "مُسْتَقَرٌّ" اسْمَ مصدرٍ أيْ اسْتِقرارٌ، أو ظرفَ مَكانٍ أوْ ظرفَ زمانٍ. فالنَبَأُ مَظروفٌ والمُسْتَقَرُّ مَظْروفٌ فيه. والمَظْروفِيَّةُ تَنقَسِمُ إلى قسمين: مَظْروفيَّةُ زَمانٍ، ومَظروفِيَّةُ مكان. أيْ أنَّ الحقَّ سبحانَه وتعالى جَعَلَ لِكُلِّ حَدَثٍ زَماناً ومكاناً يَقعُ فيهِما الخَبرُ أو النبأُ.
قولُه: {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} سوف: للتأكيدِ. "تعلمون" أيْ حالَ نَبَئِكُم في الدنيا أو في الآخرةِ أوْ فيهِما معاً.