إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
قولُه ـ تعالى شأنُه: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} تقريرٌ لِما جاءَ في الآياتِ السابقةِ مِنْ أنَّ الكُفارَ لا يَؤمنون، فالذِينَ يَسْتَجِيبُونَ للهِ وَلِلْرَّسُولِ، إنَّما هُمُ الذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ، وَيَعُونَهُ، وَيَتَدَبَّرُونَهُ، فَيَعْقِلُونَ آَيَاتِه، وَيُذْعِنُونَ لِمَا عَرَفُوا بِهَا مِنَ الحَقِّ، لِسَلاَمَةِ فِطْرَتِهِمْ، وَصَفَاءِ نُفُوسِهِمْ وَطَهَارَةِ قُلُوبِهِمْ. أمَّا هؤلاءِ الذِينَ لاَ تُرْجَى اسْتِجَابَتُهُمْ، فهُمْ كَالمَوْتَى، لَا يَسْمَعُونَ السَّمَاعَ النَّافِعَ، وَلاَ يَتَدَبَّرُونَ، فَيُتْرَكُ أَمْرُهُمْ إلَى اللهِ، فَهُوَ الذِي يَبْعَثُهُمْ، بَعْدَ مَوْتِهِمْ، لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، فَلاَ تُهْلِكْ نَفسَكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ، فَلَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِكَ هِدَايَتُهُمْ، وَلاَ إِرْجَاعُهُمْ إلى جَادَّةِ الصَّوَابِ.
والاستجابةُ بِمَعنى الإجابةِ، وكَثيرًا ما يُجْرى "اسْتَفْعَلَ" مُجرى "أَفْعلَ" ك "اسْتَخْلصَ" بمَعنى "أَخْلَصَ" و"اسْتَوْقَدَ" بمَعْنى "أَوْقَدَ" إلى غيرِ ذلك. ومنْهُ قولُ الغَنَوِيِّ:
وَداعٍ دعا يا مَن يُجيبُ إلى النِّدا .......... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذاكَ مُجيبُ
ومنهم مَنْ فرَّق بيْنَ اسْتَجابَ وأَجابَ بأنَّ اسْتَجابَ يَدُلُّ على القَبولِ، والمُرادُ بالسَّماعِ هو سَماعُ الفَهْمِ والتَدَبُّرِ، وما عَداهُ كلا سَماعٍ، أيْ إنَّما يُجيب دعوتَكَ إلى الإيمان الذين يَسمعون ما يُتلى عليهم من آياتِ اللهِ سَمَاعَ فهمٍ وتدبُّرٍ، لكنَّ المَوتى لا يسمعونَ، وهؤلاءِ مِثلُهُم، ومثلها قولُه تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} النمل: 80.
قولُه: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ} والموتى يَبْعَثُهُمُ الله: أيْ يخرجهم اللهُ مِنْ قبورِهم يوم القيامةِ إلى المَحْشَرِ للحساب والجزاءِ، وقال الحسنُ: "الموتى" هنا هُمُ الكفَّارُ، وقيلَ: بعثُهم هِدايَتُهم إلى الإيمان وليس بشيء.
قولُه: {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} للجزَاءِ فحينئذٍ يَسْمَعونَ، أي حقَّ السمع فيعقلون لأنهم يرون كلَّ ما كان النَبِيُّ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ قد حدثَهم حقيقةً وعيانًا، لكنَّ سمعهم هناك لا يفيدهم شيئًا كما لو كانوا قد سمعوا في الحياة الدنيا سمعَ التدبُّرِ الذي به اهتدى المؤمنون إلى تصديق هذه الآياتِ. أَمَّا قبلَ ذلكَ فما كان هناك مِنْ سبيلٍ إلى سَماعِهِم لِمَا كان على قلوبهم مِنْ أَكِنَّةِ التكبُّر على آيات الله التي تلاها رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ على أَسْماعِهم، وكأنَّ آذانَهم كان فيها وَقْرٌ.
وفي إطلاقِ لفظِ "المَوتى" على الكُفَّارِ اسْتِعارَةٌ مَبْنِيَّةٌ على تَشبيهِ كفرِهم وجَهْلِهِم بالمَوتِ،كما قِيلَ:
لا يُعْجَبَنَّ الجهولُ بِزيِّهِ ........................... فذاك مَيْتٌ ثِيابُهُ كَفَنُ
وقيل: الموتى على حقيقتِه، والكلامُ تمثيلٌ لاختِصاصِهِ ـ تَعالى ـ
بالقُدرةِ على تَوفيقِ أُولئك الكُفَّارِ للإيمانِ باختصاصِه ـ سبحانَه ـ بالقدرةِ على بَعثِ المَوتى الذين رُمَّتْ عِظامُهم مِن القُبورِ، وفيه إشارة إلى أنَّه ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ لا يَقدِرُ على هِدايَتِهم لأنَّها كَبَعْثِ المَوتى.
قولُه تعالى: {والموتى يَبْعَثُهُمُ الله} جُملةٌ مِنْ مُبْتَدأٍ وخبرٍ سِيْقَتْ للإِخبارِ بقدرتِه ـ سبحانَه وتَعالى ـ وأَنَّ مَنْ قَدَرَ على بعثِ المَوتى يَقِدْرُ على إحياءِ قلوبِ الكَفَرَةِ بالإِيمان إنْ شاء فلا تَتأسَّفْ على مَنْ كَفَرَ. أو أنَّ "الموتى" منصوبٌ بفعلٍ مُضْمَرٍ يُفسِّرُهُ ما بعدَه، ورُجِّحَ هذا الوجهُ على الوجهِ الأوَّلِ لِعطفِ جُملةِ الاشْتِغالِ على جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ قبلَها فهو نَظيرُ قولِه ـ تعالى: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} الإِنسان: 31. بعدَ قولِه: {يُدْخِلُ منْ يشاءُ في رحمتِه}. أو هو مَرفوعٌ نَسَقًا على الموصولِ قبلَه، والمُرادُ بالمَوتى الكُفارُ أي: إنَّما يَسْتجيبُ المُؤمنونَ السامِعونَ مِنْ أَوَّلِ وهْلَةٍ، والكافرون الذين يُجيبُهمُ اللهُ تعالى بالإِيمانِ ويُوفِّقُهم له، وعليه فالجُملَةُ مِنْ قولِه: {يَبْعَثُهُمُ الله} في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ، إلَّا أَنَّ قولَه تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يجعلُ هذا القولَ بعيدًا، إلَّا أنْ يَكونَ مِنْ تَرشيحِ المَجازِ. وقرئَ "يَرْجِعون" مِنْ رَجَعَ رُجوعًا ـ اللازم ـ على البِنَاءِ للفاعلِ. والمُتواتِرَةُ أَوفى بِحَقِّ المَقامِ لِإنْبائها عَنْ كونِ مَرْجِعِهم إليْهِ ـ تَعالى ـ بطريقِ الاضْطِرارِ.