عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 2 الثلاثاء أكتوبر 29, 2013 8:36 am | |
| هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) قَوْلُهُ ـ سبحانه وتَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} أيْ وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الذِي خَلَقَ آدَمَ أَبَا البَشَرِ مِنْ طِينٍ (أَيْ مِنْ تُرَابٍ خَالَطَهُ مَاءٌ)، وَانْتَشَرَ مِنْهُ أَبْنَاؤُهُ فَهُمْ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ قَضَى بِأَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الخَلْقِ أَجَلٌ مَحْدُودٌ، تَنْتَهِي بِهِ حَيَاتُهُ، وَجَعَلَ لِلخَلائِقِ جَميعًا أَجَلاً تَنْتَهِي بِهِ الحَيَاةُ بِتَمَامِها عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، فَيَبْعَثُهُمُ اللهُ مَرَّةً أُخْرَى. وَيَجْمَعُهُمْ لِلْحِسَابِ. فبَعدَ أنْ ذَكَرَ ـ جَلَّتْ قُدرَتُه وعزَّ شأنُه ـ خلقَه لهذا الكونِ وما فيه، وسُلْطانَه على السماوات والأرضِ ومَنْ فيهِنَّ، بيَّنَ ـ سبحانَه ـ خَلْقَ الإنْسانِ الذي يُؤمِنُ ويَكفُرُ، ويَأْثَمُ ويَفْسُقُ، ويَهْتَدي لأَمْرِ رَبِّهِ، والذي حارتِ البَرِيَّةُ فيه، كما قالَ أَبو العَلاءِ المَعَرِّيِّ:والذي حارتِ البَرِيَّةُ فيهِ .................... حَيوانٌ مُسْتَحْدَثٌ مِنْ جَمادِذَكَرَ ـ سبحانهُ ـ أنَّ اللهَ خلَقَه، أيْ أَنْشَأَهُ مِنْ طِينٍ فلا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَكْبِرَ، ولْيَذْكُرْ أصلَه الطينيَّ، ولا يَزالُ رَبُّه يُرِبُّه مِنَ الطينِ ويُنَمِّيه، فغِذاؤهُ من نَباتٍ أوْ حَيَوانٍ يَرْجِعُ إلى الطِينِ، وفي ذِكْرِ هذا الأَصْلِ إشارةٌ إلى أَمريْنِ جَليلَيْنِ: أَوَّلُهُما: عَظَمَةُ الخالقِ وإِبداعُه الذي جعلَ ذلك الإنسانَ الحيَّ المُفَكِّرَ المُدبِّرَ مِنْ صَلصالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسنونٍ فيَختارُ بينَ الخيرِ والشرِّ فيهتدي أو يَغْوَى، والإشارةُ إلى تذكيرِ الإنسانِ إلى أَصْلِ خَلقِهِ، لِكَيْ لا يَسْتَكْبِر ولا يَغْتَرّ ولا يَستَعْلي، وإذا كانَ أَصلُه مِنَ الطِينِ، فليْسَ عَجَبًا أنْ يَعودَ كما بَدَأَ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} الأعراف: 29، {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} طه: 55. وإنَّ اللهَ ـ سبحانَه وتعالى ـ قدْ خلَقَ الإنسانَ مِنَ الطِينِ، أيْ خَلَقَ أَصْلَهُ مِنْ طِينٍ، ثمَّ تَوالَدَ وتَناسَلَ مِنْ بَعدِ ذلك، وعَمَرَ الأَرْضَ ما شاءَ أَنْ يَعَمُرَها حتَّى كان مِنْهم مَنْ نَسِيَ أَصَلَهُ الطِينيَّ، وقدْ قَدَّرَ ـ سبحانَه ـ لِكُلِّ إنْسانٍ أَجَلًا، ولِبَني الإنسانِ جميعًا ـ أَجَلًا ـ أمَّا الأوَّلُ: فقدْ أَشارَ إليْهِ ـ سبحانَه وتعالى: "ثُمَّ قَضَى أَجَلًا" أيْ عُمْرًا تَكونُ لَهُ نِهايةٌ في هذِه الدُنيا، وعُقْبَى هنالك في الآخرةِ، وكان العَطْفُ بـ "ثمَّ" للإشارةِ إلى الأَطْوارِ التي يَمُرُّ فيها الإنسانُ، والأَطْوارِ التي يَمُرُّ بِها الجَنين، وللتَفاوُتِ بيْنَ الحَقيقةِ التي نَراها ونُحِسُّها والغَيْبِ الذي لَا نَعْرِفُه، ممّا قَدَّرَهُ اللهُ تَعالى إذْ يَقولُ ـ سبحانَه: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} لقمان: 34. هذا هو أَجَلُ العُمْرِ، وقال ـ سبْحانَه ـ بعد ذلك: "وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ" وما هذا الأجَلُ المُسَمّى عندَه، ولا يَعلَمُ بِهِ أَحَدٌ الآنَ يَصِحُّ أنْ يَكونَ الأَمَدُ الذي يَكونُ بيْنَ الوَفاةِ، وبَعْثِ مَنْ في القُبورِ، ويَصِحُّ أنْ يَكونَ ما قُدِّرَ للإنْسانِ في هذِهِ الأَرْض مِنْ وُجودٍ، والأَمْرانِ مُتَلاقِيانِ، فالزَمَنُ الذي يَكونُ بَيْنَ وَفاةِ كُلِّ واحِدٍ، والبَعْثِ مِنَ القُبورِ، والحِسابِ والثَوابِ أوْ العِقابِ، ثمَّ الذي تَنْتَهي بِهِ الدُنيا، وهُو مُغَيَّبٌ، لأَنَّ الساعةَ عِلْمُها عِنْدَ اللهِ، قالَ تَعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الأعراف: (187).وَوَصْفُ هَذا الأَجَلِ الثاني بأنَّه مُسَمًّى عندَه يُفيدُ اخْتِصاصَ عِلْمِهِ ـ سبحانَه وتَعالى ـ بِذلِكَ، كما أَشارَتِ الآياتُ التي تَلَوْناها، وقُدِّمَ "أَجَلٌ مُّسَمًى" على قولِهِ تعالى: "عِندَهُ"، لأنَّ الأجلَ المُسَمّى هو المبتدأ، وما بعدَه خَبَرٌ، والمُبتَدَأُ مُقَدَّمٌ حَقيقةً، ولأَنَّ الأَجَلَ هُو المُتَحَدَّثُ عنْه باعْتِبارِ أنَّ مَوْضِعَهُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ تَعالى، وسُوِّغَ الابْتِداءُ بالنَكِرَةِ؛ لأنَّها مَوْصوفَةٌ، والمَوصوفُ المُنْكَرُ يَصِحُّ أنْ يَكونَ مُبْتَدأً لأنَّهُ مَعرفٌ بِنَوعٍ مِنَ التَعريفِ، وتأخيرُ "عِندَهُ" ليس فقطْ، لأنَّ الأَجَلَ هو المُبْتَدَأُ بَلْ لأنَّ "عِندَهُ" متعلِّقةٌ بِكونِ التَسْمِيَةِ عندَه فالعِنْدِيَّةُ لَيْسَتْ لِذاتِ الخَبَرِ، إنَّما هي للوقتِ المُسَمَّى الذي اخْتَصَّ اللهُ تعالى بِهِ، فكانَ الأَنْسَبُ أنْ يَكونَ المُسَمَّى مُقْتَرِنًا بالعِنْدِيَّةِ التي هيَ مُتَعَلِّقُهُ.وإذا كانتِ الآجالُ تُرى مُقَدَّرَةً، فَكُلُّ حيٍّ يَنْتَهي بالموتِ لَا مَحَالَةَ، فكانَ الأَجَلُ الذي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ تَعالى لَا رَيْبَ فيه أَيْضًا، ولكنَّ بَعْضَ الناسِ في رَيْبٍ وشَكٍّ، لأَنَّهم مَربوطونَ بالمَحْسوسِ؛ ولِذا قالَ ـ سبحانَه: "ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرونَ" أيْ أَنَّهُ مَعَ ما تَرَوْنَ، وتَعلمون مِنْ أَنَّ الإنسانَ يَموتُ كما تَرَوْنَ، وأَنَّه مِنْ طِينٍ، مَعَ ذَلك تَمْتَرونَ، أيْ تَشُكُّون وتُجادلون فِي شَكِّكُم، والأَدِلَّةُ قائمةٌ، وكان العطفُ بِـ "ثم" لِتُباعِدَ ما بيْنَ الحقائقِ الثابتةِ وأَسبابِها، والامْتِراءُ هو التَرَدُّدُ الذي يَنْتَهي إلى مُحاجَّةٍ ومُجَادَلَةٍ، وقدْ يَنتهي إلى شَكٍّ، ثمَّ إلى إنْكارٍ، وكان الخطابُ لِكُلِّ المُخاطَبينَ بالقُرآنِ مُؤكَّدًا بِـ "أنتم"، للإشارة إلى أنَّ النَفْسَ البَشَرِيَّةَ حِسِّيَّةٌ، وهيَ تَأْخُذُ أَحْكامَها على الغائبِ الخَفِيِّ مِنَ المَحْسوسِ الجَلِيِّ. فكانَ الخِطابُ للجَميعِ. وما عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ الْمُرَادَ بـ "خلقَكم" هو آدَمُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَالْخَلْقُ نَسْلُهُ وَالْفَرْعُ يُضَافُ إِلَى أَصْلِهِ فَلِذَلِكَ قَالَ: "خَلَقَكُمْ" بِالْجَمْعِ فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْخِطَابِ لَهُمْ إِذْ كَانُوا وَلَدَهُ، وهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ وَابْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ وهو الأشهرُ. وقيلَ: أَنْ تَكُونَ النُّطْفَةُ خَلَقَهَا اللهُ مِنْ طِينٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ ثُمَّ قَلَبَهَا حَتَّى كَانَ الْإِنْسَانُ مِنْهَا. وذَكَرَهُ النحّاسُ.وبالجُملةِ فلمَّا ذَكَرَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ خَلْقَ الْعَالَمِ الْكَبِيرِ ذَكَرَ بَعْدَهُ خَلْقَ الْعَالَمِ الصَّغِيرِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ وَجَعَلَ فِيهِ مَا فِي الْعَالَمِ الْكَبِيرِ. فقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ فِي كِتَابِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِالرَّحِمِ يَأْخُذُ النُّطْفَةَ فَيَضَعُهَا عَلَى كَفِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قَالَ مُخَلَّقَةً قَالَ: يَا رَبِّ مَا الرِّزْقُ مَا الْأَثَرُ مَا الْأَجَلُ؟ فَيَقُولُ: انْظُرْ فِي أُمِّ الْكِتَابِ فَيَنْظُرُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَيَجِدُ فِيهِ رِزْقَهُ وَأَثَرَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَيَأْخُذُ التُّرَابَ الَّذِي يُدْفَنُ فِي بُقْعَتِهِ وَيَعْجِنُ بِهِ نُطْفَتَهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ} طه: 55. وَخَرَّجَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَقَدْ ذُرَّ عَلَيْهِ مِنْ تُرَابِ حُفْرَتِهِ)). وَعَلَى هَذَا يَكُونُ كُلُّ إِنْسَانٍ مَخْلُوقًا مِنْ طِينٍ وَمَاءٍ مَهِينٍ كَمَا أَخْبَرَ ـ عزَّ وجلَّ ـ فِي سُورَةِ "الْمُؤْمِنُونَ" فَتَنْتَظِمُ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ وَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ وَالتَّعَارُضُ وَاللهُ أَعْلَمُ.وَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْ خَلْقِ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "الْبَقَرَةِ" ذِكْرُهُ وَاشْتِقَاقُهُ وَنَزِيدُ هُنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ وَنَعْتَهُ وَسِنَّهُ وَوَفَاتَهُ ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي "الطَّبَقَاتِ" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الناسُ وَلَدُ آدَمَ وَآدَمُ مِنَ التُّرَابِ)). وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: خَلَقَ اللهُ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ مِنْ أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا دَجْنَاءُ قَالَ الْحَسَنُ: وَخَلَقَ جُؤْجُؤَهُ مِنْ ضَرِيَّةٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: ضَرِيَّةٌ قَرْيَةٌ لِبَنِي كِلَابٍ عَلَى طَرِيقِ الْبَصْرَةِ وَهِيَ إِلَى مَكَّةَ أَقْرَبُ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَ إِبْلِيسَ فَأَخَذَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ مِنْ عَذْبِهَا وَمَالِحْهَا فَخَلَقَ منه آدمَ ـ عليه السلامُ ـ فكلُّ شيءٍ خَلَقَهُ مِنْ عَذْبِهَا فَهُوَ صَائِرٌ إِلَى الْجَنَّةِ وإنْ كان ابْنَ كافرٍ، وكلُّ شيءٍ خَلَقَهُ مِنْ مَالِحِهَا فَهُوَ صَائِرٌ إِلَى النَّارِ وَإِنْ كَانَ ابْنَ تَقِيٍّ، فَمِنْ ثَمَّ قَالَ إبليسُ {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} الإسراء: 61. لِأَنَّهُ جَاءَ بِالطِّينَةِ فَسُمِّيَ آدَمُ، لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ. وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: خَلَقَ اللهُ آدَمَ فِي آخِرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ كَانَ رَأْسُهُ يَمَسُّ السَّمَاءَ قَالَ فَوَطَّدَهُ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى صَارَ سِتِّينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعَةِ أَذْرُعٍ عَرْضًا. وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ آدَمُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ طُوَالًا جَعْدًا كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ وَحَجَّ آدَمُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ مِنَ الْهِنْدِ إِلَى مَكَّةَ أَرْبَعِينَ حَجَّةً عَلَى رِجْلَيْهِ وَكَانَ آدَمُ حِينَ أُهْبِطَ تَمْسَحُ رَأْسُهُ السَّمَاءَ فَمِنْ ثَمَّ صَلِعَ وَأَوْرَثَ وَلَدَهُ الصَّلَعَ وَنَفَرَتْ مِنْ طُولِهِ دَوَابُّ الْبَرِّ فَصَارَتْ وَحْشًا مِنْ يَوْمَئِذٍ وَلَمْ يَمُتْ حَتَّى بَلَغَ وَلَدُهُ وَوَلَدُ وَلَدِهِ أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَتُوُفِّيَ على ذُرْوةِ الْجَبَلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقَالَ شِيثُ لِجِبْرِيلَ ـ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: (صَلِّ عَلَى آدَمَ) فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَقَدَّمْ أَنْتَ فَصَلِّ عَلَى أَبِيكَ وَكَبِّرْ عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً فَأَمَّا خَمْسٌ فَهِيَ الصَّلَاةُ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ تَفْضِيلًا لِآدَمَ. وَقِيلَ: كَبِّرْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا فَجَعَلَ بَنُو شِيثَ آدَمَ فِي مَغَارَةٍ وَجَعَلُوا عَلَيْهَا حَافِظًا لَا يَقْرَبُهُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي قَابِيلَ وَكَانَ الَّذِينَ يَأْتُونَهُ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ بَنُو شِيثَ وَكَانَ عُمْرُ آدَمَ تِسْعَمِئَةِ سَنَةٍ وَسِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وفي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَوَاهِرَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يَنْقَلِبَ الطِّينُ إِنْسَانًا حَيًّا قَادِرًا عَلِيمًا جَازَ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْجَوَاهِرِ لِتَسْوِيَةِ الْعَقْلِ بَيْنَ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ وَقَدْ صَحَّ انْقِلَابُ الْجَمَادِ إِلَى الْحَيَوَانِ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ.قَوْلُهُ: {ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} قَالَ الضَّحَّاكُ: "أَجَلًا" فِي الْمَوْتِ "وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ" أَجَلُ الْقِيَامَةِ فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: حَكَمَ أَجَلًا وَأَعْلَمَكُمْ أَنَّكُمْ تُقِيمُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَلَمْ يُعْلِمْكُمْ بِأَجَلِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَخَصِيفٌ وَقَتَادَةُ وَهَذَا لَفْظُ الْحَسَنِ: قَضَى أَجَلَ الدُّنْيَا مِنْ يَوْمِ خَلَقَكَ إِلَى أَنْ تَمُوتَ "وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ" يَعْنِي الْآخِرَةَ. وَقِيلَ: "قَضى أَجَلًا" مَا أَعْلَمَنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ "وَأَجَلٌ مُسَمًّى" مِنَ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: "قَضى أَجَلًا" مِمَّا نَعْرِفُهُ مِنْ أَوْقَاتِ الْأَهِلَّةِ وَالزَّرْعِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا "وَأَجَلٌ مُسَمًّى" أَجَلُ الْمَوْتِ لَا يَعْلَمُ الْإِنْسَانُ مَتَى يَمُوتُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: مَعْنَى الْآيَةِ "قَضى أَجَلًا" بِقَضَاءِ الدُّنْيَا، "وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ" لِابْتِدَاءِ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ قَبْضُ الْأَرْوَاحِ فِي النَّوْمِ وَالثَّانِي قَبْضُ الرُّوحِ عِنْدَ الْمَوْتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا.قَوْلُهُ: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} أَيْ تَشُكُّونَ فِي أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَقِيلَ: تُمَارُونَ فِي ذَلِكَ أَيْ تُجَادِلُونَ جِدَالَ الشَّاكِّينَ وَالتَّمَارِي الْمُجَادَلَةُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّكِّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى} النجم: 12.قوله تعالى: {مِّن طِينٍ}: متعلِّقٌ بـ "خَلَقكم" و"مِنْ" لابتداء الغاية. أو متعلِّق بمحذوف على أنه حال، وذهب جماعة كالمهدويِّ ومكي وجماعة إلى أنه لا يحتاج إلى حَذْفٍ، وأنَّ الإِنسان مخلوقٌ من الطين، وقالَ غالبُ المُفسرين: ثمَّ محذوفٌ أي: خَلَقَ أَصْلَكم أو أباكم من طينٍ، يعنون آدم وقصته المشهورة. وقال امرؤ القيس:إلى عِرْقِ الثَّرى رَسَخَتْ عُروقي ............. وهذا الموتُ يَسْلُبُني شبابيقالوا: أراد بعِرقْ الثرى آدم ـ عليه السلام ـ لأنَّه أصلُهُ.قولُه: {ثُمَّ قضى} ثُمَّ: للترتيبِ الزمانيِّ على أَصلِها؛ إذا كانت "قضى" بمعنَى أَظهرَ لأنَّ ذلك متأخِّرٌ عن خَلْقِنا وهي صفةُ فِعْلٍ، وإذا كان معناها كَتَب وقَدَّر فهي للترتيب في الذِّكْر؛ لأنَّها صِفَةُ ذاتٍ، وذلك مُقَدَّمٌعلى خَلْقِنا.قوله: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} مبتدأٌ وخبرٌ، وسوَّغَ الابْتِداءَ هُنا شيئان، أحدهما: وَصْفُه، والثاني: عَطْفُه، ومجرَّدُ العطفِ مِنَ المُسوِّغاتِ، قالَ:عندي اصْطِبارٌ وشَكْوى عند قاتلتي ... فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعاوالتنكيرُ في الأَجَلَيْن للإِبهامِ. وهُنا مُسَوِّغٌ آخَرُ وهو التَفصيلُ كقولِ امْرِئ القيس:إذا ما بَكى مِنْ خلفِها انصرفَتْ له ........... بشِقٍ وشِقٌ عِندَنا لم يُحَوَّلِولم يَجِبْ هنا تقديمُ الخبرِ، وإنْ كان المُبتدَأُ نَكِرةً والخبرُ ظَرْفًا؛ لأنَّه تخصَّصَ بالصفةِ فقارَبَ المعرفةَ.قولُه: {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} قد تقدَّمَ الكلامُ على "ثم" هذه. وتَمْتَرون تَفْتَعُون مِنَ المِرْيَةِ، وتَقدَّمَ مَعناها في البقرةِ عندَ قولِه: {مِنَ الممترين} الآية: 147. وهذا من باب الالتفات، أَعني قولَه: "خَلَقَكم ثمَّ أنتم تَمْتَرون" لأنَّ قوله: "ثْمَّ الذين كَفَرُواْ" غائبٌ، فالتفتَ عنه إلى قوله: "خلقكم ثم أنتم".وأصلُ "مُسَمَّى" مُسَمَّوٌ لأنَّه مِنْ مادَّةِ الاسْمِ، وقدْ تقدَّمَ ذلك فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً، ثمَّ الياءُ أَلِفًا. و"تمترون" أصلُه تَمْتَرِيُون فأُعِلَّ كنظائرَ لَهُ تقدَّمَتْ. | |
|