وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
(51)
قَوْلُهُ تَعَالَى شأنُه: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ} أَمْرٌ منْه سبحانَهُ تَعالى لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلَّمَ بأنْ يُنذِرَ ويحذِّرَ بعدَ ما حَكَى لَه أَنَّ مِنَ الكَفَرَةِ مَنْ لا يَتَّعِظُ ولا يَتَأَثَّرُ فقدِ الْتَحَقَ بالأَمْواتِ وانْتِظَمَ في سِلْكِ الجَماداتِ فمَا يَنفَعُ فيه إنذارٌ ولا تُفيدُه عظةٌ وتَذكيرٌ، إذًا فليُنْذَرْ مَنْ يُتَوَقَّعُ منهمُ الانْتِفاعُ، ويُرجَى منهمُ القَبُولُ والسَّمَاعُ، والإِنْذَارُ هو الإِعْلامُ، فعِظْهم يا رسول اللهِ وخَوِّفْهم بما يُوحى إليكَ وبِالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: "بِهِ" أَيْ بِاللهِ فخوِّفهم غضبه وعقابَه. وَقِيلَ: "بِه" أي بالْيَوْمِ الآخِرِ وما فيه من أهوالٍ. وَخَصَّ "الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا" لأَنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ أَوْجَبُ، فَهُمْ خَائِفُونَ مِنْ عَذَابِهِ، لا أَنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي الْحَشْرِ، فَمَعْنَى "يَخافُونَ" أيْ يَتَوَقَّعُونَ عَذَابَ الْحَشْرِ. وَقِيلَ: معنى "يَخافُونَ" يَعْلَمُونَ، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أُنْذِرَ لِيَتْرُكَ الْمَعَاصِيَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُنْذِرَ لِيَتَّبِعَ الْحَقَّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ الْمُؤْمِنُونَ. وقَالَ الزَّجَّاجُ: المُرادُ كُلُّ مَنْ أَقَرَّ بِالْبَعْثِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ. وَقِيلَ: الآيَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ أَيْ أَنْذِرْهُمْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالأَوَّلُ أَظْهَرُ.
ورُوِيَ عنِ ابْنِ عبَّاسٍ والحَسَنِ رَضيَ اللهُ تَعالى عنهم أنَّ المُرادَ بالموصول "الذين" المؤمنون وارْتضاهُ غيرُ واحدٍ إلاََّ أنهم قيَّدوه بالمُفَرِّطين لأنَّه المُناسِبُ للإنذارِ ورَجاءِ التَقوى. وتُعُقِّبَ بأنَّه ممَّا لا يُساعدُ عليه السياقُ بلْ فيه ما يَقضِي بِعدَمِ صِحَّتِه، وقيل: المُرادُ المؤمنون والكافرون وعَلَّلَهُ الإمامُ الرازي "بأنَّه لا عاقِلَ إلاَّ وهُوَ يخافُ الحَشَرَ سَواءٌ قطعَ بحصولِه أوْ كان شاكًّا فيه، لأنَّه بالاتِّفاقِ غيرُ مَعلومِ البُطْلانِ بالضَرورةِ فكانَ هذا الخوفُ قائمًا في حَقِّ الكُلِّ وبَأَنَّه عليْه الصَلاةُ والسَلامُ كان مبعوثًا إلى الكُلِّ فكانَ مَأْمورًا بالتَبليغِ" ولا يخفى ما فيه، والمَفعولُ الثاني للإنذارِ إمَّا العذابُ الأُخْرَوِيُّ المَدلولُ عليْه بما في حَيِّزِ الصِلَةِ، وإمَّا مُطْلَقُ العَذابِ الذي وَرَدَ بِهِ الوَعيدُ. والتَعَرُّضُ لِعُنْوانِ الرُّبوبيَّةِ بتحقيقِ المَخافَةِ إمَّا باعْتِبارِ أَنَّ التربيةَ المفهومَةَ مِنْها مُقْتَضِيَةٌ خِلافَ ما خافوا لأَجْلِ الحَشْرِ. وإمَّا باعْتِبارِ أنها مُنْبِئَةٌ عَنِ المُلْكِيَّةِ المُطْلَقَةِ والتَصَرُّفِ الكُلِّيِّ كما قِيلَ. والمُرادُ مِنَ الحَشْرِ إليْهِ سُبْحانَه الحَشْرُ إلى المَكانِ الذي جَعَلَهُ عَزَّ وَجَلَّ محَلاًّ
لاجْتِماعِهم وللقَضاءِ عَلَيْهم فلا تَصْلُحُ الآيةُ دَليلاً للمُجَسِّمَةِ.
قولُهُ: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} مِنْ دُونِهِ: أَيْ مِنْ غَيْرِ اللهِ، "شَفِيعٌ" هَذَا رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي زَعْمِهِمَا أَنَّ أَبَاهُمَا يَشْفَعُ لَهُمَا حيثُ قالوا: {نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} المائدة: 18. وَالْمُشْرِكُونَ حَيْثُ جَعَلُوا أَصْنَامَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ، فَأَعْلَمَ اللهُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لا تَكُونُ لِلْكُفَّارِ. وَمَنْ قَالَ الآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: شَفَاعَةُ الرَّسُولِ لَهُمْ تَكُونُ بِإِذْنِ اللهِ فَهُوَ الشَّفِيعُ حَقِيقَةً إِذًا، وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى} الأنبياء: 28. و{وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} سبأ: 23. و{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} البقرة: 255.
وقولُهُ: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الثَّبَاتُ على الإيمان، أي لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي كما رُويَ عنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تعالى عنْهُما وهو على هذا تعليلٌ للأمرِ بالإنْذارِ، وجُوِّزَ أنْ يَكونَ حالاً عن ضميرِ الأمرِ أيْ أَنْذِرْهم راجيًا تَقْواهم، أوْ مِنَ المَوصولِ أيْ أَنْذِرْهُم مَرْجُوًّاً منهم التقوى.
قولُهُ تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} في حَيِّزِ النَّصْبِ على الحاليَّةِ مِنْ ضميرِ "يُحْشَرُواْ" والعاملُ فيه فِعلُه. ونُقِلَ عن الزجاجِ أَنَّه حالٌ مِنْ ضَميرِ "يَخَافُونَ" والأوَّلُ أَوْلى. و"مِن دُونِهِ" مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ وَقَعَ حالاً مِنِ اسْمِ "ليسَ" لأنَّه في الأصلِ صفةٌ لَه فلمَّا قُدِّمَ عليْه انْتَصَبَ على الحالِيَّةِ، والحالُ الأُولى لإخراجِ الحَشْرِ الذي لم يُقيَّدْ بها عنْ حَيِّزِ الخَوْفِ وتحقيقِ أنَّ ما نِيطَ بِهِ الخَوفُ هو الحَشْرُ على تلكَ الحالةِ لا الحَشْرُ كيْفَما كان ضرورةَ أنَّ المُعتَرِفينَ بِه الجازِمين بِنُصْرَةِ غيرِهِ تعالى بمنزلةِ المُنكِرينَ لَهُ في عَدَمِ الخَوْفِ الذي يَدورُ عليْه أَمْرُ الإنذارِ، والحالُ الثانيةُ لِتَحقيقِ مَدارِ خَوفِهمْ وهو فَقدانُ ما عَلَّقوا بِه رَجاءَهم وذلك إنما هو (وِلايةُ) غيرِهِ سُبْحانَهُ كما في قولِهِ جَلَّ شأنُه: {وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} الأحقاف: 32.