وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ.
(35)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ} أَيْ عَظُمَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ وَتَوَلِّيهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ. فقد كان ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ يحاول أن يفعل المستحيلَ ليدخلَ الإيمانُ إلى قلوبِ النَّاسِ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ على هدايةِ الخَلْقِ، وأنْ يَدُلَّهم على خالِقهم لِيُؤمِنوا به ويَعْبُدونَه ويتجنَّبون مَعصِيَتَه ويتَّقون غَضَبَهُ، فيُنقذُهم بذلك مِنْ سَخَطِهِ وعذابه، فيَدخلون جَنَّتَهُ ويحوزون رضوانَه. وقد نَقَلَ الثِّقاةُ أنَّه ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ مَرَّتْ به ذات يومٍ جَنازةٌ ليهودِيٍّ ممن كانوا يؤذونه، فبَدا عليْه الوُجومُ وظهر في وجْهِه الشريفِ الحُزْنُ، فقالوا يا رسولَ اللهِ إنَّما هي جَنازةُ فلان، فما الذي يُحزِنُك؟، فأجابهم بأنَّ ما يُحزنُه أنَّ صاحِبَ هذه الجنازةِ قد أُفْلِتَ من يده فلم يستَطِع أن يهديهِ إلى الجنَّةِ ويُنقذَه من النّارِ، ولا غروَ فهو ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ الرحمة المهداةُ للعالمين. وفيها بيانٌ بأنَّه لَا سبيلَ إلى إيمانهم إلّا أنْ يَجمَعَهمُ اللهُ على الإيمان، ويَقْذِفَ بالحِكْمَةِ في قلوبِهم، فإنَّ اللهَ تَعالى لم يكتبْ لهم ذلك، فقد قال ـ سبحانه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} القصص: 56.
قولُه: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا في السماءِ فتأتيهم بآيةٍ} ، فلو أنَّك يا رسولَ الله اسْتَطعت أنْ تَبْتَغي نَفَقًا في الأرضِ أيْ مَسْلَكًا عَميقًا في جوفِها، وسَرَبًا تَخْلُصُ مِنْهُ إِلَى أيِّ مكان تريدُه منها، "أوْ سُلَّمًا" أيْ مَرْقاةً تَرْتَقي بها إلى السماءِ، أَو سَبَبًا تَصْعَدُ بِه إِلَى السَّمَاءِ "فتأتيهم بآيةٍ" لِتَأتيَهم بآيةٍ يطلبونها ليؤمنوا ويشترطونها عليك. فلنْ يُجديَ ذلك؛ لأنَّهم لَا يُريدونَ حُجَّةً لِنَقْصِ الحُجَجِ التي بيْن أيديهم، ولكن يُريدون العَنَتَ وحسب، فلو أنَّك جئتَهم بكلِّ آيةٍ يَطلبونَ مِنْ جَوْفِ الأرْضِ أوْ مِنْ كَبِدِ السماءِ ما آمَنوا. لأنهم إنما يسألونك ذلك تعجيزًا، وَهَذَا من التَمْثِيلِ. فقد أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَلَّا يَشْتَدَّ حُزْنُهُ عَلَيْهِمْ إِذَا كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ هُدَاهُمْ.
قولُه: {وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى} أَيْ لَخَلَقَهُمْ مُؤْمِنِينَ
وَطَبَعَهُمْ وجمع قلوبَهم عَلَيْهِ، ففي الآيةِ بَيانُ أَنَّ كُفْرَهُمْ بِمَشِيئَةِ اللهِ، وفيها أيضًا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَيْ لَأَرَاهُمْ آيَةً تَضْطَرُّهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَرَادَ أَنْ يُثِيبَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَمَنْ أَحْسَنَ، ويعذبَ من كَفَرَ بربِّه وعصاه.
قولُه: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ} أَيْ مِنَ الذِينَ اشْتَدَّ حُزْنُهُمْ وَتَحَسَّرُوا حَتَّى أَخْرَجَهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْجَزَعِ الشَّدِيدِ، وَإِلَى مَا لَا يَحِلُّ، أَيْ لَا تَحْزَنْ عَلَى كُفْرِهِمْ فَتُقَارِبُ حَالَ الْجَاهِلِينَ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ الْأُمَّةُ، فَإِنَّ قُلُوبَ المسلمين كانت تَضيقُ مِنْ كفرِ هؤلاء المشركين وإيذائهم.
قولُهُ تعالى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ} شرطٌ، جوابُه الفاءُ الداخلةُ على الشَرْطِ الثاني، وجوابُ الثاني محذوفٌ تقديرُه: فإنِ اسْتَطعْتَ أَنْ تَبْتَغي فافعلْ، ثمَّ جُعِلَ الشرطُ الثاني وجوابُه جَوابًا للشَرطِ الأَوَّل، وقد تقدَّمَ مِثْلُ ذلك في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم ... فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ} البقرة: 38. وتقدَّمَ تحريرُ القولِ فيه، إلَّا أنَّ جوابَ الثاني هُناك مُظْهَرٌ وهنا محذوف. واسْمُ "كان" في إمّا "إعْراضُهم" ويكون "كَبُرَ" جُمْلَةٌ فِعْليَّةٌ في مَحَلِّ نصبٍ خبَرًا مُقدَّمًا على الاسْمِ، وفيها خلافٌ فيما إذا كان يجوزُ تقديمُ خبرِ كان على اسْمِها إذا كانَ فِعْلًا رافعًا لِضَميرٍ مُسْتَتِرٍ أمْ لا؟ وأمَّا إذا كان خَبَرًا للمُبْتَدأِ فلا يَجوزُ البَتَّةَ، لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِبابِ الفاعلِ واللَّبْسُ هُنا مَأْمون. وَوَجْهُ المَنْعِ اسْتِصحابُ الأَصْلِ. و إذا قيل "كَبُر" هو خبر "كان" فهل يُحتاج إلى إضمارِ "قد" أمْ لا؟ والظاهرُ أنَّه لا يَحتاجُ، لأنَّه كَثُرَ وَقْعُ الماضي خَبَرًا لها مِنْ غيرِ "قد" نظمًا ونَثْرًا، بعضُهم يَخُصُّ ذلك بـ "كان" ويَمنَعُه في غيرِها مِنْ أَخواتِها إلَّا بـ "قد" ظاهرةً أو مُضمَرةً، ومِنْ مَجيءِ ذلك في خبَرِ أَخواتِها قولُ النابغةِ:
أمسَتْ خَلاءً وأمسى أهلُها احَتَمَلُوا .... أَخْنى عليها الذي أَخْنى على لُبَدِ
وإمّا أَنْ يَكونَ اسمُها ضميرَ الأمرِ والشأنِ، والجملةُ الفِعليَّةُ مُفَسِّرةٌ لهُ في محلِّ نَصبٍ على الخَبَرِ، فـ "إعراضُهم" مرفوعٌ بـ "كَبُر" وفي الوجهِ الأوَّل بـ "كان"، ولا ضميرَ في "كَبُر" على الثاني، وفيه ضمير على الأوَّلِ. ومثلُ ذلك في جوازِ هذينِ الوَجْهيْن قولُه تَعالى: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} الأعراف: 137. {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} الجن: 4، ففرعون يُحْتَمَلُ أنْ يَكونَ اسْمًا لـ "كان"، ويحتمَلُ أنْ يَكونَ فاعلًا وكذلك "سفيهُنا" ومثلُه أيْضًا قولُ امرِئ القيس:
وإنْ تَكُ قد ساءَتْكِ مني خَليقةٌ ............ فَسُلِّي ثيابي مِنْ ثيابك تَنْسُلِ
فخليقَةٌ يَحْتَمِلُ الأمرين. وإظهارُ "قد" هنا يُرجَّحُ قولَ مَنْ يَشْتَرِطُها، وهل يَجوزُ في مثلِ هذا التركيبِ التَنازعُ؟ وذلك أنَّ كُلًّا مِنْ "كان" وما بعدَها مِنَ الأفعالِ المَذكورةِ في هذهِ الأَمثِلَةِ يَطلُبُ المَرْفوعَ مِنْ جِهَةِ المعنى، وشُروطُ الإِعْمالِ مَوجودة.
وقولُه: {وَإِن كَانَ كَبُرَ} مؤوَّلٌ بالاسْتِقبالِ وهو التَبيُّنُ والظُهورُ فهو كقولِه: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} يوسف: 26. أي: إنْ تبيَّن وظَهَر، وإلاَّ فهذه الأفعالُ قد وَقَعَتْ وانْقَضَتْ فكيف تقعُ شَرْطًا؟ وقد تقدَّم أنَّ المُبَرِّدَ يُبْقي "كان" خاصَّةً على مُضيِّها في المعنى مع أدوات الشرط، وليس بشيء. وأمَّا: "فإن استطعتَ" فهو مُستقبلٌ معنى لأنَّه لَمْ يقعْ بخلافِ كونِه كَبُر عليْه إعْراضُهم وقَدِّ القَميصِ "وأن تبتغي" مفعولُ الاستطاعة. "ونَفَقًا" مفعولُ الابْتِغاءِ.
والنَّفَقُ: السَّرَبُ النافِذِ في الأرضِ، وأصلُه في جُحْرةِ اليَرْبوعِ ومِنْه النافِقاء والقاصِعاء، وذلك أنَّ اليربوعَ يَحْفِر في الأرض سَرَبًا ويَجعَلُ له بابين، وقيل: ثلاثة؛ النَّافِقاءُ والقاصعاءُ والدَّابِقاءُ، ثمَّ يُرِقُّ بالحَفْرِ ما تَقارَبَ وجهُ الأَرْضِ، فإذا نابَهُ أَمْرٌ دَفَعَ تلك القِشْرَةَ الرَقيقةَ وخَرَجَ، وقدْ تَقَدَّمَ استيفاءُ هذه المادَّةِ عندَ ذِكْرِ {يُنْفِقُونَ} البقرة: 3. و{المنافقين} النساء: 61.
وقولُه: {فِي الأرض} ظاهرُهُ أنَّه مُتَعَلِّقٌ بالفِعْلِ قبلَه، ويَجوزُ أنْ يَكونَ صفةً لـ "نَفَقًا" فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، وهي صِفَةٌ لِمُجَرَّدِ التَوكيدِ إذِ النَفَقُ لا يَكونُ إلَّا في الأرضِ.
والسُّلَّمُ: قيل: المِصْعَدُ، وقيلَ: الدَّرَج، وقيل: السببُ، تقولُ العَرَبُ: اتَّخِذْني سُلَّمًا لِحاجتِك، أي: سَببًا، قال كعب بنُ زهير:
ولا لكما مَنْجَىً من الأرض فابغِيا ....... بها نَفَقًا أو في السماوات سُلَّما
وهو مشتقٌّ من السَّلامة لأنَّه يُسْلَمُ بِه إلى المَصعَدِ. والسُّلَّم مذكر، وقال الفرَّاءُ هو مؤنَّثٌ، قال بعضُهم، ليس ذلك بالوضْعِ، بَلْ لأنَّه بمَعنى المِرْقاةِ، كما أنَّثَ بعضُهم الصوتَ لمَّا كان في معنى الصرخة في قولِ رُوَيْشِدَ الطَّائِي:
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ المُزْجِي مَطِيَّتَهُ ........... سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ