وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.
(18)
قَوْلُهُ تَعَالَى شأنُه: {وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ} الْقَهْرُ الْغَلَبَةُ، وَالْقَاهِرُ الْغَالِبُ، وَأُقْهِرَ الرَّجُلُ إِذَا صُيِّرَ بِحَالِ الْمَقْهُورِ الذَّلِيلِ، قَالَ الشَّاعِرُ المُخَبَّلُ السَعديُّ يَهجو الزِبْرِقانَ بنَ بدرٍ وقومَهُ:
تَمَنَّى حُصَيْنٌ أَنْ يَسُودَ جِذَاعُهُ ............ فَأَمْسَى حُصَيْنٌ قَدْ أُذِلَّ وَأُقْهِرَا
جِذاعُ الرَجُلِ: قومُه. وَقُهِرَ غُلِبَ. وقيل هو استعارةٌ تمثيليَّةٌ وتصويرٌ لِقهرِهِ ـ سبحانَه وتعالى ـ وعُلُوِّهِ ـ عَزَّ شأنُه ـ بالغَلَبَةِ والقُدرَةِ، وجُوِّزَ أنْ تَكونَ الاستعارةُ في الظَرْفِ بأنْ شَبَّهَ الغَلَبَةَ بمَكانٍ مَحسوسٍ، وقيلَ: إنَّه كِنايَةٌ عنِ القَهرِ والعُلُوِّ بالغَلَبَةِ والقُدرَةِ، وَمَعْنَى "فَوْقَ عِبادِهِ" فَوْقِيَّةُ الِاسْتِعْلَاءِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ، أَيْ هُمْ تَحْتَ تَسْخِيرِهِ لَا فَوْقِيَّةَ مَكَانٍ، كَمَا تَقُولُ: السُّلْطَانُ فَوْقَ رَعِيَّتِهِ أَيْ بِالْمَنْزِلَةِ وَالرِّفْعَةِ. وَفِي الْقَهْرِ مَعْنًى زَائِدٌ لَيْسَ فِي الْقُدْرَةِ، وَهُوَ مَنْعُ غَيْرِهِ عَنْ بُلُوغِ الْمُرَادِ. "وَهُوَ الْحَكِيمُ" فِي أَمْرِهِ "الْخَبِيرُ" بِأَعْمَالِ عِبَادِهِ، أَيْ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ يَجِبُ أَلَّا يُشْرَكَ بِهِ.
وقيل: إنَّ "فَوْقَ" زائدةٌ وصَحَّح زِيادتَها وإن كانت اسماً كونها بمعنى على وهو كما ترى ، والداعي إلى التزامِ ذلك كلِّهِ أنَّ ظاهرَ الآيةِ يَقتَضي القولَ بالجِهةِ واللهُ ـ تعالى ـ مُنَزَّهٌ عنْها لأَنَّها مُحْدَثَةٌ بإحْداثِ العالَمِ وإخْراجِهِ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجودِ، ويَلزَمُ أَيْضًا مِنْ كونِهِ ـ سبحانَه وتعالى ـ في جهةٍ مَفاسِدُ لا تَخْفى، ومذهبُ السَلَفِ إثباتُ الفوقيَّةِ للهِ تعالى كمَا نَصَّ عليْه الإمامُ الطَحَاوِيُّ وغيرُه، واسْتَدَلُّوا لذلك بنحوِ ألفِ دَليلٍ، وقد رَوى الإمامُ أَحمد في حديثِ الأَوْعالِ عنِ العبَّاسِ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنْه ـ أنَّ رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ ـ قال: ((والعرشُ فوقَ ذلكَ واللهُ تعالى فوقَ ذلك كلِّهِ)). ورَوى أبو داوودَ عنْ جُبيْرٍ بْنِ مُحمَّدٍ بْنِ جُبيْرٍ بْنِ مُطْعِمٍ عن أَبيهِ عن جَدِّهِ قوله ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ للرجُلِ الذي اسْتَشْفَعَ بالله تعالى عليه: ((ويْحَكَ أَتَدْري ما اللهُ تَعالى؟ إنَّ اللهَ تعالى فوقَ عرْشِهِ وعَرْشُهُ فوقَ سماواتِهِ، وقال بأصابِعِه مِثْلَ القُبَّةِ وأَنَّهُ لَيَئِطُ بِه أَطيطَ الرَحْلِ الجَديدِ بالراكب)). يَئِطُ: يُصدِرُ صوتًا.
وأخرج الأموي في (مغازيه) مِنْ الصحيحِ أنَّ النَبيَّ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ قال لِسعْدٍ بْنِ معاذٍ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ يومَ حَكَمَ في يهودِ بَني قُريْظةَ بأنْ تُقتلَ مُقاتِلَتُهم، وتُسْبَى نِساؤهم وذراريهم، وتَكونَ أَموالُهم غنيمةً للمُسْلِمين، بِسَبَبِ غدرِهم ونُكْثِهم بِعَهْدِهم وتَآمُرِهم وحَربِهمُ المُسلِمين: ((لقد حكمتَ فيهم بحُكمِ الملِك مِنْ فوقِ سبعِ سموات)). وروى ابْنُ ماجةَ ورفعَه قال: ((بينا أهلُ الجنَّةِ في نَعيمِهم إذْ سَطَعَ لَهمْ نورٌ فرَفَعوا إليه رؤوسَهم فإذا الجَبَّارُ ـ جَلَّ جَلالُه قد أَشرَفَ عليهم مِنْ فوقِهم وقال: (يا أهلَ الجَنَّةِ سلامٌ عليكم" ثمَّ قرأ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ قولَه تعالى: {سَلاَمٌ قَوْلًا مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} [ يس: 58. فيَنْظُر إليهمْ ويَنْظُرون إليْهِ فَلا يَلْتَفِتونَ إلى شيءٍ مِنَ النَعيمِ ما داموا يَنظرونَ إليه)). وصَحَّ أنَّ عبدَ اللهِ بْنَ رواحةَ ـ رضي اللهُ عنه ـ أَنْشَدَ بيْن يَدَيْ رَسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلَّمَ:
شهدتُ بأنَّ وعدَ اللهِ حَقٌّ ...................... وأنَّ النارَ مَثْوَى الكافرينا
وأنَّ العرشَ فوقَ الماء ِطافٍ .................. وفوقَ العرشِ رَبُّ العالَمينا
وتَحمِلُه مَلائكةٌ شِدادٌ ............................ مَلائكةُ الإلهِ مُسوّمينا
فأقرَّه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ على ما قالَ، وكذا أَنْشَدَ حَسَّان بنُ ثابتٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنه ـ قوله:
شهدت بإذن الله أنَّ مُحمَّدًا ......... رسولُ الذي فوق السموات مِنْ عَلِ
وأنَّ أبا يحيى ويحيى كِلاهُما ..................... لَه عمَلٌ مِنْ ربِّه مُتَقَبَّلِ
وأن الذي عادى اليهودُ ابنُ مريمٍ ... رسولٌ أَتى مِنْ عِنْدِ ذي العرشِ مُرْسَلِ
وأنَّ أَخا الأحقافِ إذْ قامَ فيهم ............. يَقومُ بذاتِ اللهِ فيهِم ويَعْدِلِ
فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلّم: ((وأنا أَشهدُ)). وروى عِكْرِمَةُ عن ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضي الله تعالى عنهما ـ في قوله تعالى حكايةً عنْ إبليس: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ} الأعراف: 17. أنَّه قال: لم يَسْتَطعْ أنْ يَقولَ ومِنْ فوقِهم لأنَّه قدْ عَلِمَ أنَّ الله ـ تعالى سبحانَه ـ منْ فوقِهم، والآياتُ والأخبارُ التي فيها التصريحُ بما يَدُلُّ على الفوقيَّة كثيرة جدًا كقولِه تعالى: {تَنزِيلُ الكتابِ مِنَ الله العزيز الحكيم} الزمر: 1. و{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَيِّبُ} فاطر: 10. و{بَل رَّفَعَهُ الله} النساء: 158. إليه. و{تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ} المعارج: 4. وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما أخرجَه مُسلمٌ: ((وأَنْتَ الظاهرُ فليسَ فوقَكَ شيءٌ)). وكلامُ السلَفِ على ذلك، فقد رَوى شَيْخُ الإسلامِ أبو إسماعيلَ الأنْصاريُّ في كتابِه "الفاروق" بسندِه إلى أَبي مُطيعٍ البَلْخِيِّ أنَّه سَأَلَ أبا حَنيفةَ ـ رَضيَ اللهُ تعالى عنه ـ عمَّن قال: لا أعرف ربي ـ سبحانَه ـ في السماءِ أمْ في الأرْضِ فقالَ: قدَ كَفَرَ لأنَّ اللهَ تَعالى يقولُ: {الرحمنُ عَلَى العرشِ اسْتَوى} طه: 5. وعرشُه فوقَ سَبْعِ سَمَواتٍ فقال: قلتُ فإنْ قالَ إنَّه على العرشِ ولكن لا أدري العرش في السماءِ أمْ في الأرض؟ فقالَ رَضيَ اللهُ تعالى عنه هو كافرٌ لأنَّه أَنْكرَ آيةً في السماءِ ومَنْ أَنْكَرَ آيةً في السماءِ فقد كَفَرَ، وزادَ غيرُه لأنَّ اللهَ تعالى في أَعلى عِلِّيين وهو يُدعى مِنْ أَعلى لا مِنْ أَسْفَل.
وأُيِّدَ القولُ بالفَوقِيَّةِ أَيضًا بأنَّ الله تعالى لَمَّا خَلَقَ الخَلْقَ لمْ يَخْلُقْهم في ذاتِه المُقدَّسَةِ ـ تَعالى عن ذلك ـ فإنَّه الأحَدُ الصَمَدُ الذي لم يَلِدْ ولم يُولَدْ فتعيَّنَ أنَّه خَلَقَهم خارجًا عن ذاتِهِ ولو لم يَتَّصِفْ ـ سبحانَه ـ بفوقيَّةِ الذاتِ مَعَ أَنَّه قائمٌ بنفسِه غيرُ مُخالِطٍ للعالَمِ لَكانَ مًتَّصِفًا بِضِدِّ ذلك لأنَّ القابلَ للشيءِ لا يَخلو مِنْه أو مِنْ ضِدِّهِ وضِدُّ الفَوْقِيَّةِ السُفُولُ، ولو لم يكن ـ سبحانَه ـ قابلًا للعُلُوِّ والفَوقِيَّةِ لمْ يَكنْ لَه حَقيقةٌ قائمةٌ بنفسِها. وهو ـ جّلَّ شأنُه ـ ذاتٌ قائمٌ بنفسِهِ غيرُ مُخالِطٍ للعالَمِ، وليس وجودُه ذِهنِيًّا فقط، بل وجودُه خارجَ الأَذْهانِ قَطْعًا. وقد عَلِمَ كلُّ العُقلاءِ بالضَرورةِ أَنَّ ما كان وُجودُه كذلك فهو إمَّا داخلَ العالَمِ وإمَّا خارجٌ عنْهُ وإنْكارُ ذلك إنْكارُ ما هو أَجْلى البَديهيّاتِ. وإذا كانت صفةُ الفَوقِيَّةِ صفةَ كمالٍ لا نَقْصَ فيها ولا يُوجِبُ القولُ بِها مُخالفةَ كِتابٍ ولا سُنَّةٍ ولا إجْماعٍ كان نَفْيُها عَيْنَ الباطِلِ لا سيَّما والطِباعُ مَفطورةٌ على قَصْدِ جِهةِ العُلُوِّ عِنْدَ التَضَرُّعِ إلى الله تعالى.
وقال بعضُهم بأنَّ التوجُّهَ في الدعاءِ إلى فوق إنَّما هو لكونِ السماءِ قِبلةَ الدُعاءِ كما أنَّ الكَعْبَةَ قِبْلةَ الصَلاة، وهذا باطلٌ، لأنَّ القبلةَ ما يستقبلُه الداعي بوجهِه كما تُستَقبَلُ الكعبةُ في الصلاةِ، وما حاذاه الإنسانُ برأسِه أو يَديْه مَثلاً لا يُسمَّى قِبلةً أصلًا، فلو كانتِ السماءُ قِبلةَ الدُعاءِ لَجاءَ الشرعُ بوجوب أنْ يوجِّهَ الداعي وجهَه إليْها. ولم يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ السلَفِ. فقد صحَّ أنَّ قبلةَ الدُعاءِ هي قِبلَةُ الصلاةِ، ويُستَحَبُّ للداعي أنْ يستقبلَ القِبلةَ. وقدِ استقبلَ النَبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الكعبةَ في دُعائه، قال العلامة الألوسيُّ ـ رحمه الله: فمن قال إنَّ للدُعاءِ قبلةً غيرُ قِبلةِ الصلاةِ فقدِ ابْتَدَعَ في الدين وخالَفَ جماعةَ المُسْلمين .
وقالوا أيضًا إنَّ "فوق" مَنْقوضٌ بوضعِ الجبهةِ على الأرضِ معَ أنَّه ـ سبحانَه ليس في جِهةِ الأرضِ، وهو نقض فاسدٌ لأنَّ واضِعَ الجبهةِ إنَّما قَصْدُه الخُضوعُ بالذلِّ لمَن فوقَه.
وتأوَّل بعضُهم كلَّ نَصٍّ فيه نِسْبَةُ الفوقيَّةِ إليْه تعالى بأنَّ فوقَ فيه بمعنى خَيْرَ وأفضلَ كما يُقالُ: الأميرُ فوقَ الوزيرِ والدينارُ فوقَ الدِرْهَمِ. والعقول السليمة تأبى هذا فإنَّ قولك الله خير من خلقه كقولك الشمس أضوأُ مِنَ السِراجِ والسماءُ أَعلى مِنْ سقفِ الدارِ فليس في ذلك تمجيدٌ ولا تَعظيمٌ لله تعالى، ولا يليقُ حملُ الكلامِ المَجيدِ عليه وهو الذي لو اجتمع الإنسُ والجِنُّ على أنْ يأتوا بِمِثلِه لا يأتون بمثلِه ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيرًا، على أنَّ في ذلك تنقيصًا للهِ ـ تعالى ـ يقول الشاعرِ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ السيفَ يَنْقُصُ قَدْرُهُ ....... إذا قيلَ إنَّ السيفَ خيْرٌ مِنَ العَصا
نَعم إذا كان المَقامُ يَقتضي ذلك بأنْ كان احتجاجًا على مبطِلٍ كما في قول يوسُفَ الصدِّيقِ ـ عليه السلام: {مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الواحدُ القهَّارُ} يوسف: 39. وقولِه تعالى: {اللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} النمل: 59. {والله خَيْرٌ وأبقى} طه: 73. فهو أمرٌ لا اعْتِراضَ عليْهِ ولا تَوَجَّهُ سِهامُ الطعنِ إليْه، والفَوقيَّةُ بمَعنى الفَوقيِّةِ في الفَضْلِ ممَّا يُثبِتُها السَلَفُ ـ رضوانُ الله عليهم ـ للهِ ـ تبارك وتعالى ـ أيضًا وهي متحقِّقةٌ في ضِمْنِ الفَوقيَّةِ المُطْلَقةِ، وكذا يُثبِتون فوقيَّةَ القَهْرِ والغَلَبَةِ كما يُثبِتون فوقيَّةَ الذاتِ ويُؤمنون بجميعِ ذلك على الوَجْهِ اللائقِ بِجَلالِ ذاتِه وكمالِ صِفاتِه ـ سبحانَه وتعالى ـ مُنَزِّهين لهُ عمّا يَلزَمُ ذلك مما يَستحيلُ عليْه، ولا يؤمنون ببعضٍ ويَكفُرونَ ببعضٍ، ولا يَعدِلون عنِ الأَلفاظِ الشرعيَّةِ نَفْيًا ولا إثْباتًا، لِئَلَّا يُثْبِتوا معنًى فاسِدًا أو يَنْفوا معنًى صَحيحًا، فهم يُثبِتون الفَوقيَّةَ كما أَثْبَتَها اللهُ لِنَفْسِهِ. وأَمَّا لَفظُ الجِهَةِ، فقد يُرادُ بِهِ ما هو مَوجودٌ، وقد يُرادُ به ما هو معدومٌ؛ ومِنَ المَعلومِ أنَّه لا مَوجودَ إلَّا الخالقُ والمَخلوقُ، فإذا أُريدَ بالجِهةِ أَمْرٌ مَوجودٍ غيرُ اللهِ تَعالى كانَ مَخْلوقًا، واللهُ تعالى لا يَحْصُرُهُ شيءٌ ولا يُحيطُ به شيءٌ مِنَ المَخلوقاتِ، تعالى عن ذلك، وإنْ أُريدَ بالجهةِ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، وهو ما فوقَ العالمِ فليْس هناكَ إلَّا اللهُ تعالى وحدَه فإذا قيل: إنَّه تعالى في جِهَةٍ بِهذا الاعتِبارِ فهو صحيحٌ عندَهم، ومعنى ذلك أنَّه فوقَ العالَمِ حيثُ انتهتِ المَخلوقاتُ، ونُفاةُ لفظِ الجِهَةِ الذين يُريدون بذلكَ نفيَ العلوَّ يَذكرون مِنْ أَدِلَّتِهم أنَّ الجِهاتِ كلَّها مَخْلوقةٌ، وأنَّه ـ سبحانَه ـ كانَ قبلَ الجهاتِ، وأنَّه مَن قالَ: إنَّه تعالى في جِهَةٍ يَلْزَمُه القولُ بِقِدَمِ شيءٍ مِنَ العالَمِ، وأنَّه ـ جَلَّ شأنُه كانَ مُستَغنيًا عنِ الجِهةِ ثمَّ صارَ فيها. وهذه الألفاظُ ونحوُها تَنزِلُ على أنَّه عَزَّ وجلَّ ـ ليسَ في شيءٍ مِنَ المَخلوقات سواءٌ سُمِّيَ جِهَةً أمْ لَمْ يُسَمَّ، والجهةُ إنَّما تكونُ للجُرمِ المتحيِّزِ المحدود، وهذا كلُّه من صفات المخلوقات واللهُ ـ سبحانه وتعالى ـ مُنَزَّهٌ عن ذلك كلِّه. وهوَ كَلامُ حَقٍّ ولكنَّ الجِهَةَ ليْستْ أَمْرًا وُجُودِيًا بلْ هِيَ أَمْرٌ اعْتِباريٌّ فالأعلى والأسفلُ واليمين واليسار والأمامُ والخلفُ لا وجودَ لها إلا بالنسبة للموجود، وعليه فلا مَحذورَ إذا أثبتنا ما أثبته الله تعالى لنفسه من الفوقيَّة بحسب مراده سبحانه بقوله: "فوق" هنا أو الوراءَ والإحاطةَ بقولِه في سورة البروج: {واللهُ من ورائهم محيطٌ} الآية: 20، وما شابَهَها من آياتٍ، فأثبَتْنا ما أثبتَ ـ سبحانه ـ لنفسِه بحسَبِ مُرادِه ـ جلَّ وعلا ـ دون أي وهم أو تصوُّرٍ أو تخيُّلٍ لأنَّ أيّ توهُّمٍ أو تصوُّرٍ أو تخيُّلٍ سيكون نتيجة ما انطبع في المخيلة من صور المخلوقات، معتقدين بأنَّه لا يُشْبِهُ خَلقَهُ في شيءٍ، ولا يُشْبِهُهُ خَلقُه في شيءٍ، فهو كما قالَ في سورة الشورى: {ليسَ كَمِثلِهِ شيءٌ} الآية: 11.
وبالجُملةِ يجبُ تنزيه اللهِ تعالى عن مشابهة المَخلوقين وتَفويضُ عِلْمِ ما جاءَ مِنَ المُتَشابهاتِ إليْه ـ عَزَّ شأنُه ـ والإيمانُ بها على الوجهِ الذي جاءتْ عليْه. واللهُ تعالى أَعْلَمُ بِمُرادِه.
قولُه: {وَهُوَ الحكيم} أي ذو الحِكْمَةِ البالِغةِ، وهي العِلْمُ بالأشياءِ على ما هيَ عليْه، والإتيانُ بالأفعالِ على ما يَنبغي، أو المُبالِغُ في الإحكامِ وهو إتقانُ التَدبيرِ وإحسانُ التَقديرِ.
وقولُه: {الخبير} أيْ العالمُ بما دَقَّ وما جلَّ مِنْ أَحوالِ العِبادِ، وبما ظهرَ وما خفيَ مِنْ أُمورِهم.
قوله تعالى: {فَوْقَ} أظهرُ الوُجوهِ فيه أنَّهُ مَنصوبٌ باسْمِ الفاعلِ قبلَهُ. أو هُو مَرفوعٌ على أنَّه خبرٌ ثانٍ، أُخبِرَ عنْه بأنَّه قاهرٌ، وبأنَّه فوقَ عبادِه بالغَلَبَةِ والقَهرِ. أوْ هُو بَدَلٌ مِنَ الخَبَرِ. أوْ أنَّهُ منصوبٌ على الحالِ مِنَ الضميرِ في "القاهر" كأنَّه قيلَ: وهو القاهرُ مُسْتعليًا أوْ غالِبًا. واللام هنا وفيما تقدم للقصر.
وقيلَ إنَّ "فوق" هنا زائدةٌ، والتقديرُ وهو: القاهرُ عبادَه، ومثلُه: {فاضربوا فَوْقَ الأعْناقِ} الأنفال: 12. وهو مَردودٌ، لأنَّ الأَسماءَ لا تُزادُ.