بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
(28)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} بَلْ إِضْرَابٌ عَنْ تَمَنِّيهِمْ وَادِّعَائِهِمُ الْإِيمَانَ لَوْ رُدُّوا أو هو انتقال من حال إلى حال، من حالِ تَمَنِّيهم إلى حالِ بيانِ أنَّهم لو عادوا إلى الدنيا لاسْتَولتْ عليهم شهواتُهم وأهواؤهم مِنْ جديدٍ ولَعادوا لِما نُهُوا عنه. فهم لَا يتمنون أنْ يردهم اللهُ إلى الحياة الدنيا لأجلِ الهداية، بلْ لِهَوْلِ ما يَروْنَ و لما يحلُّ بهم من فَزعْ، ولأنَّه بَدا لَهُمُ الأمرُ الذي كانوا يُخفونَه، و"بَدا لَهُمْ" عَلَى أَقْوَالٍ بَعْدَ تَعْيِينِ مَنِ الْمُرَادُ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمُنَافِقُونَ لِأَنَّ اسْمَ الْكُفْرِ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِمْ، فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى بَعْضِ الْمَذْكُورِينَ، وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْعَذْبِ الْفَصِيحِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْكُفَّارُ وَكَانُوا إِذَا وَعَظَهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خَافُوا وَأَخْفَوْا ذَلِكَ الْخَوْفَ لِئَلَّا يَفْطِنَ بِهِمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَيَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ: "بَدا لَهُمْ" أَيْ بَدَا لِبَعْضِهِمْ مَا كَانَ يُخْفِيهِ عَنْ بَعْضٍ. وَقِيلَ: بَلْ ظَهَرَ لَهُمْ مَا كَانُوا يَجْحَدُونَهُ مِنَ الشِّرْكِ فَيَقُولُونَ: {وَاللهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فَيُنْطِقُ اللهُ جَوَارِحَهُمْ فَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ فَذَلِكَ حِينَ "بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ". وَقِيلَ: "بَدا لَهُمْ" مَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ، أَيْ بَدَتْ أَعْمَالُهُمُ السَّيِّئَةُ كَمَا قَالَ: {وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} الزمر: 47. قَالَ الْمُبَرِّدُ: بَدَا لَهُمْ جَزَاءُ كُفْرِهِمِ الَّذِي كَانُوا يُخْفُونَهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بَلْ ظَهَرَ لِلَّذِينَ اتَّبَعُوا الْغُوَاةَ مَا كَانَ الْغُوَاةُ يُخْفُونَ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، لِأَنَّ بَعْدَهُ {وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}.
قَوْلُهُ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ} ولو رُدُّوا: قِيلَ: بَعْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: قَبْلَ مُعَايَنَتِهِ. "لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ" أَيْ لَصَارُوا وَرَجَعُوا إِلَى مَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ الشِّرْكِ لِعِلْمِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَقَدْ عَايَنَ إِبْلِيسُ مِنْ قبلِهم مَا عَايَنَ مِنْ آيَاتِ اللهِ ومع ذلك عَانَدَ.
قَوْلُهُ: {وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} إِخْبَارٌ عَنْهُمْ، وَحِكَايَةٌ عَنِ الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا مِنْ تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، وَإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، كَمَا قَالَ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ} النحل: 124. فَجَعَلَهُ حِكَايَةً عَنِ الْحَالِ الْآتِيَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَكْذِبُونَ وَيَكُونُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
قوله تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ} بل: هنا إضرابٌ لانْتِقالٍ مِنْ قِصَّةٍ إلى أُخْرى وليسَتْ للإِبطالِ، وقال الزجَّاج "بل" هنا استدراكٌ وإيجابُ نفيٍ كَقولِهم: ما قامَ زيدٌ بلْ قامَ عَمْرٌو. والظاهرُ أنَّ النفيَ الذي أرادَه الزَجَّاجُ هو الذي في قولِه: {وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} إذا جَعلْناه مُستَأنَفًا على تقديرِ: ونحنُ لا نُكذِّبُ، والمعنى: بلْ إنَّهم مُكَذِّبون. وفاعلُ "بدا" قولُه: "مَا كَانُواْ" و"ما" يَجوزُ أَنْ تَكونَ مَوصولَةً اسْمِيَّةً وهو الظاهرُ، أي: ظَهَرَ لهم الذي كانوا يُخْفونَه. والعائدُ محذوفٌ. ويَجوزُ أنْ تَكونَ مَصْدَريَّةً، أيْ ظَهَرَ لَهم إخْفاؤهم، أي: عاقبتُه، أوْ أُطْلِقَ المَصْدَرُ على اسْمِ المَفعولِ، وهو بَعيدٌ، والظاهرُ أنَّ الضَميريْنِ: أَعْني المَجْرورَ والمَرْفوعَ في قولِهِ "بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ" عائدان على شيءٍ واحدٍ، وهُمْ الكُفَّارُ أَوْ اليَهودُ والنَصارى خاصَّةً، وقيل: المَجرورُ للأَتباعِ والمَرفوعُ للرُؤساءِ، أيْ: بل بَدا لِلأَتْباعِ ما كانَ الوُجَهاءُ المُتَّبَعونَ يُخْفُونَه.
قولُه: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} هي جملةٌ: مستأنَفَةٌ أوْ راجِعةٌ إلى قولِهِ {يا ليتنا}، كما تقدَّم.
وقرَأَ الجُمهورُ "وَلَوْ رُدُّواْ" بضمِّ الراءِ خالِصًا. وقرأَ الأَعْمَشُ ويَحيى بْنُ وثَّابٍ وإبراهيمُ: "رِدُّوا" بِكَسْرِها خالِصًا. وقد عَرَفْتَ أَنَّ الفِعلَ الثُلاثيَّ المُضاعَفَ العيْنِ واللامِ يَجوزُ في فائهِ إذا بُنيَ للمَفعولِ ثلاثةُ الأوْجُهِ المَذكورةِ في فاءِ المُعتلِّ العَيْنِ إذا بُنيَ للمَفعولِ نحوَ: قيلَ وبِيعَ، وقد تقدَّمَ ذلك. وقالَ الفرزدق:
وما حِلَّ مِنْ جهلٍ حُبَا حُلَمائِنا ............ ولا قائلُ المعروفِ فينا يُعَنَّفُ
بكسرِ الحاءِ.