قَوْلُهُ: {إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ} لَا بُدَّ عِنْدَ مالكٍ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ
تَمْلِيكِ الْمَسَاكِينِ مَا يُخْرَجُ لَهُمْ، وَدَفْعِهِ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَتَمَلَّكُوهُ وَيَتَصَرَّفُوا فِيهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} الانعام: 14. وَفِي الْحَدِيثِ: (أَطْعَمَ رَسُولُ اللهِ ــ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَدَّ السُّدُسَ)، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْكَفَّارَةِ فَلَمْ يَجُزْ فِيهَا إِلَّا التَّمْلِيكُ، أَصْلُهُ الْكِسْوَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ جَاز، قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إِنَّ التَّمْكِينَ مِنَ الطَّعَامِ إِطْعَامٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} الإنسان: 8. فَبِأَيِ وَجْهٍ أَطْعَمَهُ دَخَلَ فِي الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} قَدْ تَقَدَّمَ فِي (الْبَقَرَةِ) أَنَّ الْوَسَطَ بِمَعْنَى الْأَعْلَى وَالْخِيَارِ، وَهُوَ هُنَا مَنْزِلَةٌ بَيْنَ منزلتيْن ونِصْفًا بَيْنَ طَرَفَيْنِ. وَمِنْهُ الْحَدِيثُ خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا. وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أَهْلَهُ قُوتًا فِيهِ سَعَةٌ وَكَانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أَهْلَهُ قُوتًا فِيهِ شِدَّةٌ، فَنَزَلَتْ: "مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَسَطَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ مَا كَانَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. الْإِطْعَامُ عِنْدَ مَالِكٍ مُدٌّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَسَاكِينِ الْعَشَرَةِ، إِنْ كَانَ بِمَدِينَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ. قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَهُمْ إِذَا أَعْطَوْا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَعْطَوْا مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ بِالْمُدِّ الْأَصْغَرِ، وَرَأَوْا ذَلِكَ مُجْزِئًا عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَبِهِ قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ. وَاخْتُلِفَ إِذَا كَانَ بِغَيْرِهَا، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُجْزِئُهُ الْمُدُّ بِكُلِّ مَكَانٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: أَفْتَى ابْنُ وَهْبٍ بِمِصْرَ بِمُدٍّ وَنِصْفٍ. وَأَشْهَبُ بِمُدٍّ وَثُلُثٍ، قَالَ: وَإِنَّ مُدًّا وَثُلُثًا لَوَسَطٌ مِنْ عَيْشِ الْأَمْصَارِ فِي الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُخْرِجُ مِنَ الْبُرِّ نِصْفَ صَاعٍ، وَمِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ صَاعًا، عَلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خَطِيبًا فَأَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ، أَوْ صَاعِ بُرٍّ بَيْنَ اثْنَيْنِ. وَبِهِ أَخَذَ سُفْيَانُ وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: كَفَّرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ النَّاسَ بِذَلِكَ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَنِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ، خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ.
ولَا يَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ غَنِيًّا وَلَا ذَا رَحِمٍ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُطْعِمَهُ، وَلَكِنْ إِنْ فَعَلَ وَكَانَ فَقِيرًا أَجْزَأَهُ، فَإِنْ أَطْعَمَ غَنِيًّا جَاهِلًا بِغِنَاهُ فَفِي (الْمُدَوَّنَةِ) وَغَيْرِ كِتَابٍ لَا يُجْزِئُ، وَفِي (الْأَسَدِيَّةِ) أَنَّهُ يُجْزِئُ. وَيُخْرِجُ الرَّجُلُ مِمَّا يَأْكُلُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ زَلَّتْ هُنَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَقَالُوا: إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَيَأْكُلُ النَّاسُ الْبُرَّ فَلْيُخْرِجْ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ، وَهَذَا سَهْوٌ بَيِّنٌ، فَإِنَّ الْمُكَفِّرَ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ إِلَّا الشَّعِيرَ لَمْ يُكَلَّفْ أَنْ يُعْطِيَ لِغَيْرِهِ سِوَاهُ، وَقَدْ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَاعًا مِنْ طَعَامٍ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ فَفَصَّلَ ذِكْرُهُمَا لِيُخْرِجَ كُلُّ أَحَدٍ فَرْضَهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَهَذَا مِمَّا لَا خَفَاءَ فِيهِ.
قَالَ مَالِكٌ: إِنْ غَدَّى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ وَعَشَّاهُمْ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَهُمْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، لِأَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْأَكْلِ، وَلَكِنْ يُعْطِي كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَا يُجْزِئُ إِطْعَامُ الْعَشَرَةِ وَجْبَةً وَاحِدَةً، يَعْنِي غَدَاءً دُونَ عَشَاءٍ، أَوْ عَشَاءً دُونَ غَدَاءٍ، حَتَّى يُغَدِّيَهُمْ وَيُعَشِّيَهُمْ، قَالَ أَبُو عمر: وهو قول أئمَّةِ الفَتْوى بالأَمْصارِ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَلَا يُجْزِئُ الْخُبْزُ قَفَارًا بَلْ يُعْطِي مَعَهُ إِدَامَهُ زَيْتًا أَوْ كَشْكًا أَوْ كَامَخًا أَوْ مَا تَيَسَّرَ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ زِيَادَةٌ مَا أَرَاهَا وَاجِبَةً أَمَّا إِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ مَعَ الْخُبْزِ السُّكَّرَ ـ نَعَمْ ـ وَاللَّحْمَ، وَأَمَّا تَعْيِينُ الْإِدَامِ لِلطَّعَامِ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَضَمَّنُهُ. قُلْتُ: نُزُولُ الْآيَةِ فِي الْوَسَطِ يَقْتَضِي الْخُبْزَ وَالزَّيْتَ أَوِ الْخَلَّ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْجُبْنِ وَالْكَشْكِ كَمَا قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ)) وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنْ أَطْعَمَهُمْ خُبْزًا وَلَحْمًا، أَوْ خُبْزًا وَزَيْتًا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْيَوْمِ حَتَّى يَشْبَعُوا أَجْزَأَهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَمَكْحُولٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أنس ابْنِ مَالِكٍ. ولَا يَجُوزُ دَفْعُ الْكَفَّارَةِ إِلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يَمْنَعُونَ صَرْفَ الْجَمِيعِ إِلَى وَاحِدٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَيَخْتَلِفُونَ فِيمَا إِذَا صَرَفَ الْجَمِيعَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ بِدَفَعَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ إِذَا تَعَدَّدَ الْفِعْلُ حَسُنَ أَنْ يُقَالَ فِي الْفِعْلِ الثَّانِي لَا يُمْنَعُ مِنَ الذِي دُفِعَتْ إِلَيْهِ أَوَّلًا، فَإِنَّ اسْمَ الْمِسْكِينِ يَتَنَاوَلُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ دَفْعُ ذَلِكَ إِلَيْهِ فِي أَيَّامٍ، وَإِنَّ تَعَدُّدَ الْأَيَّامِ يَقُومُ مَقَامَ أَعْدَادِ الْمَسَاكِينِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ التَّعْرِيفُ بِقَدْرِ مَا يُطْعِمُ، فَلَوْ دَفَعَ ذَلِكَ الْقَدْرَ. لِوَاحِدٍ أَجْزَأَهُ. وَدَلِيلُنَا نَصُّ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْعَشَرَةِ فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيهِ إِحْيَاءَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكِفَايَتَهُمْ يَوْمًا وَاحِدًا، فَيَتَفَرَّغُونَ فِيهِ لِعِبَادَةِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلِدُعَائِهِ، فَيَغْفِرُ لِلْمُكَفِّرِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} الْكِسْوَةُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ الثَّوْبُ الْوَاحِدُ السَّاتِرُ لِجَمِيعِ الْجَسَدِ، فَأَمَّا فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُهُنَّ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَهُوَ الدِّرْعُ وَالْخِمَارُ، وَهَكَذَا حُكْمُ الصِّغَارِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي (الْعُتْبِيَّةِ): تُكْسَى الصَّغِيرَةُ كِسْوَةَ كَبِيرَةٍ، وَالصَّغِيرُ كِسْوَةَ كَبِيرٍ، قِيَاسًا عَلَى الطَّعَامِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَذَلِكَ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَمُغِيرَةُ: مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ الْبَدَنِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُجْزِئُ فِي أَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ قَالَ: نِعْمَ الثَّوْبُ التُّبَّانَ ـ سراويل صغير مقدار شبر، يَستُرُ العورَةَ المُغَلَّظَةَ. أَسْنَدَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ تُجْزِئُ عِمَامَةٌ يَلُفُّ بِهَا رَأْسَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمَا كَانَ أَحْرَصَنِي عَلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا كِسْوَةٌ تَسْتُرُ عَنْ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ كَمَا أَنَّ عليه طعامًا يشبعه من الجوع فَأَقُولُ بِهِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ بِمِئْزَرٍ وَاحِدٍ فَلَا أَدْرِيهِ، وَاللهُ يَفْتَحُ لِي وَلَكُمْ فِي الْمَعْرِفَةِ بِعَوْنِهِ. قُلْتُ: قَدْ رَاعَى قَوْمٌ مَعْهُودَ الزِّيِّ وَالْكِسْوَةِ الْمُتَعَارَفَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُجْزِئُ الثَّوْبُ الْوَاحِدُ إِلَّا إِذَا كَانَ جَامِعًا مِمَّا قَدْ يُتَزَيَّا بِهِ كَالْكِسَاءِ وَالْمِلْحَفَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: الْكِسْوَةُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبٌ وَإِزَارٌ، أَوْ رِدَاءٌ أَوْ قَمِيصٌ أَوْ قباء أو كساء. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُكْسِيَ عَنْهُ ثَوْبَينِ ثَوْبَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَهَذَا مَعْنَى مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
ولَا تُجْزِئُ الْقِيمَةُ عَنِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُجْزِئُ، وَهُوَ يَقُولُ: تُجْزِئُ الْقِيمَةُ فِي الزَّكَاةِ فَكَيْفَ فِي الْكَفَّارَةِ! قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَعُمْدَتُهُ أَنَّ الْغَرَضَ سَدُّ الْخَلَّةِ، وَرَفْعُ الْحَاجَةِ، فَالْقِيمَةُ تُجْزِئُ فِيهِ. وقيل: إِنْ نَظَرْتُمْ إِلَى سَدِّ الْخَلَّةِ فَأَيْنَ الْعِبَادَةُ؟ وَأَيْنَ نَصُّ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَعْيَانِ الثَّلَاثَةِ، وَالِانْتِقَالِ بالبيان من نوع إلى نوع؟!
وإِذَا دَفَعَ الْكِسْوَةَ إِلَى ذِمِّيٍّ أَوْ إِلَى عَبْدٍ لَمْ يُجْزِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْمَسْكَنَةِ، وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عُمُومُ الْآيَةِ. وَقَدِ اتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ لِلْمُرْتَدِّ، فَكُلُّ دَلِيلٍ خُصَّ بِهِ الْمُرْتَدُّ فَهُوَ دَلِيلٌ فِي الذِّمِّيِّ. وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِمِسْكِينٍ لِاسْتِغْنَائِهِ بِنَفَقَةِ سَيِّدِهِ فَلَا تُدْفَعُ إِلَيْهِ كَالْغَنِيِّ.
قَوْلُهُ: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} التَّحْرِيرُ الْإِخْرَاجُ مِنَ الرِّقِّ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْأَسْرِ وَالْمَشَقَّاتِ وَتَعَبِ الدُّنْيَا وَنَحْوِهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ أُمِّ مَرْيَمَ: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} آل عمران: 35. أَيْ مِنْ شُغُوبِ الدُّنْيَا وَنَحْوِهَا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ بْنِ غَالِبٍ:
أَبَنِي غُدَانَةَ إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ ...................... فَوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّةَ بْنِ جِعَالِ
أَيْ حَرَّرْتُكُمْ مِنَ الْهِجَاءِ.
وَخَصَّ الرَّقَبَةَ مِنَ الْإِنْسَانِ، إِذْ هُوَ الْعُضْوُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْغُلُّ وَالتَّوَثُّقُ غَالِبًا مِنَ الْحَيَوَانِ، فَهُوَ مَوْضِعُ الْمِلْكِ فَأُضِيفَ التَّحْرِيرُ إِلَيْهَا.
ولَا يَجُوزُ عِنْدَ المالكيَّةِ إِلَّا إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ كَامِلَةٍ لَيْسَ فِيهَا شِرْكٌ لِغَيْرِهِ، وَلَا عَتَاقَةُ بَعْضِهَا، وَلَا عِتْقٌ إِلَى أَجَلٍ، وَلَا كِتَابَةٌ وَلَا تَدْبِيرٌ، وَلَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ وَلَا مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ إِذَا مَلَكَهُ، وَلَا يَكُونُ بِهَا مِنَ الْهَرَمِ وَالزَّمَانَةِ مَا يَضُرُّ بِهَا فِي الِاكْتِسَابِ، سَلِيمَةً غير معيبة، خِلَافًا لِدَاوُودَ فِي تَجْوِيزِهِ إِعْتَاقَ الْمَعِيبَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ عِتْقُ الْكَافِرَةِ، لِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ يَقْتَضِيهَا. وَدَلِيلُنَا أَنَّهَا قُرْبَةٌ وَاجِبَةٌ فَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ مَحَلًّا لَهَا كَالزَّكَاةِ، وَأَيْضًا فَكُلُّ مُطْلَقٍ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُقَيَّدِ فِي عِتْقِ الرَّقَبَةِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: لَا يَكُونُ فِيهَا شِرْكٌ، لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} النساء: 92. وَبَعْضُ الرَّقَبَةِ لَيْسَ بِرَقَبَةٍ. وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا يَكُونُ فِيهَا عَقْدُ عِتْقٍ، لِأَنَّ التَّحْرِيرَ يَقْتَضِي ابْتِدَاءَ عِتْقٍ دُونَ تَنْجِيزِ عِتْقٍ مُقَدَّمٍ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: سَلِيمَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَالْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ كَامِلَةٍ وَالْعَمْيَاءُ نَاقِصَةٌ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعْتِقُ امْرَأً مُسْلِمًا إِلَّا كَانَ فِكَاكُهُ مِنَ النَّارِ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ بِعُضْوٍ مِنْهَا حَتَّى الْفَرْجَ بِالْفَرْجِ)) وَهَذَا نَصٌّ. وَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَعْوَرِ قَوْلَانِ وكذلك في الأصمِّ والخَصِيِّ.
ومن أَخْرَجَ مَالًا لِيُعْتِقَ رَقَبَةً فِي كَفَّارَةٍ فَتَلِفَ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ بَاقِيَةً عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مُخْرِجِ الْمَالِ فِي الزَّكَاةِ لِيَدْفَعَهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ لِيَشْتَرِيَ بِهِ رَقَبَةً فَتَلِفَ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لِامْتِثَالِ الْأَمْرِ.
واخْتَلَفُوا فِي الْكَفَّارَةِ إِذَا مَاتَ الْحَالِفُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: كَفَّارَاتُ الْأَيْمَانِ تُخْرَجُ مِنْ رَأْسِ مَالِ الْمَيِّتِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَكُونُ فِي الثُّلُثِ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ إِنْ أَوْصَى بِهَا.
ومَنْ حَلَفَ وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَمْ يُكَفِّرْ ثمَّ أَعْسَرَ، أَوْ حَنِثَ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى أَيْسَرَ، أَوْ حَنِثَ وَهُوَ عَبْدٌ فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى عُتِقَ، فَالْمُرَاعَاةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِوَقْتِ التَّكْفِيرِ لَا وَقْتِ الْحِنْثِ.
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَاللهِ لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللهُ)) واللِّجَاجُ فِي الْيَمِينِ هُوَ الْمُضِيُّ عَلَى مُقْتَضَاهُ، وَإِنْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ حَرَجٌ ومشَقَّةٌ، وترك ما فيه منفعة عاجلة أو آجلة، فإن كان شيءٌ مِنْ ذَلِكَ فَالْأَوْلَى بِهِ تَحْنِيثُ نَفْسِهِ وَفِعْلُ الْكَفَّارَةِ، وَلَا يَعْتَلُّ بِالْيَمِينِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ} البقرة: 224. وَقَالَ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ))
أَيِ الذِي هُوَ أَكْثَرُ خَيْرًا.
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ فِي حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ فَحَلَفَ وَهُوَ يَنْوِي غَيْرَهُ لَمْ تَنْفَعْهُ نِيَّتُهُ، وَلَا يَخْرُجْ بِهَا عَنْ إِثْمِ تِلْكَ الْيَمِينِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: ((مَالِكٌ: مَنْ حَلَفَ لِطَالِبِهِ فِي حَقٍّ لَهُ عَلَيْهِ))، وَاسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ، أَوْ حَرَّكَ لِسَانَهُ أَوْ شَفَتَيْهِ، أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ، لَمْ يَنْفَعْهُ اسْتِثْنَاؤُهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ النِّيَّةَ نِيَّةُ الْمَحْلُوفِ لَهُ، لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقٌّ لَهُ، وَإِنَّمَا تَقَعُ عَلَى حَسَبِ مَا يَسْتَوْفِيهِ لَهُ الْحَاكِمُ لَا عَلَى اخْتِيَارِ الْحَالِفِ، لِأَنَّهَا مُسْتَوْفَاةٌ مِنْهُ. هَذَا تَحْصِيلُ مَذْهَبِهِ وَقَوْلِهِ.
قَوْلُهُ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} مَعْنَاهُ لَمْ يَجِدْ فِي مِلْكِهِ أَحَدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، مِنَ الْإِطْعَامِ أَوِ الْكِسْوَةِ أَوْ عِتْقِ الرَّقَبَةِ بِإِجْمَاعٍ، فَإِذَا عَدِمَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْأَشْيَاءَ صَامَ. وَالْعَدَمُ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ إِمَّا بِمَغِيبِ الْمَالِ عَنْهُ أَوْ عَدَمِهِ، فَالْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِ فَإِنْ وَجَدَ مَنْ يُسَلِّفُهُ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُسَلِّفُهُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: يَنْتَظِرُ إِلَى بَلَدِهِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ بَلْ يُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الذِّمَّةِ وَالشَّرْطِ مِنَ الْعَدَمِ قَدْ تَحَقَّقَ فَلَا وَجْهَ لِتَأْخِيرِ الْأَمْرِ، فَلْيُكَفِّرْ مَكَانَهُ لِعَجْزِهِ عَنِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَمَنْ لَمْ يَجِدْ". وَقِيلَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلٌ عَنْ رَأْسِ مَالِهِ الَّذِي يَعِيشُ بِهِ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَجِدْ. وَقِيلَ: هُوَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا قُوتُ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ فَضْلٌ يُطْعِمُهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ مَنْ تَفْضُلُ عَنْهُ نَفَقَةُ يَوْمِهِ فَإِنَّهُ لَا يَصُومُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ ابْنِ مُزَيْنٍ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْحَانِثِ فَضْلٌ عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ أَطْعَمَ إِلَّا أَنْ يَخَافَ الْجُوعَ، أَوْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ لَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نِصَابٌ فَهُوَ غَيْرُ وَاجِدٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: إِذَا كَانَ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَطْعَمَ مَا فَضَلَ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِذَا كَانَ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ وَعِيَالِهِ وَكِسْوَةٌ تَكُونُ لِكِفَايَتِهِمْ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالِكًا لِقَدْرِ الْكَفَّارَةِ فَهُوَ عِنْدَنَا وَاجِدٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ حسن.
قولُه: {مُتَتَابِعَاتٍ} كما قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ فَيُقَيَّدُ بِهَا الْمُطْلَقُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَاعْتِبَارًا بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ: يُجْزِئُهُ التَّفْرِيقُ، لِأَنَّ التَّتَابُعَ صِفَةٌ لَا تَجِبُ إِلَّا بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى مَنْصُوصٍ وَقَدْ عُدِمَا.
ومَنْ أَفْطَرَ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الصِّيَامِ نَاسِيًا فَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الصِّيَامِ فِي (الْبَقَرَةِ).
هَذِهِ الْكَفَّارَةُ الَّتِي نَصَّ اللهُ عَلَيْهَا لَازِمَةٌ لِلْحُرِّ الْمُسْلِمِ بِاتِّفَاقٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ مِنْهَا عَلَى الْعَبْدِ إِذَا حَنِثَ، فَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ يَقُولُونَ: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّوْمُ، لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ، فَحَكَى عَنْهُ ابْنُ نَافِعٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُكَفِّرُ الْعَبْدُ بِالْعِتْقِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ الْوَلَاءُ، وَلَكِنْ يُكَفِّرُ بِالصَّدَقَةِ إِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ، وَأَصْوَبُ ذَلِكَ أَنْ يصوم. وحكى ابن القاسم عنه أن قَالَ: إِنْ أَطْعَمَ أَوْ كَسَا بِإِذْنِ السَّيِّدِ فما هو بالبين، وفي قلبي منه شيءٌ.
قَوْلُهُ: {ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ} أَيْ تَغْطِيَةُ أَيْمَانِكُمْ، وَكَفَّرْتُ الشَّيْءَ غَطَّيْتُهُ وَسَتَرْتُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ بِاللهِ تَعَالَى، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ التَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ فِعْلُ الْخَيْرِ الذي حَلَفَ في تَرْكِهِ.
وَتَرْجَمَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ (مَنْ قَالَ كَفَّارَتُهَا تَرْكُهَا) عَنْ أُمِّ السيدةِ عَائِشَةَ ـ رضيَ اللهُ عنها ـ قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ حَلَفَ فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ فِيمَا لا يصلح فَبِرُّهُ أَلَّا يُتِمَّ عَلَى ذَلِكَ)) وَأَسْنَدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَتْرُكْهَا فَإِنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَتُهَا)). وَيَعْتَضِدُ هَذَا بِقِصَّةِ الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حِينَ حَلَفَ أَلَّا يَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَحَلَفَتِ امْرَأَتُهُ أَلَّا تَطْعَمَهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ، وَحَلَفَ الضَّيْفُ ـ أَوِ الْأَضْيَافُ ـ أَلَّا يَطْعَمَهُ أَوْ لَا يَطْعَمُوهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَانَ هَذَا مِنَ الشَّيْطَانِ، فَدَعَا بِالطَّعَامِ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا. خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَزَادَ مُسْلِمٌ قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، بَرُّوا وَحَنِثْتُ، قَالَ: فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: ((بَلْ أَنْتَ أَبَرُّهُمْ وَأَخْيَرُهُمْ)) قَالَ:
وَلَمْ تَبْلُغْنِي كَفَّارَةٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي كَفَّارَةِ غَيْرِ الْيَمِينِ بِاللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَالِهِ أَخْرَجَ ثُلُثَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. وقال الشعبي وعطاء وطاووس: لا شيءَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْيَمِينُ بِالْمَشْيِ إِلَى مَكَّةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ بِهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَتُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمُ بن محمد: لا شي عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا يُوجِبُونَ فِي الْيَمِينِ بِالْمَشْيِ إِلَى مَكَّةَ كَفَّارَةً مِثْلَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِاللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَجُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ أَفْتَى بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ ابْنَهُ عَبْدَ الصَّمَدِ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَالْمَشْهُورُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عِنْدَهُ فِي الْمَشْيِ إِلَى مَكَّةَ إِلَّا بِالْمَشْيِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَأَمَّا الْحَالِفُ بِالْعِتْقِ فَعَلَيْهِ عِتْقُ مَنْ حَلَفَ عَلَيْهِ بِعِتْقِهِ فِي قول مالك والشافعي وغيرهما. وروي عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ ـ رضي الله عنهم ـ أَنَّهُ يُكَفِّرُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ وَلَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَأَجْمَعَ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَازِمٌ لِمَنْ حَلَفَ بِهِ وَحَنِثَ.
قَوْلُهُ: {وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أَيْ احفظوا أيمانَكم بِالْبِدَارِ إِلَى مَا لَزِمَكُمْ مِنَ الْكَفَّارَةِ إِذَا حَنِثْتُمْ. وَقِيلَ: أَيْ بِتَرْكِ الْحَلِفِ، فَإِنَّكُمْ إِذَا لَمْ تَحْلِفُوا لَمْ تَتَوَجَّهْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ التَّكْلِيفَاتُ. وقد تَقَدَّمُ مَعْنَى الشُّكْرِ.
قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ..} تقدَّمَ إعرابُ ذلك في سورةِ البَقَرِةِ واشتقاقُ المفردات. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: "عَقَدْتُمْ" بتخفيف القاف دون ألف بعد العين، وابن ذكوان عن ابن عامر: "عاقدتم" بزِنَةِ "فاعلتم"، والباقون: "عَقَّدتم" بتشديد القاف. فأمَّا التخفيفُ فهو الأصل، وأمَّا التشديدُ فيحتمل أوجهًاً، أحدُها: أنَّه للتكثيرِ لأنَّ المخاطبَ به جماعةٌ. والثاني: أنَّه بمعنى المُجرَّدِ فيوافِقُ القراءةَ الأولى، ونحوُه: قَدَّر وقَدَر. والثالث: أنه يَدُلُّ على توكيد اليمين نحو: "واللهِ الذي لا إلهَ إلا هو". والرابع: أنَّه يَدُلُّ على تأكيدِ العزمِ بالالْتِزام. والخامس: أنَّه عِوَضٌ مِنْ الأَلِفِ في القراءة الأُخرى، ولا أَدري ما معناه، ولا يجوز أن يكونَ لتكرير اليمين فإنَّ الكفارةَ تَجِبُ ولو بمرةٍ واحدةٍ.
وقد تَجَرَّأ أبو عُبَيْدٍ على هذه القراءةِ وزيَّفَها فقال: "التشديد للتكرير مرَّةً مِنْ بعدِ مَرَّةٍ، ولستُ آمَنُ أنْ تُوجِبَ هذه القراءةُ سقوطَ الكفارةِ في اليمينِ الواحدةِ لأنَّها لم تُكرَّرْ" وقد وَهَّموه في ذلك، وذكروا تلك المعاني المُتقدِّمةِ، فَسَلِمَتِ القراءةُ تلاوةً ومعنًى وللهِ الحمدُ.
وأمَّا "عاقدت" فيُحتملُ أن يكونَ بمعنى المجردِ نحو: جاوزتُ الشيءَ وجُزْتُه، وقال الفارسيُّ: "عاقَدْتم" يَحتَمِلُ أَمريْن، أحدُهُما: أنْ يكونَ بمعنى فَعَل، ك "طارَقْتُ النَّعْلَ" و"عاقبتُ اللِّصَّ"، والآخر: أنْ يُرادَ بِه فاعَلْتُ التي تقتضي فاعليْن، كأنَّ المَعنى: بما عاقدتم عليه الأيمانَ ، عَدَّاه بـ "على" لَمَّا كان بمعنى عاهد، قال: {بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللهَ} الفتح: 10. كما عَدَّى: {نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاةِ} المائدة: 58. بـ "إلى" وبابُها أنْ تَقولَ: ناديتُ زيدًا نحو: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطورِ} مريم: 52. لَمَّا كانت بمعنى دَعَوْتُ إلى كذا، قال: {مِمَّن دَعَا إِلَى اللهِ} فُصِّلَتْ: 33. ثمَّ اتُّسِع فحُذِف الجارُّ ونُقِل الفعل إلى المفعول، ثمَّ حُذِف الضميرُ العائدُ مِنْ الصلةِ إلى الموصولِ إذْ صار: {بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمان} كما حُذِف من قولِه: {فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} الحُجُر: 94. يُريدُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ أنْ يُبيِّنَ معنى المفاعلة فأتى بهذه النظائرِ للتضمين ولِحذْفِ العائدِ على التدريج، والمعنى: بما عاقَدْتُم عليه الأيمان وعاقَدَتُم الأيمان عليه، فَنَسَب المعاقدةَ إلى الأيمان مَجازًا. ولقائلٍ أنْ يَقولَ: قد لانحتاجُ إلى عائد حتى نحتاجَ إلى هذا التكلُّفِ الكثير، وذلك بأن نجعلَ "ما" مصدريَّةً، والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه: بما عاقدتم غيرَكم الأيمانَ، أي: بمعاقدتكم غيرَكم الأيمانَ، ونَخلصُ مِنْ مَجازٍ آخرَ وهو نِسْبَةُ المُعاقدةِ إلى الأيمان، فإنَّ في هذا الوجهِ نسبةَ المُعاقدة للغيرِ وهي نسبةٌ حقيقيَّةٌ، وقد نَصَّ على ذلك ـ أَعني هذا الوجهَ ـ جَماعةٌ.
وقد تعقَّب الشيخُ على أَبي عليٍّ كلامَه فقال، قولُه: إنَّه مثل "طارَقْتُ النعل" و"عاقبتُ اللِّصَّ" ليس مثلَه، لأنَّك لا تقول: طَرَقْتُ ولا عَقَبْتُ، وتقول: عاقَدْت اليمين وعَقَدْتُها. وهذا غيرُ لازمٍ لأبي عليٍّ لأنَّ مرادَه أنَّه مثلُه من حيث إنَّ المفاعلةَ بمعنى أنَّ المُشاركة من اثنين مُنْتَفِيةٌ عنه كانتفائها مِن عاقَبْتُ وطارَقْتُ، أمَّا كونُه يُقالُ فيه أيضًا كذا فلا يَضُرُّهُ ذلك في التشبيه.
وقال أيضًا: تقديرُه حَذْفُ حرفِ الجَرِّ ثمَّ الضميرَ على التدرُّجِ بعيدٌ، وليس بنظير: {فاصدَعْ بما تؤمر} لأنَّ "أَمَرَ" يتعدَّى بنفسِه تارةً وبحرف الجرِّ أُخرى، وإن كان الأصلُ الحرفَ، وأيضًا فـ "ما" في "فاصدَعْ بما" لا يتعيَّن أنْ تَكونَ بمعنى الذي، بلْ الظاهرُ أنَّها مَصدريَّةٌ، وكذلك ههنا الأحسنُ أنْ تكونَ مصدريَّةً لمُقابلتِها بالمصدرِ وهو اللَّغْوُ. وقد تقدَّم في سورة النساء قولُه تعالى: {والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية: 33. و"عَاقَدْت" وذكرت لك ما فيهما فصارَ في ثلاثُ قراءاتٍ في المشهور، وفي تِيْكَ قراءاتان، وكنت قد ذَكَرْتُ أنه رُوي عن حمزة في سورة النساء: "عَقَّدت" بالتشديد، فيكون فيها أيضًا ثلاثُ قراءات، إلَّا أنَّه اتِّفاقٌ غريبٌ فإنَّ حمزةَ مِنْ أصحابِ التَخفيفَ في هذه السورةِ، وقد رُويَ عنْه التثقيلُ في النساء.
قوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ} مبتدأ وخبر، والضميرُ في "فكفارته" فيه أربعةُ أَوْجُه، أحدُها: أنَّه يَعودُ على الحِنْثِ الدالِّ عليه سياقُ الكلام، وإنْ لم يَجْرِ له ذكرٌ، أي: فكفَّارةُ الحِنْثِ. الثاني: أنَّه يَعود على "ما" إنْ جَعَلْناها موصولةً اسميَّةً، وهو على حذفِ مضافٍ، أي: فكفارةُ نُكْثِه، كذا قدَّرَهُ الزَّمخشريُّ، والثالث: أنَّه يَعودُ على العَقْدِ لِتَقَدُّمِ الفِعْلِ الدالِّ عليه. الرابع: أنْ يَعودَ على اليَمين، وإنْ كانت مُؤنَّثةً لأنَّها بمعنى الحَلْف، قالَهُما أبو البقاء، وليسا بظارهرين. و"إطعامُ" مصدرٌ مضافٌ لِمفعولِه وهو مقدَّرٌ بحرفٍ وفعلٍ مَبْنِيٍّ للفاعِلِ أي: فكفارتُه أنْ يُطْعِمَ الحانثُ عشرةً، وفاعلُ المصدر ثيراً ما يُحذَف، ولا ضرورة تَدْعوا إلى تقديرِه بفعلٍ مبنيٍّ للمَفعولِ أي: أنْ يُطْعَمَ عَشرَةٌ، لأنَّ في ذلك خلافًا تقدَّم التنبيه عليه، فعلى الأوَّلِ يكونُ محلُّ "عشرة" نصبًا، وعلى الثاني يكون محلُّها رفعًا على ما لم يُسَمِّ فاعلُه، ولذلك فائدةٌ تَظْهر في التابع، فإذا قلت: "يُعجبني أكلُ الخبزِ" فإنَّ قَدَّرْتَهُ مَبْنِيًّا للفاعِلِ فتُتبِعُ "الخُبزَ" بالجَرِّ على اللَّفْظِ والنَّصْبِ على المَحلِّ، وإنْ قَدًّرْتَه مبنيًا للمَفعولَ أَتْبَعتَه جَرًّا ورفعًا، فتَقولُ، يُعجِبُني أكْلُ الخبزِ والسمنِ والسمنَ والسمنُ، وفي الحديث: (نَهَى عن قتلِ الأبْتَرِ وذو الطُّفْيَتَيْنِ) برفعِ "ذو" على معنى: أن يُقْتَلَ الأبْتَرُ. قال أبو البقاء: والجَيِّدُ أنْ يُقَدِّرَ ـ أي المصدر ـ بفعلٍ قد سُمِّيَ فاعلُهُ، لأنَّ ما قبلَه وما بعدَه خِطابٌ، قلت: فهذِه قرينةٌ تُقَوِّي ذلك، لأنَّ المعنى: فكفَّارتُه أَنْ تُطْعِموا أَنْتُم أيُّها الحَالِفون، وقد قَدَّمْتُ لك أَنَّ تقديرَهُ بالمَبْني للفاعِلِ هو الراجحُ، ولو لم تُوجَدْ قرينةٌ لأنَّه الأصلُ. قوله: {مِنْ أَوْسَطِ} في محلِّ رفعٍ خَبَرًا لِمُبْتَدأٍ محذوفٍ يُبيِّنه ما قبلَه تقديرُه: طعامُهم في أوسطِ، ويكون الكلامُ قد تَمَّ عند قوله: "مساكين" وسيأتي إيضاحُ هذا بزيادةٍ قريبًا إنْ شاءَ اللهُ تعالى. أو هو في موضعِ نصبٍ لأنَّه صفةٌ للمَفعولِ الثاني، والتقديرُ: قوتًا أو طعامًا كائنًا مِنْ أَوْسَطِ، وأمَّا المفعولُ الأوَّلُ فهو "عشرة" المضافُ إليه المصدرُ، و"ما" موصولةٌ اسْمِيَّةٌ والعائد محذوفٌ أي: من أوسطِ الذي تطعمونه، وقَدَّره أبو البقاء مجرورًا بـ "مِنْ" فقال: "الذي تطعمون منه" وفيه نظرٌ لأنَّ مِن شرْطِ العائدِ المَجرورِ في الحذفِ أَنْ يتَّحِدَ الحرفان والمتعلَّقان، والحرفان هنا وإن اتَّفقا وهما "مِنْ" و"مِنْ" إلا أنَّ العامل اختلف، فإنَّ "مِنْ" الثانية متعلقةٌ بـ "تُطْعِمُون" والأُولى متعلقةٌ بمحذوفٍ وهو الكونُ المُطْلَقُ لأنَّها وقَعَتْ صفةً للمَفعولِ المحذوف، وقد يُقال: إنَّ الفعل لَمَّا كان مُنْصَبًّا على قولِه: "مِنْ أَوْسَطِ" فكأنَّه عاملٌ فيه، وإنَّما قدِّرْنا مفعولًا لِضرورةِ الصِناعةِ، فإنْ قلتَ: الموصولُ لَم يَنجرَّ "مِنْ" إنَّما انْجَرَّ بالإِضافةِ فالجَوابُ أنَّ المُضافَ إلى المَوصولِ كالمَوصولِ في ذلك نحو: "مُرَّ بغلامٍ الذي مَرَرْتُ". و"أهليكم" مفعولٌ أوَّلُ لـ "تُطْعِمُون" والثاني محذوفٌ كما تقدَّم أي: تُطْعِمونَه أَهليكم. و"أهليكم" جمعُ سلامةٍ ونقصُه منَ الشُروطِ كونُه ليس عَلَمًا ولا صفةً، والذي حَسَّنَ ذلك أنَّه كثيرًا ما يُستعمل استعمالَ "مستحقٌّ لِكذا" في قولِهم: "هو أهلٌ لكذا" أي: مُستحِقٌّ لَه فأشْبَهَ الصفاتِ فجُمِعَ جمعَها. وقال تعالى: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} الفتح: 11. و{قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} التحريم: 6، وفي الحديث: ((إنَّ للهِ أَهلين)) قيل: يا رَسولَ اللهِ: مَنْ هُمْ؟ قال: ((قُرَّاءُ القرآنِ هُمْ أهلو اللهِ وخاصَّتُه)). فقولُه: "أهلُو الله" جمعٌ حُذِفَتْ نونُه للإِضافة، ويُحتملُ أنْ يكونَ مفردًا فيُكتَب: "أهلُ الله" فهو في اللفظِ واحدٌ.
وقرَأَ جعفرٌ الصادقُ ـ رضي الله عنه: "أهالِيكم" بسكونِ الياءِ، وفيه تخريجان أحدُهما: أنَّ "أهالي" جمعُ تكسيرٍ لـ "أَهْلَة" فهو شاذٌّ في القياس ك "لَيْلة ولَيال". قال ابنُ جِنِّي: "أَهال" بمنزلةِ "ليَال" واحدُها أَهْلاة ولَيْلاة، والعربُ تقول: أهلٌ وأَهْلَة، قال الشاعر:
وأَهْلَةُ وُدٍّ قد سُرِرْتُ بوُدِّهم ...........................................
وقياسُ قولِ أبي زيد أنْ تَجعَلَه جَمْعًا لواحدٍ مقدَّرٍ نحو: أَحاديث وأعاريض، وإليه يُشيرُ قولُ ابْنِ جِنِّي: "أهل" بمنزلةِ "ليالٍ" واحدُها "أَهْلاة ولَيْلاة"، فهذا يَحتَمِلُ أنْ يَكونَ بطريقِ ِالسَّماعِ، ويُحتَمَلُ أنْ يكونَ بطريقِ القياس كما يقولُ أَبو زيد.
والثاني: أنَّ هذا اسمُ جمعٍ لأَهْل. قال الزمخشري: كاليالي في جمعِ ليلةٍ والأراضي في جمعِ أَرضٍ. قوله: "في جمعِ ليلةٍ وجمعِ أرضٍ" أرادَ بالجمعِ اللغويَّ لأنَّ اسمَ الجمع جمعٌ في المعنى، ولا يُريدُ أنَّه جمعُ "ليلة" و"أرض" صناعةً، لأنَّه قد فَرَضَه أنَّه اسمُ جمعٍ فكيف يَجلعُه جمعًا اصطلاحًا؟
وكان قياسُ قراءةِ جعفر تحريكَ الياءِ بالفتحةِ لِخِفَّتِها، ولكنَّه شَبَّه الياءَ بالألِفِ، فقدَّرَ الحَرَكةَ فيها، وهو كثيرٌ في النَّظمِ كقولِ النابغة:
رَدَّتْ عليه أقاصِيه ولَبَّده .............. ضَرْبُ الوليدةِ بالمِسْحاةِ في الثَّأَدِ
وقول الآخر:
كأنَّ أيدِيهنَّ بالقاعِ القَرِقْ .................... أيدي جوارٍ يتعاطَيْنَ الوَرِقْ
وقد مضى ذلك بأشبعَ من هذا.
قولُهُ: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} نَسَقٌ على "إطعام" أي: