روضة الشاعر عبد القادر الأسود
بعد الصلاة على الرحمة المهداة

أهلا وسهلا بك في روضتنا

يسرنا تسجيلك

روضة الشاعر عبد القادر الأسود
بعد الصلاة على الرحمة المهداة

أهلا وسهلا بك في روضتنا

يسرنا تسجيلك

روضة الشاعر عبد القادر الأسود
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

روضة الشاعر عبد القادر الأسود

منتدى أدبي اجتماعي يعنى بشؤون الشعر والأدب والموضوعات الاجتماعي والقضايا اللإنسانية
 
مركز تحميل الروضةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
بسـم الله الرحمن الرحيم  :: الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم ولا الضــالين ....  آميـــن

 

 فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 1

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبد القادر الأسود

¤° صاحب الإمتياز °¤
¤° صاحب الإمتياز °¤
عبد القادر الأسود


عدد المساهمات : 3986
تاريخ التسجيل : 08/09/2011
العمر : 76
المزاج المزاج : رايق
الجنس : ذكر
فيض العليم ... سورة المائدة، الآية:  1 Jb12915568671



فيض العليم ... سورة المائدة، الآية:  1 Empty
مُساهمةموضوع: فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 1   فيض العليم ... سورة المائدة، الآية:  1 I_icon_minitimeالأربعاء أغسطس 07, 2013 8:59 am

تفسير سورة المائدة
 
هي مئةٌ وثلاثٌ وعِشرونَ آيةً، وهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ، وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ مُنْصَرَفَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَرُوِيَ عَنْهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ: ((سُورَةُ الْمَائِدَةِ تُدْعَى فِي مَلَكُوتِ اللَّهِ الْمُنْقِذَةَ تُنْقِذُ صَاحِبَهَا مِنْ أَيْدِي مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ)).
روى الإمامُ أحمد عن أسماءَ بِنْتِ يَزيدٍ قالتْ: إني لآخذةٌ بزِمَام العَضْباءِ ناقةِ رسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ، إذْ نَزَلتْ عليه المائدةُ كلُّها، وكادتْ مِنْ ثِقَلِها تَدُقُّ عَضُدَ الناقةَ.
وروى أيضًا عن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو قال: أُنزِلتْ على رسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ سورةُ المائدةِ وهو راكِبٌ على راحلتِه، فلمْ تَسْتَطِعْ أنْ تَحْمِلَهُ، فَنَزَلَ عنها.
وروى التِرمِذِيُّ عنْ عبد اللهِ بْنِ عَمْرٍو قال: آخرُ سورةٍ أُنزِلتْ: سورةُ المائدةِ والفتحِ، ثمَّ قالَ التِرمذِيُّ: هذا حديثٌ غريبٌ حَسَنٌ.
ورَوى الحاكمُ في مُسْتَدْرَكِه، بإسنادِهِ نحوَ روايةِ التِرْمِذِيِّ، ثمَّ قال: صحيحٌ على شرْطِ الشيْخيْن ولمْ يُخْرِجاه.
وَمِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مَا نَزَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَمِنْهَا مَا أُنْزِلَ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} المائدة: 2. وَكُلُّ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَهُوَ مَدَنِيٌّ، سَوَاءٌ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ أَوْ فِي سَفَرٍ مِنَ الْأَسْفَارِ. وَإِنَّمَا يُرْسَمُ بِالْمَكِّيِّ مَا نَزَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: "الْمَائِدَةُ" مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ لَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ، وَفِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ فَرِيضَةً لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا، وَهِيَ: {الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ} المائدة: 3، و{وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ}، و{وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ} المائدة: 4، و{وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} المائدة: 5. و{وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} المائدة: 5، وتمامُ الطُهورِ {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} المائدة: 6، و{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} المائدة: 38، و{لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} المائدة: 95. إلى قولِه: {عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ} المائدة: 95. و{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ} المائدة: 103. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} المائدة: 106. وَفَرِيضَةٌ تَاسِعَةَ عَشْرَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وجلَّ: {وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} المائدة: 58. لَيْسَ لِلْأَذَانِ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَمَّا مَا جَاءَ فِي سُورَةِ "الْجُمُعَةِ" فَمَخْصُوصٌ بِالْجُمُعَةِ، وَهُوَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَامٌّ لِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ "الْمَائِدَةِ" فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا)). وَنَحْوَهُ عَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ مَوْقُوفًا، قَالَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ـ فَقَالَتْ: هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ "الْمَائِدَةِ"؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ:
فَإِنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ
فِيهَا مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ.
وإنَّما خَصَّ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ هذه السُورَةَ مِنْ بيْنِ سُوَرِ القُرآنِ بقولِه: ((فأحِلُّوا حلالَها وحرِّموا حَرامَها)) وكُلُّ سُوَرِ القُرآنِ يَجِبُ أنْ يُحَلُّ حَلالُها ويُحَرَّمَ حَرامُها، لزيادةِ الاعْتِناءِ بِها فهو كقولِه تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} التوبة: 36. فأكَّدَ اجْتِنابَ الظُلمِ في هذه الأربعةِ أَشهُرٍ وإنْ كانَ لا يَجوزُ الظُلمُ في شيءٍ مِنْ جميعِ أَشهُرِ السَنَةِ، وإنَّما أَفردَ هذه الأربعةَ الأشْهُرَ بالذِّكرِ لِزيادةِ الاعْتِناءِ بها، وقيلَ إنَّما خَصَّ النَبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ هذه السورةَ لأنَّ فيها ثمانيةَ عَشَرَ حُكْمًا لَمْ تَنْزِلْ في غيرِها مِنْ سُوَرِ القُرآنِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمْ يُنْسَخْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا قَوْلُهُ: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ} المائدة: 2. الْآيَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُسِخَ مِنْهَا {أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} المائدة: 106.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
قَوْلُهُ تَعَالَى شأنُه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ عبادَهُ المُؤْمِنِينَ بِالوَفَاءِ بِمَا عَقَدُوهُ، وَارْتَبَطُوا بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى، مَا لَمْ يَكُنْ يُحَرِّمُ حَلاَلًا، أَوْ يُحَلِّلُ حَرَامًا: كَالعَقْدِ عَلَى الرِّبا، أَوْ أَكَلِ مَالِ النَّاسِ بِالبَاطِل فيقول: يَا أيُّها الذِينَ آمَنُوا التَزِمُوا الوَفَاءَ بِجَميعِ العُهُودِ التِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللهِ، وَالعُهُودِ المَشْرُوعَةِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ.
قَالَ عَلْقَمَةُ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" فَهُوَ مدنيٌّ و"يا أَيُّهَا النَّاسُ" النساء: 1. فَهُوَ مَكِّيٌّ، وَهَذَا خُرِّجَ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
أتى رجلٌ عبدَ اللهِ بْنَ مَسعودٍ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ فقال: اعْهَدْ إليَّ. فقال: إذا سمعتَ اللهَ يقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" فارْعِها سَمْعَك، فإنَّه خَيْرٌ يَأمُرُ بِه، أو شَرٌّ يَنهى عنه. وعن خَيْثَمَةَ أنَّه قال: كلُّ شيءٍ في القرآنِ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" فهو في التوراة: "يا أيُّها المساكين".
وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا تَلُوحُ فَصَاحَتُهَا وَكَثْرَةُ مَعَانِيهَا عَلَى قِلَّةِ أَلْفَاظِهَا لِكُلِّ ذِي بَصِيرَةٍ بِالْكَلَامِ، فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ خَمْسَةَ أَحْكَامٍ: الْأَوَّلُ: الْأَمْرُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، الثَّانِي: تَحْلِيلُ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، الثَّالِثُ: اسْتِثْنَاءُ مَا يَلِي بَعْدَ ذَلِكَ، الرَّابِعُ: اسْتِثْنَاءُ حَالِ الْإِحْرَامِ فِيمَا يُصَادُ، الْخَامِسُ: مَا تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ مِنْ إِبَاحَةِ الصَّيْدِ لِمَنْ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ أَصْحَابَ الْكِنْدِيِّ قَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْحَكِيمُ اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ فَقَالَ: نَعَمْ! أَعْمَلُ مِثْلَ بَعْضِهِ، فَاحْتَجَبَ أَيَّامًا كَثِيرَةً ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: وَاللهِ مَا أَقْدِرُ وَلَا يُطِيقُ هَذَا أَحَدٌ، إِنِّي فَتَحْتُ الْمُصْحَفَ فَخَرَجَتْ سُورَةُ "الْمَائِدَةِ" فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ قَدْ نَطَقَ بِالْوَفَاءِ وَنَهْيٌ عَنِ النَّكْثِ، وَحَلَّلَ تَحْلِيلًا عَامًا، ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي سَطْرَيْنِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِهَذَا إِلَّا فِي أَجْلَادٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْفُوا} من الوفاء، ومعناه: الإِتيان بالشيءِ وافيًا تامًّا لا نقصَ فيه، ولا نقضَ معه. يُقَالُ: وَفَى وَأَوْفَى لُغَتَانِ، لكنْ في المَزيدِ مُبالَغَةٌ ليستْ في المُجَرَّدِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ} التوبة: 111، وقال تعالى: {وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى}  النجم: 37. وقال الشاعر طُفَيْلٌ الغَنَوِيُّ:
أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ ........... كَمَا وَفَى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا
فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ. وقِلاصُ النَّجْمِ: هي العِشرون نَجْمًا التي ساقَها الدبران في خِطْبةِ الثُريّا  ـ كما تَزعمُ العربُ. فأرادَ القمرُ أنْ يُزوِّجَه فأبَتْ عليْه وولَّتْ عنْه، وقالتْ: ما أَصنعُ بهذا الذي لا مالَ لَه؟ فجَمَعَ الدَبَرانُ قِلاصَهُ يَتَمَوَّلُ بِها، وهو يَتْبَعُها حيثُ توجَّهَتْ يَسوقُ صَداقَها (القلاص) قُدَّامَه، والدَبَرانُ، كوكبٌ وقَّاد ٌعلى أَثَرِ نُجومٍ تُسمَّى القِلاصَ، وقيل له "دَبَران" لأنَّه دَبَر َالثُريَّا، أي: جاءَ خَلفَها، ويُقالُ لَه أيْضًا "الراعي" و"التالي" و"التابع" و"الحادي" على التشبيه.
و"بِالْعُقُودِ" الْعُقُودُ الرُّبُوطُ، وَاحِدُهَا عَقْدٌ، يُقَالُ: عَقَدْتُ الْعَهْدَ وَالْحَبْلَ، وَعَقَدْتُ الْعَسَلَ فَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي وَالْأَجْسَامِ، قَالَ
الْحُطَيْئَةُ:
قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ ............ شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا
العِناجُ: خيطٌ أو سَيْرٌ يُشَدُّ في أَسفلِ الدَلْوِ ثمَّ يُشَدُّ في عُروتِها: والكَربُ الحَبْلُ الذي يُشَدُّ على الدَلْوِ بعد المَنين، وهو الحبلُ الأوَّلُ: فإذا انْقَطَعَ المَنينُ بقيَ الكَرْبُ. وقيلَ: غيرُ هذا. وهذه أمثالٌ ضَرَبَها الحُطيئةُ لإيفائهم بالعهد.
فَأَمَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي بِذَلِكَ عُقُودَ الدَّيْنِ وَهِيَ مَا عَقَدَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ، مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَإِجَارَةٍ وَكِرَاءٍ وَمُنَاكَحَةٍ وَطَلَاقٍ وَمُزَارَعَةٍ وَمُصَالَحَةٍ وَتَمْلِيكٍ وَتَخْيِيرٍ وَعِتْقٍ وَتَدْبِيرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ، مَا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ خَارِجٍ عَنِ الشَّرِيعَةِ، وَكَذَلِكَ مَا عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ للهِ مِنَ الطَّاعَاتِ، كَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْقِيَامِ وَالنَّذْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ طَاعَاتِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا نَذْرُ المُباحِ (كأنْ يَنْذُرَ أنْ يأكُلَ أو يَشْرَبَ أوْ غير ذلك مِنَ المُباحاتِ) فلا يَلزَمُ بإجْماعٍ مِنَ الأُمَّةِ. ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} آل عمران: 187. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ خَاصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ. وَقِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ لَفْظَ الْمُؤْمِنِينَ يَعُمُّ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ عَقْدًا فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيمَا فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: "أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" وَفي غَيْرِ مَوْضِعٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" مَعْنَاهُ بِمَا أَحَلَّ وَبِمَا حَرَّمَ وَبِمَا فَرَضَ وَبِمَا حَدَّ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَمَا فَرَضَ وَمَا حَدَّ فِي القُرْآنِ كُلِّهِ فَلاَ عُذْرَ وَلاَ نَكْثَ. وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ ابنُ شهابٍ: قَرَأْتُ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى نَجْرَانَ وَفِي صَدْرِهِ: ((هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)). "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" فَكَتَبَ الْآيَاتِ فِيهَا إِلَى قوله: "إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ" المائدة: 4. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَوْفُوا بِعَقْدِ اللهِ عَلَيْكُمْ وَبِعَقْدِكُمْ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْبَابِ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ))، وَقَالَ: ((كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِئَةَ شَرْطٍ)). فَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْطَ أَوِ الْعَقْدَ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ أَيْ دِينَ اللهِ، فَإِنْ ظَهَرَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ رُدَّ، كَمَا قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)). ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: اجْتَمَعَتْ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ ـ لِشَرَفِهِ وَنَسَبِهِ ـ فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَلَّا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا مِنْ أَهْلِهَا أَوْ غَيْرِهِمْ إِلَّا قَامُوا مَعَهُ حَتَّى تُرَدَّ عَلَيْهِ مَظْلَمَتُهُ، فَسَمَّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوِ ادُّعِيَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ)). وَهَذَا الْحِلْفُ هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً)). لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ إِذْ أَمَرَ بِالِانْتِصَافِ مِنَ الظَّالِمِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ عُهُودِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَعُقُودِهِمُ الْبَاطِلَةِ عَلَى الظُّلْمِ وَالْغَارَاتِ فَقَدْ هَدَمَهُ الْإِسْلَامُ وَالْحَمْدُ للهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: تَحَامَلَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ عَلَى الحسيْنِ ابنِ عَلِيٍّ فِي مَالٍ لَهُ ـ لِسُلْطَانِ الْوَلِيدِ، فَإِنَّهُ كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أَحْلِفُ بِاللهِ لَتُنْصِفَنِّي مِنْ حَقِّي أَوْ لَآخُذَنَّ بِسَيْفِي ثُمَّ لَأَقُومَنَّ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ لَأَدْعُوَنَّ بِحِلْفِ الْفُضُولِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: وَأَنَا أَحْلِفُ بِاللهِ لَئِنْ دَعَانِي لَآخُذَنَّ بِسَيْفِي ثُمَّ لَأَقُومَنَّ مَعَهُ حَتَّى يَنْتَصِفَ مِنْ حَقِّهِ أَوْ نَمُوتَ جَمِيعًا، وَبَلَغَتِ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَبَلَغَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ التَّيْمِيَّ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْوَلِيدَ أَنْصَفَهُ. والعقدُ فيه معنى الاسْتيثاقِ والشَدِّ ولا يكون إلَّا بيْنَ اثنيْن، أمَا العَهْدُ فقد يَتَفرَّدُ بِه واحدٌ، فيقطعَه على نفسِهِ. والعُقودُ باعتبارِ المَعْقودِ، والعاقدِ ثلاثةُ أَضْرُبٍ:  عقدٌ بيْنَ اللهِ تعالى وبيْنَ العبدِ، وعقدٌ بيْنَ العبدِ ونفسِه، وعقدٌ بينَه وبيْن غيرِه مِنَ البَشَرِ، وكلُّ واحدٍ باعتبارِ المُوجِبِ لَه ضَرْبانِ: ضربٌ أوْجَبَهُ العقلُ وهو ما رَكَّزَ اللهُ تعالى معرفتَه في الإنسانِ فيُتَوَصَّلُ إليْه إمَّا بِبَديهَةِ العقلِ، وإمَّا بأدْنى نَظَرٍ، دَلَّ عليْه قولُه تَعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين} الأعراف: 172، وضربٌ أوجبَه الشَرْعُ وهو ما دَلَّنا عليه كتابُ اللهِ تعالى وسُنَّةُ نَبِيِّه ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّم ـ فذلك ستةُ أَضْرُبٍ، وكلُّ واحدٍ مِنْ ذلكَ إمَّا أنْ يُلزِمَ ابتداءً أو يُلزِمَ بالتِزامِ الإنسانِ إيَّاه، والثاني أربعةُ أَضْرُبٍ: فالأوَّلُ: واجبُ الوَفاءِ كالنَذُورِ المُتَعَلِّقةِ بالقُرْبِ نحوَ أنْ يَقولَ: عليَّ أنْ أَصومَ للهِ تعالى يومًا (أو أكثرَ) إنْ عافاني اللهُ، والثاني: الوفاءُ به مُسْتَحَبٌّ، ويَجوزُ تركُه، كَمَنْ حَلَفَ على تَرْكِ فعلٍ مُباحٍ فإنَّ لَه أنْ يُكَفِّرَ عن يَمينِه أو أنْ يَفعلَ ذلك، والثالث: يُسْتَحَبُّ تَرْكُ الوَفاءِ بِه، وهو ما قال ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ فيه: ((إذا حَلَفَ أَحَدُكم على شيءٍ فرأى غيرَه خيْرًا منه فلْيَأْتِ الذي هو خَيْرٌ منْه ولْيُكَفِّرْ عن يَمينِه))، والرابعُ: واجبُ تَرْكِ الوَفاءِ بِه نحوَ أنْ يَقولَ: عليَّ أنْ أَقتُلَ فلانًا المُسْلِمَ، فيَحصُل مِنْ ضَرْبِ ستةٍ في أَرْبعةٍ أربعةٌ وعشرون ضرْبًا، وظاهرُ الآيةِ يَقتَضي كلَّ عقدٍ سِوى ما كان تَرْكُه قُرْبَةً أو واجبًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ} شُروعٌ في تفصيلِ الأحكامِ التي أَمَرَ بإيفائها، وبَدَأَ ـ سبحانَه ـ بذلك لأنَّه مما يَتَعلَّقُ بضرورياتِ المعاشِ والْخِطَابُ لِكُلِّ مَنِ الْتَزَمَ الْإِيمَانَ عَلَى وَجْهِهِ وَكَمَالِهِ، وَكَانَتْ لِلْعَرَبِ سُنَنٌ فِي الْأَنْعَامِ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ والوَصيلةِ والحام، يأتي بَيَانُهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رَافِعَةً لِتِلْكَ الْأَوْهَامِ الْخَيَالِيَّةِ، وَالْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ الْبَاطِلِيَّةِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى "بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ" وَالْبَهِيمَةُ اسْمٌ لِكُلِّ ذِي أَرْبَعٍ، من دوابِّ البَرِّ والبحرِ، والبهيمةُ مِنْ ذواتِ الأرواحِ ما لا عَقلَ لَهُ مُطلَقًا، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِبْهَامِهَا مِنْ جِهَةِ نَقْصِ نُطْقِهَا وَفَهْمِهَا وَعَدَمِ تَمْيِيزِهَا وَعَقْلِهَا، وَمِنْهُ بَابٌ مُبْهَمٌ أَيْ مُغْلَقٌ، وَلَيْلٌ بَهِيمٌ، وَبُهْمَةٌ لِلشُّجَاعِ الَّذِي لا يَدْري مِنْ أيْن يُؤتى لَه. ونَقلَ الإمامُ الشَعرانيُّ عن شيخِه عليّ الخَوَّاصِ قُدِّسَ سِرُّهُما أنَّ سببَ تَسمِيَةِ البَهائمِ بهائمَ ليس إلَّا لِكونِ أَمْرِ كَلامِها وأَحوالِها أُبْهِمَ على غالِبِ الخَلْقِ لا أنَّ الأمرَ أُبْهِمَ عليْها، وذَكَرَ ما يَدُلُّ على عَقْلِها وعِلْمِها. و"الْأَنْعامِ": الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِلِينِ مَشْيِهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ} النحل: 5. إلى قوله: {وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ} النحل: 7، وقال تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} الأنعام: 142. يَعْنِي كِبَارًا وَصِغَارًا، ثُمَّ بَيَّنَهَا فَقَالَ: {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} الأنعام: 143. إلى قوله: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ} البقرة: 133. وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها} 80. يَعْنِي الْغَنَمَ {وَأَوْبارِها} 80. يَعْنِي الْإِبِلَ {وَأَشْعارِها} 80. يَعْنِي الْمَعْزَ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ تُنْبِئُ عَنْ تَضَمُّنِ اسْمِ الْأَنْعَامِ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ، الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَإِذَا قِيلَ النَّعَمُ فَهُوَ الْإِبِلُ خَاصَّةً. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: وَقَالَ قَوْمٌ "بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ" وَحْشِيُّهَا كَالظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَالْحُمُرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَذَكَرَهُ غَيْرُ الطَّبَرِيِّ عَنْ السُّدِّيِّ وَالرَّبِيعِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ، فَأُضِيفَ الْجِنْسُ إِلَى أَخَصِّ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْعَامَ هِيَ الثَّمَانِيَةُ الْأَزْوَاجُ، وَمَا انْضَافَ إِلَيْهَا مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ يُقَالُ لَهُ أَنْعَامٌ بِمَجْمُوعِهِ مَعَهَا، وَكَأَنَّ الْمُفْتَرِسَ كَالْأَسَدِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ خَارِجٌ عَنْ حَدِّ الْأَنْعَامِ، فَبَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هِيَ الرَّاعِي مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ. فَيدخُلُ فيها عَلَى هَذَا ذَوَاتُ الْحَوَافِرِ لِأَنَّهَا رَاعِيَةٌ غَيْرُ مُفْتَرِسَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ} النحل: 5. ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ} النحل: 8. فَلَمَّا اسْتَأْنَفَ ذِكْرَهَا وَعَطَفَهَا عَلَى الْأَنْعَامِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا، وذِكْرُ البهيمةِ وإفرادُها لإرادةِ الجِنْسِ، وجَمْعُ الأنعامِ لِيَشْمَلَ أنواعَها، وفائدةُ هذه الإضافةِ هُنا الإشعارُ بِعِلَّةِ الحُكمِ المُشْتَرَكةِ بيْنَ المُتَضايِفَيْنِ، كأنَّه قيلَ: أُحِلَّتْ لَكم البَهيمةُ المُشبَّهةُ بالأَنْعامِ التي أُحِلتْ لكم فيما سَبَقَ، والمُماثلةُ لها في مَناطِ الحُكمِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وفي الآيةِ رَدٌّ على المَجوسِ، فإنَّهم حرَّموا ذَبْحَ الحَيَوانات وأَكلَها قالوا: لأنَّ ذَبْحَها إيلامٌ والإيلامُ قبيحٌ خصوصًا إيلامُ مَنْ بَلغَ في العَجزِ إلى حيثُ لا يَقدِرُ أنْ يَدْفَعَ عنْ نفسِه، والقَبيحُ لا يَرضى بِه الإلَهُ الرَّحيمُ الحكيمُ. وزَعَموا أنَّ إيلامَ الحَيَواناتِ إنَّما يَصْدُرُ مِنَ الظُلْمَةِ دونَ النُّورِ. والتَناسُخيَّةُ لَمْ يُجَوِّزوا صُدورَ الآلامِ منْه تعالى ابْتِداءً بوجهٍ مِنَ الوُجوهِ إلَّا بطريقِ المُجازاةِ على ما سَبَقَ مِنْ اقترافِ الجَرائمِ، والتَزَموا أنَّ البَهائمَ مُكلَّفةٌ عالِمَةٌ بما يَجري عليْها مِنَ الآلامِ، وأنَّها مُجازاةٌ على فِعلِها، ولولا ذلك لَمَا تُصُوِّرَ انْزِجارُها بالآلامِ عنِ العَوْدِ إلى الجَريمةِ بتقديرِ انتِقالِها إلى بَدَنٍ أَشْرَف. وزَعَمَ البَعضُ منهم أنَّه ما مِنْ جِنْسٍ مِنَ البَهائمِ إلَّا وفيهم نَبِيٌّ مَبعوثٌ إليهم مِنْ جِنسِهم، بلْ زَعَمَ آخرون أنَّ جميعَ الجَماداتِ أَحياءٌ مُكلَّفةٌ وأنَّها مُجازاةٌ على ما تَقترِفُه مِنْ الخَيرِ والشَرِّ، وأجابَ أهلُ السُنَّةِ، بأنَّ الإذنَ في ذَبْحِ الحَيَواناتِ تَصَرُّفٌ مِنَ اللهِ ـ تعالى ـ في خالِصِ مُلْكِهِ فلا اعْتِراضَ عليْه، والتَحسينُ والتَقبيحُ العَقليَّانِ قدْ طُوِيَ بِساطُ الكَلامِ فيهِما في عِلْمِ الكَلامِ، وكذا القولُ بالنورِ والظُلْمَةِ، وقال بعضُ المُحقِّقين: لمّا كان الإنسانُ أَشرَفَ أنواعِ الحَيَواناتِ وبِهِ تَمَّتْ نُسْخَةُ العالَمِ لم يَقْبُحْ عقلًا جَعلُ كلُّ شيءٍ مما دونَه غِداءً له مأذونًا له بذبحِه وإيلامِه اعتِناءً بمَصلَحتِه، حَسْبَما تَقْتَضيه الحِكمةُ التي لا يُحلِّقُ إلى سِرِّها طائرُ الأفكارِ.
وَقِيلَ: "بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ" مَا لَمْ يَكُنْ صَيْدًا، لِأَنَّ الصَّيْدَ يُسَمَّى وَحْشًا لَا بَهِيمَةً، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: "بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ" الْأَجِنَّةُ الَّتِي تَخْرُجُ عِنْدَ الذَّبْحِ مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ، فَهِيَ تُؤْكَلُ دُونَ ذَكَاةٍ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وفيه بُعْدٌ، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: "إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ" وَلَيْسَ فِي الْأَجِنَّةِ مَا يُسْتَثْنَى، قَالَ مَالِكٌ: ذَكَاةُ الذَّبِيحَةِ ذَكَاةٌ لِجَنِينِهَا إِذَا لَمْ يُدْرَكْ حَيًّا وَكَانَ قَدْ نَبَتَ شَعْرُهُ وَتَمَّ خَلْقُهُ، فَإِنْ لَمْ يَتِمَّ خَلْقُهُ وَلَمْ يَنْبُتْ شَعْرُهُ لَمْ يُؤْكَلْ إِلَّا أَنْ يُدْرَكَ حَيًّا فَيُذَكَّى، وَإِنْ بَادَرُوا إِلَى تَذْكِيَتِهِ فَمَاتَ بِنَفْسِهِ، فَقِيلَ: هُوَ ذَكِيٌّ. وَقِيلَ: لَيْسَ بِذَكِيٍّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ} أَيْ يُقْرَأُ عَلَيْكُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قولِه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} المائدة: 3. وَقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((وَكُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ)). فَإِنْ قِيلَ: الَّذِي يُتْلَى عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَيْسَ السُّنَّةَ، قُلْنَا: كُلُّ سُنَّةٍ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَهِيَ مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: حَدِيثُّ الْعَسِيفِ، فيما رواه البخاريُّ وغيرُه ((لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ)). وَالرَّجْمُ لَيْسَ مَنْصُوصًا فِي كِتَابِ اللهِ. الثَّانِي: حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللهِ، الْحَدِيثَ. وَيَحْتَمِلُ "إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ" الْآنَ أَوْ "مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ" فِيمَا بَعْدُ مِنْ مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتٍ لَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إِلَى تَعْجِيلِ الْحَاجَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} أَيْ مَا كَانَ صَيْدًا فَهُوَ حَلَالٌ فِي الْإِحْلَالِ دُونَ الْإِحْرَامِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ صَيْدًا فَهُوَ حَلَالٌ فِي الْحَالَيْنِ. فَإِذًا مَعْنَاهُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ سِوَى الصَّيْدِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَيْضًا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ. ثُمَّ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الْإِحْلَالُ إِلَى النَّاسِ، أَيْ لَا تُحِلُّوا الصَّيْدَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَيْ أَحْلَلْتُ لَكُمُ الْبَهِيمَةَ إِلَّا مَا كَانَ صَيْدًا فِي وَقْتِ الْإِحْرَامِ، كَمَا تَقُولُ: أَحْلَلْتُ لَكَ كَذَا غَيْرَ مُبِيحٍ لَكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. فَإِذَا قُلْتَ يَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ فَالْمَعْنَى: غَيْرَ مُحِلِّينَ الصَّيْدِ، فَحُذِفَتِ النُّونُ تَخْفِيفًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يَعْنِي الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، يُقَالُ: رَجُلٌ حَرَامٌ وَقَوْمٌ حُرُمٌ إِذَا أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ المضرب بن كعب بن زهير بن أبي سلمى:
فَقُلْتُ لَهَا فِيئِي إِلَيْكِ فَإِنَّنِي ................... حَرَامٌ وَإِنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ
أَيْ مُلَبٍّ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ إِحْرَامًا لِمَا يُحَرِّمُهُ مَنْ دَخَلَ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ النِّسَاءِ وَالطِّيبِ وَغَيْرِهِمَا. وَيُقَالُ: أَحْرَمَ دَخَلَ فِي الْحَرَمِ، فَيَحْرُمُ صَيْدُ الْحَرَمِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} مِنَ الأَحكامِ حَسْبَما تَقتَضيه مَشيئتُه المَبْنِيَّةُ على الحِكَمِ البالِغَةِ التي تَقِفُ دونَها الأفكارُ، فيَدخُلُ فيها ما ذَكَرَهُ مِنْ التَحليلِ والتَحريمِ دُخولًا أوَّلِيًّا، وضَمَّنَ يَحْكُمُ مَعنى يَفْعَلُ، فعدَّاهُ بِنَفْسِهِ وإلَّا فهو مُتَعَدٍّ بالباءِ، تَقْوِيَةً لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِمَعْهُودِ أَحْكَامِ الْعَرَبِ، أَيْ فَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ السَّامِعُ لِنَسْخِ تِلْكَ الَّتِي عَهِدْتَ مِنْ أَحْكَامِهِمْ تَنَبَّهْ، فَإِنَّ الَّذِي هُوَ مَالِكُ الْكُلِّ "يَحْكُمُ ما يُرِيدُ" و{لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} الرعد: 41. يَشْرَعُ ما يَشاءُ كَما يَشاء.
قولُه تعالى: {إِلاَّ مَا يتلى} هذا مُسْتثنى مِنْ بَهيمةِ الأنعامِ، والمَعنى: ما يُتْلى عليكم تَحريمُه، وذلك قولُه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتةُ} المائدة: 3. إلى قولِه: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} المائدة: 3. وفيه قولان، أحدُهما: أنَّه مستثنى مُتَّصِلٌ، والثاني: أنَّه مُنْقَطِعٌ حَسْبَ ما فُسِّرَ بِه المَتْلُوُّ عليْهم كما سيأتي بيانُه، وعلى تقديرِ كونِه اسْتِثْناءً مُتَّصِلًا يَجوزُ في مَحَلِّهِ وجهان، أَظهَرُهما: أنَّهُ مَنصوبٌ لأنَّه اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ مُوجبٍ، ويَجوزُ أنْ يُرْفَعَ على أنَّهُ نَعْتٌ لـ "بهيمة" على ما قُرَّرَ في عِلْمِ النَّحْوِ. ونَقَل ابْنُ عَطيَّة عن الكُوفِيّين وجهيْن آخَرَيْن، أحدُهُما: أنَّه يَجوزُ رَفعُه على البَدَلِ مِنْ "بهيمة" والثاني: أنَّ "إلا" حرفُ عطفٍ وما بعدَها عَطْفٌ على ما قبلَها، ثمَّ قال: "وذلك لا يَجوزُ عندَ البَصْرِيّين إلَّا مِنْ نَكِرَةٍ أو ما قارَبَها مِنْ أسماءِ الأجناسِ نحو: "جاءَ الرجالُ إلَّا زيدٌ" كأنَّك قلتَ: غيرُ زيدٍ "وقولُه: "وذلك" ظاهرُهُ أنَّه مُشارٌ بِه إلى وَجْهَيِ الرَّفْعِ: البدلِ والعَطفِ. وقولُه: "إلَّا مِنْ نَكِرَةٍ" غيرُ ظاهرٍ، لأنَّ البَدَلَ لا يَجوزُ البَتَّةَ مِنْ مُوجبٍ عندَ أحدٍ مِنَ الكُوفيّين والبَصْرِيين. ولا يُشْتَرَطُ في البَدَلِ التَوافُقُ تعريفًا وتنكيرًا. وأمَّا العطفُ فذَكَرَهُ بعضُ الكُوفِيّين، وأمَّا الذي اشْتَرَطَه البَصْريّون، التَنكيرَ أوْ ما قارَبَه فإنَّما اشتَرطوه في النَّعْتِ بـ "إلا" فيُحْتَمَلُ أنَّه اخْتَلَطَ عليه شَرْطُ النَّعْتِ فجَعَلَه شَرْطًا في البَدَلِ، هذا كلُّه إذا أُريدَ بالمَتْلُوِّ عليهم تحريمُهُ قولُه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتةُ} المائدة: 3. إلى آخره، وإنْ أُريدَ بِه الأَنعامُ والظِباءُ وبَقَرُ الوَحْشِ وحُمُرُهُ فيَكونُ مُنْقَطِعًا بمَعنى "لكن" عندَ البَصْريّين، وبِمَعنى "بل" عندَ الكُوفيّين.
قولُه: "غيرَ" في نَصبِهِ خمسةُ أوْجُهٍ، أَحَدُها: أنَّه حالٌ مِنَ الضَميرِ المَجرورِ في "لكم" وهذا قولُ الجُمهورِ، وإليْه ذَهَبَ ابنُ عطيَّة وغيرُه، وقدْ ضُعِّفَ هذا الوَجْهُ بأنَّه يَلزَمُ منه تَقييدُ إحْلالِ بَهيمةِ الأنْعامِ لَهم بحالِ كونِهم غيرَ مُحِلِّي الصَيْدِ وهُمْ حُرُمٌ، إذْ يَصيرُ معناه: "أُحِلَّتْ لَكمْ بهيمةُ الأنعامِ في حالِ كونِ انتِفاءِ كونِكم تُحِلُّون الصَيْدَ وأَنتمْ حُرُمٌ"، والغَرَضُ أنَّهم قدْ أُحِلَّتْ لهم بهيمةُ الأنعامِ في هذه الحالِ وفي غيرِها، هذا إذا أُريدَ ببَهيمةِ الأنعامِ الأنعامُ نفسُها، وأمَّا إذا عُنِيَ بها الظباءُ وحُمُرُ الوَحْشِ وبَقَرُهُ على ما فَسَّرهُ بعضُهم فيَظهَرُ للتَقييدِ بهذه الحالِ فائدةٌ، إذْ يَصيرُ المَعنى: أُحِلَّتْ لكم هذه الأشياءُ حالَ انتِفاءِ كونِكم تُحِلُّون الصَّيدَ وأنتمْ حُرُمٌ فهذا معنًى صحيحٌ، ولكنَّ هذا التركيبَ فيه قلقٌ، ولو أُريدَ هذا المَعنى مِنَ الآيةِ الكريمةِ لجاءتْ به على أحسنِ تركيبٍ وأفْصَحِه.
الوجه الثاني: ـ وهو قولُ الأخفشِ وجماعةٍ ـ أنَّه حالٌ من فاعلِ "أَوْفُوا" والتقديرُ: أَوْفوا بالعُقودِ في حالِ انتِفاءِ كونِكمْ مُحِلِّينَ الصيدَ وأنتم حُرُمٌ. وقد ضَعَّفوا هذا المَذْهَبَ مِنْ وجْهيْنِ، الأوَّلُ: أنَّه يَلزَمُ منْه الفَصْلُ بيْنَ الحالِ وصاحبِها بجُملةٍ أَجْنَبيَّةٍ، ولا يَجوزُ الفَصْلُ إلَّا بِجُمَلِ الاعْتِراضِ، وهذه الجُملةُ وهي قولُه: "أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام" ليستْ اعْتِراضيَّةً، بلْ هيَ مُنْشِئةٌ أَحْكامًا ومُبَيِّنَةٌ لَها، وجُملةُ الاعْتِراضِ إنَّما تُفيدُ تأكيدًا وتَسديدًا. والثاني: أنَّه يَلزمُ مِنْهُ تَقييدُ الأمرِ بإيفاءِ العُقودِ بِهذِه الحالةِ فيَصيرُ التَقديرُ كما تقدَّم، وإذا اعْتَبرْنا مَفهومَه يَصيرُ المَعنى: فإذا انتفتْ هذهِ الحالُ فلا تُوفوا بالعُقودِ، والأمرُ ليس كذلك، فإنَّهم مَأمورون بالإِيفاءِ بالعُقودِ على كلِّ حالٍ مِنْ إحرامٍ وغيرِه.
الوجهُ الثالثُ: أنَّه مَنصوبٌ على الحالِ مِنَ الضَميرِ المَجرورِ في "عليكم" أيْ: إلاَّ ما يُتْلى عليكم حالَ انتفاءِ كونِكم مُحِلِّين الصَيدَ. وهو ضعيفٌ أيضًا بما تقدَّمَ مِنْ أنَّ المَتْلُوَّ عليهم لا يُقَيَّدُ بهذِه الحالِ دونَ غيرِها بلْ هو مَتْلُوٌّ عليهم في هذِه الحالِ وفي غيرِها.
الوجهُ الرابعُ: أنَّه حالٌ مِنَ الفاعِلِ المُقدَّرِ، يَعني الذي حُذِفَ وأُقيمَ المَفعولُ مُقامَه في قولِه تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ} فإنَّ التقديرَ عندَه: أَحَلَّ اللهُ لكم بَهيمةَ الأَنعامِ غيرَ مُحَلٍّ لَكمُ الصيدُ وأنتمْ حُرُمٌ. فحَذفَ الفاعلَ وأقامَ المفعولَ مقامَه، وتَرَكَ الحالَ مِنَ الفِعْلِ باقيةً. وهذا الوجهُ فيه ضعفٌ مِنْ وُجوهٍ:
ـ الأوَّلُ أنَّ الفاعلَ المَنوبَ عنه صارَ نَسْيًا مَنْسِيًّا غيرَ مُلْتَفَتٍ إليْه، نصُّوا على ذلك، فلو قلتَ: "أُنْزِلَ الغيثُ مُجيبًا لِدُعائهم" وتَجعلُ "مُجيبًا" حالًا مِنَ الفاعِلِ المَنوبِ عنْه، فإنَّ التقديرَ: "أَنْزلَ اللهُ الغيثَ حالَ إجابتِه لِدُعائهم" لم يَجُزْ فَكذلك هذا، ولا سيَّما إذا قيلَ: بأنَّ بُنْيَةَ الفِعلِ المَبْنِيِّ للمَفعولِ بُنْيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ غيرُ مَحْلولَةٍ مِنْ بُنْيَةٍ مَبْنِيَّةٍ للفاعِلِ كما هو قولُ الكُوفيِّين وجَماعَةٍ مِنَ البَصْرِيِّين.
ـ الثاني: أنَّه يَلزَمُ منْه التَقييدُ بهذِه الحالِ إذا عَنَى بالأنعامِ الثمانيةَ الأزواجِ، وتقييدُ إحلالِه تعالى لهم هذه الثمانيةَ الأَزواج بحالِ انتِفاءِ إِحلالِه الصيدَ وهُمْ حُرُمٌ، واللهُ تعالى قد أَحَلَّ لهم هذه مُطلَقًا.
ـ والثالثُ: أنَّه كُتِبَ "مُحِلِّي" بِصيغَةِ الجَمْعِ فيكفَ يَكونُ حالًا مِنَ اللهِ؟ وكأنَّ هذا القائلَ زَعَمَ أنَّ اللفظَ "مُحِلّ" مِنْ غيرِ ياءٍ ، وسيأتي ما يُشبِه هذا القولَ.
الوجهُ الخامسُ: أنَّه مَنصوبٌ على الاسْتِثْناءِ المُكَرَّرِ، يَعني أنَّه هو وقولَه "إلَّا ما يُتلى" مُسْتَثْنيان مِنْ شيءٍ واحدٍ، وهو "بَهيمةُ الأنعام" نَقَلَ ذلك بعضُهم عن البَصريّين، قال: "والتقديرُ، إلَّا ما يُتلى عليكم إلَّا الصَيْدَ وأنتم مُحرِمون، بخلافِ قولِه تعالى: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} الحجر: 58، قال هذا القائل: "ولو كان كذلك لوَجَبَ إباحةُ الصيدِ في الإِحرامِ لأنَّه مُستَثْنًى مِنَ الإِباحةِ. وهذا وجهٌ ساقطٌ، فإذًا معناه: أُحِلَّتْ لكمْ بَهيمةُ الأنعامِ غيرَ مُحِلِّي الصيدِ وأنتمْ حُرُمٌ إلَّا ما يُتلى عليكم سِوى الصيدِ".
والجمهورُ على نصبِ "غير"، وقرأ ابنُ أبي عَبْلةَ برفعِه، وفيه وجهان، أظهرُهما: أنَّه نعتٌ لـ "بهيمةِ الأنعامِ" والموصوفُ بـ "غير" لا يَلزَمُ فيه أنْ يكونَ مماثلًا لِما بعدَها في جِنْسِه. والثاني: أنَّه نعتٌ للضميرِ في "يُتْلى" لأنَّ "غير محلي الصيد" في المَعنى بمنزلةِ "غير مُسْتَحَلٍ إذا كان صيدًا" وفيه تكلُّفٌ.
والصيدُ في الأصلِ مَصدرُ صادَ يَصيدُ ويُصادُ، ويُطْلَقُ على المَصيدِ ك "درهمٌ ضَرْبُ الأميرِ" وهو في الآيةِ الكريمةِ يَحتَمِلُ الأَمريْن: أَعني مِنْ كونِه باقيًا على مَصدريَّتِه، كأنَّه قيل: أَحَلَّ لَكم بَهيمةَ الأنعامِ غيرَ مُحِلِّين الاصطيادَ وأنتم مُحْرِمون، ومِنْ كونِه واقعًا موقعَ المَفعولِ أيْ: غيرَ مُحلِّين الشيءَ المَصيدَ وأنتم مُحْرِمون.
وقولُه: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} مبتدأٌ وخبرٌ في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحالِ، وما
هو صاحبُ هذه الحال؟ فهي حال عن "مُحِلّي الصيد" كأنَّه قيلَ: أَحْلَلْنا لكم بعضَ الأنعامِ في حالِ امْتِناعِكم مِنَ الصيدِ وأنتمْ مُحْرِمون لِئَلَّا نَتَحَرَّجَ عليكم"
وقال مكي بن أبي طالب: هو في مَوضِعِ نَصْبٍ على الحالِ مِنَ المُضمَرِ في "مُحِلّي" وهذا هو الصحيحُ.
وقرأ يَحيى بْنُ وثابٍ وإبراهيمُ والحَسَنُ: "حُرْم" بسكون الراء، قال وهي لُغةُ تميمٍ، يَعني يُسَكِّنون ضمَّ "فُعُل" جمعًا نحو: "رُسْل".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 1
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 11
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 43
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 57
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 73
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 90

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
روضة الشاعر عبد القادر الأسود :: ...:: الروضة الروحانية ::... :: روضة الذكر الحكيم-
انتقل الى: