قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ.
(77)
قَوْلُهُ تَعَالَى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} خطاب للنبيِّ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ قُلْ يَا أيُّها الرَّسُولُ لأهْلِ الكِتَابِ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارى: إنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أنْ تَتَجَاوَزُوا فِي مُعْتَقَدَاتِكُمْ حُدُودَ الحَقِّ إلى البَاطِلِ، فَتَجْعَلُوا بَعْضَ خَلْقِ اللهِ آلِهَةً، وَتَنْكِرُوا رِسَالَةَ بَعْضِ الرُّسُلِ، وَيَنْهَاكُمْ أنْ تَسِيرُوا وَرَاءَ شَهَوَاتِ أنَاسٍ سَبَقُوكُمْ، قَدْ تَجَنَّبُوا طَرِيقَ الهُدَى، وَمَنَعُوا كَثيرًا مِنَ النَّاسِ أنْ يَسْلُكُوهَا، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى مُجَافَاتِهِمْ طَرِيقَ الحَقِّ الوَاضِح. أَيْ لَا تُفَرِّطُوا كَمَا أَفْرَطَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي عِيسَى. "لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ" الغُلُوُّ مَصْدَرُ غَلا في الأمرِ: إذا تَجَاوَزَ الحَدَّ. وهو نَقيضُ التقصيرِ. وقد نهى النبي ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ ـ عن الغُلُوِّ حتّى في الدين، فقد رَوَى الإِمامُ أَحمد والنسائيُّ وابْنُ ماجَةَ والحاكمُ عنِ ابْنِ عبَّاسٍ أَنَّ النَبِيَّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ قال: ((إيَّاكم والغُلُوَّ في الدينِ فإنَّما هَلَكَ مَنْ كان قبلَكم بالغُلُوِّ في الدين)). والحديث صحيح.
وروى البُخاري عن عُمرَ بْنِ الخَطَّابِ أنَّ رسولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((لا تُطروني كما أَطْرَتِ النَّصارى ابْنَ مريمَ؛ إنَّما أَنَا عبدٌ فقولوا: عبدُ اللهِ ورَسولُه)).
وروى مُسْلِمٌ عنِ ابْنِ مَسْعودٍ أنَّ رسولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ ـ قال: ((هَلَكَ المُتَنَطِّعون))، قالها ثلاثةً. والمتنطِّعون هم المُتَشَدِّدون المُتَجاوِزون للحُدودِ التي جاءتْ بها تعاليمُ الإِسْلامِ.
وقد غالى أهْلُ الكتابِ في شأنِ عيسى ـ عليه السلامُ ـ أمَّا اليَهودُ فقد كَفَروا بِهِ ونَسَبوهُ إلى الزِنا وافْتَروْا عليْه وعلى أُمِّهِ افْتِراءً شديدًا، وأمَّا النَّصارى فقد وصَفُوهُ بالأُلوهيَّةِ فوَضَعوهُ في غيرِ مَوْضِعِهِ الذي وَضَعَهُ اللهُ فيه وهو مَنْصِبُ الرِسالةِ. وكما غالوا في شأنِ عيسى ـ عليه السلامُ ـ فقد غالَوا أَيْضًا في تَمَسُّكِهم بعقائدِهِمُ الزائفةِ، معَ أنَّ الدَلائلَ الواضِحَةَ قد دَلَّتْ على بُطلانِها وفَسادِها.
قَوْلُهُ: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ} الْأَهْوَاءُ جَمْعُ هَوًى. وَسُمِّيَ الْهَوَى هَوًى لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي النَّارِ. وقيل المقصود بالهوى المذاهبُ التي تدعو إليها الشهوةُ دونَ حُجَّةٍ. وما ذَكر اللهُ لفظَ الهوى في القرآنِ إلَّا ذَمَّهُ. فقد قال هنا: "وَلاَ تَتَّبِعوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السبيل" وقال: {واتَّبَعَ هَوَاهُ فتَردَى} طه: 16. وقال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} النجم: 3. وقال: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ} الفرقان: 43. وما ذُكِرَ الهوى إلَّا في الشَرِّ، فلا يُقالُ: فلانٌ يَهوى الخيرَ إنَّما يُقالُ يُريدُ الخَيْرَ ويُحبُّه. وقيل: سُمِّيَ الهَوى هوًى لأنَّه يَهوي بصاحِبِه في النَّارِ. وأَنْشَدَ في ذَمِّ الهوى:
إنَّ الهوى الهوانُ بعينِه ...................... فإذا هويتَ فقد لَقيتَ هَوانًا
وقالَ رجلٌ لابْنِ عبَّاس ـ رضيَ اللهُ عنهُما: الحمدُ للهِ الذي جَعَلَ هوايَ على هَواك. فقالَ ابْنُ عبَّاسٍ: كلُّ هوًى ضَلالةٌ.
قولُهُ: {وَلاَ تَتَّبِعوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السبيلِ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: يَعْنِي الْيَهُودَ. أَيْ أَضَلُّوا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ. أيْ: وقلْ لَّهمْ أَيضًا ولا تَتَّبِعوا شَهَواتِ وأَقوالِ قومٍ مِنْ أَسلافِكم وعُلمائكم ورُؤسائكم "قَدْ ضَلُّواْ مِنْ قَبْلُ" أيْ: قدْ ضَلُّوا مِنْ قبلِ بِعْثةِ النَبِيِّ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّم ـ بتَحريفِهم لِلكُتُبِ السَماوِيَّةِ وتَركِهم لِتَعاليمِها جَرْيًا وراءَ شَهَواتِهم وأَهوائهم "وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا" أيْ أَنَّهم لَمْ يَكْتَفوا بِضَلالِ أَنْفُسِهم بَلْ أَضَلُّوا أُناسًا كثيرين سِواهُم مِمَّنْ قَلَّدَهُم ووافَقَهم على أَكاذيبِهم. و"وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السبيلِ" أَيْ عَنْ قَصْدِ طَرِيقِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَتَكْرِيرُ ضَلُّوا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَضَلُّوا مِنْ بَعْدُ، وَالْمُرَادُ الْأَسْلَافُ الَّذِينَ سَنُّوا الضَّلَالَةَ وَعَمِلُوا بِهَا مِنْ رُؤَسَاءِ اليهود والنصارى. أيْ أنَّهم قد ضَلُّوا مِنْ قبلِ البِعْثَةِ النَبَويَّةِ الشَريفةِ، وضَلُّوا مِن بعدِها عنْ {سَوَاءِ السبيلِ} أيْ: عنِ الطريقِ الواضِحِ الذي أتى بِه النبيُّ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ ـ وهو طريقُ الإِسلامِ وذلك لأنَّهم لَم يَتَّبِعوهُ مَعَ مَعرِفَتِهم بِصِدْقِهِ؛ بَلْ كَفَروا بِهِ حَسَدًا لَهُ على ما آتاهُ اللهُ مِنْ فَضْلِه.
فقد وصفهم اللهُ تعالى بثلاثِ دَرَجاتٍ في الضَلالِ: فبيَّن أَنَّهم كانوا ضالِّينَ مِنْ قَبْلُ، ثمَّ ذَكَرَ أنَّهم كانوا مُضِلِّين لِغَيْرِهم، ثمَّ ذَكَرَ أَنَّهم اسْتَمَرُّوا على تِلكَ الحالةِ حتَّى الآنَ ضالُّون كما كانوا ولا نَجِدُ حالةً أَقرَبُ إلى البُعْدِ مِنَ اللهِ والقُرْبِ مِنْ عِقابِهِ مِنْ هذِه الحالةِ، ويُحتَمَلُ أنَّهم ضَلُّوا وأَضَلُّوا ثمَّ ضَلُّوا بِسَبَبِ اعْتِقادِهم في ذلك الإِضلالِ أنَّه إرشادٌ إلى الحَقِّ.
هذا، وممَّا أَخَذَهُ العُلَماءُ مِنْ هذه الآيةِ الكريمةِ أَنَّ الغُلُوَّ في الدِّين لا يَجوزُ وهو مُجاوَزَةُ الحَقِّ إلى الباطِلِ وقدْ سُقْنا مِنَ الآثارِ ما يَشْهَدُ بذلك عندَ تَفسيرِنا لِصَدْرِ الآيةِ الكَريمةِ.
قوله تعالى: {غَيْرَ الحقِّ}: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحذوفٍ. أيْ: لا تَغْلُوا في دينكم غُلُوَّاً غيرَ الحق أي: غلوَّاً باطلًا. أو أنَّه مَنْصوبٌ على الحالِ مِنْ ضميرِ الفاعِلِ في "تَغْلُوا" أيْ: لا تَغْلوا مُجاوِزينَ الحَقَّ، أو أَنَّه حالٌ مِنْ "دينِكم" أيْ: لا تَغْلوا فيه وهو باطلٌ، بَلْ اغْلُوا فِيهِ وهو حَقٌّ، لأنَّ الغلوَّ في الدين غُلُوَّان: حقٌّ وهو أَنْ يُفْحَصَ عن حقائِقِهِ ويُفَتَّشَ عنْ أَباعِدِ مَعانيه ويُجْتَهَدَ في تَحْصيلِهِ حُجَجَه، وغلوٌ باطلٌ: وهو أنْ يَتَجاوزَ الحَقَّ ويَتَخَطَّاهُ بالإِعْراضِ عنِ الأَدِلَّةِ. أو أنَّه مَنصوبٌ على الاسْتِثْناءِ المُتَّصِلِ. أو على الاسْتِثناءِ المُنْقَطِعِ.
وذكر الواحدي فيه الحالَ والاستثناءَ فقال: وانتصابُ "غيرَ الحقِّ" مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُما: الحالُ والقَطْعُ مِنَ الدِّينِ كأنَّه قيلَ: لا تَغُلُوا في دينِكم مُخالِفين للحَقِّ، لأنَّهم خالَفوا الحَقَّ في دينِهم ثمَّ غَلَوْا فيهِ بالإِصْرارِ عليْه. والثاني: أنْ يَكونَ مَنصوبًا على الاسْتِثناءِ، فيَكونُ "الحَقّ" مُسْتَثْنًى مِنَ المَنْهِيِّ عَنِ الغُلُوِّ فيه بأَنْ يَجُوزَ الغُلُوُّ فيما هُوَ حَقٌّ على معنى اتِّباعِه والثَباتِ عليْه. وهذا نَصٌّ على أنَّ المُسْتَثنى هو "دينُكم". و"تَغْلُوا" فعلٌ لازمٌ، إلَّا أنَّ أَهلَ اللُّغةِ يُفَسِّرونَه بمَعنًى مُتَعَدٍّ، فإنَّهم قالوا: معناهُ لا تتجاوزوا الحَدَّ. والغُلُوُّ تجاوزُ الحَدِّ، يُقالُ ذلك إذا كان في السِعْرِ "غلاء" وإذا كان في القَدْرِ والمَنزِلَةِ "غُلُوًّا" وفي السهم "غَلْوا" وأَفعالُها جَميعًا غَلا يَغلُو، فعَلى هذا يَجوزُ أنْ يَنْتَصِبَ "غير الحق" مفعولًا بِهِ أيْ: لا تَتجازوا في دِينِكم غير الحقِّ، فإنْ فَسَّرنا "تغلوا" بمَعنى تَتباعدوا مِنْ قولِهم: "غلا السهمُ" أي: تباعدَ كانَ قاصرًا، فيَحتمِلُ أنْ يَكونَ مَنْ قالَ بِأَنَّه لازِمٌ أَخَذَه مِنْ هذا لا مِنْ الأوَّلِ.
قولُه: {كَثِيرًا} مَفعولٌ بِهِ منصوبٌ، وعلى هذا أكثرُ المُتَأَوِّلين، فإنَّهم يُفَسِّرونَه بمَعنى: وأَضَلُّوا كَثيرًا منهم أوْ مِنَ المُنافقين. أو هو منصوبٌ على المصدرِيَّةِ أي: نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحذوفٍ، أيْ: إضْلالًا كَثيرًا، وعلى هذا فالمَفعولُ مَحذوفٌ، أيْ: أَضَلُّوا غيرَهم إضْلالًا كثيرًا.