ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ.
(94)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ} أَيْ لَيَخْتَبِرَنَّكُمْ، وَالِابْتِلَاءُ الِاخْتِبَارُ. يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى : بِأنَّهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ فِي حَالَةِ إحْرَامِهِمْ، بِأنْ يَجْعَلَ صِغَارَ حَيَوَانَاتِ الصَّيْدِ وَضِعَافِهَا فِي مُتَنَاوَلِ أيْدِيهِمْ، لَوْ شَاؤُوا لَتَنَاوَلُوهَا بِأيْدِيهِمْ، كَمَا أنَّهُ سَيَخْتَبِرُهُمْ بِجَعْلِ كِبَارِ الحَيَواناتِ فِي مُتَنَاوَلِ رِمَاحِهِمْ، تَعْرِضُ لَهُمْ، أوْ تَغْشَاهُمْ فِي رَحِالِهِمْ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُ اللهَ مِنْهُمْ فِي سِرِّهِ وَجَهْرِهِ، وَيَمْتَنِعُ عَنِ الصَّيْدِ مَا دَامَ مُحْرِمًا، فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ هذا التَّحذِيرِ، وَقَتَلَ الصَّيْدَ أوْ أكَلَ لَحْمَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَلَهُ عَذَابٌ أليمٌ فِي الآخِرَةِ
لِمُخَالَفَتِهِ شَرْعَ اللهِ.
وَكَانَ الصَّيْدُ أَحَدَ مَعَايِشِ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ، وَشَائِعًا عِنْدَ الْجَمِيعِ مِنْهُمْ، مُسْتَعْمَلًا جِدًّا، فَابْتَلَاهُمُ اللهُ فِيهِ مَعَ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ، كَمَا ابْتَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَلَّا يَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، أَحْرَمَ بَعْضُ النَّاسِ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ولم يُحرمْ بعضُهم، فكان إذا عَرَضَ صَيْدٌ اخْتَلَفَت فِيهِ أَحْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ، وَاشْتَبَهَتْ أَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ بَيَانًا لِأَحْكَامِ أَحْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَمَحْظُورَاتِ حَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ.
واخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مَنِ الْمُخَاطَبُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ الْمُحِلُّونَ، قَالَهُ مَالِكٌ. الثَّانِي: أَنَّهُمُ الْمُحْرِمُونَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "لَيَبْلُوَنَّكُمُ" فَإِنَّ تَكْلِيفَ الِامْتِنَاعِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الِابْتِلَاءُ هُوَ مَعَ الْإِحْرَامِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا لَا يَلْزَمُ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمَحَلِّ بِمَا شُرِطَ لَهُ مِنْ أُمُورِ الصَّيْدِ، وَمَا شُرِعَ لَهُ مِنْ وَصْفِهِ فِي كَيْفِيَّةِ الِاصْطِيَادِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِجَمِيعِ النَّاسِ مُحِلِّهِمْ وَمُحْرِمِهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ" أَيْ: لَيُكَلِّفَنَّكُمْ، وَالتَّكْلِيفُ كُلُّهُ ابْتِلَاءٌ وَإِنْ تَفَاضَلَ فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، وَتَبَايَنَ فِي الضَّعْفِ وَالشِّدَّةِ.
قولهُ: {بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} يُرِيدُ بِبَعْضِ الصَّيْدِ، فَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَهُوَ صَيْدُ الْبَرِّ خَاصَّةً، وَلَمْ يَعُمَّ الصَّيْدَ كلَّهُ لأنَّ للبحرِ صيدًا، قال الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَرَادَ بِالصَّيْدِ الْمَصِيدَ، لِقَوْلِهِ: "تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ".
قَوْلُهُ: {تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ} بَيَانٌ لِحُكْمِ صِغَارِ الصَّيْدِ وَكِبَارِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَيْدِي تَنَالُ الْفِرَاخَ وَالْبَيْضَ وَمَا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفِرَّ، وَالرِّمَاحُ تَنَالُ كِبَارَ الصَّيْدِ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ" وكلُّ شيءٍ يَنَالُهُ الْإِنْسَانُ بِيَدِهِ أَوْ بِرُمْحِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ سِلَاحِهِ فَقَتَلَهُ فَهُوَ صَيْدٌ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى.
وقد خَصَّ اللهُ تَعَالَى الْأَيْدِي بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عُظْمُ التَّصَرُّفِ فِي الِاصْطِيَادِ، وَفِيهَا تَدْخُلُ الْجَوَارِحُ وَالْحِبَالَاتُ، وَمَا عُمِلَ بِالْيَدِ مِنْ فِخَاخٍ وَشِبَاكٍ، وَخَصَّ الرِّمَاحَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا عُظْمُ مَا يُجْرَحُ بِهِ الصَّيْدُ، وَفِيهَا يَدْخُلُ السَّهْمُ وَنَحْوُهُ، وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيمَا يُصَادُ بِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ وَالسِّهَامِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِمَا فيه الكِفايةُ والحمدُ لله. ومَا وَقَعَ فِي الْفَخِّ وَالْحِبَالَةِ فَلِرَبِّهَا، فَإِنْ أَلْجَأَ الصَّيْدَ إِلَيْهَا أَحَدٌ وَلَوْلَاهَا لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ أَخْذُهُ فَرَبُّهَا فِيهِ شَرِيكُهُ. وَمَا وَقَعَ فِي الْجُبْحِ (مثلَّثةُ الجيم هو مَوْضِعُ تَعْسِيلِ النَّحْلِ فى الجَبَل) الْمَنْصُوبِ فِي الْجَبَلِ مِنْ ذُبَابِ النَّحْلِ فَهُوَ كَالْحِبَالَةِ وَالْفَخِّ، وَحَمَامُ الْأَبْرِجَةِ تُرَدُّ عَلَى أَرْبَابِهَا إِنِ اسْتُطِيعَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ نَحْلُ الْجِبَاحِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ حَصَلَ الْحَمَامُ أَوِ النَّحْلُ عِنْدَهُ أَنْ يَرُدَّهُ. وَلَوْ أَلْجَأَتِ الْكِلَابُ صَيْدًا فَدَخَلَ فِي بَيْتِ أَحَدٍ أَوْ دَارِهِ فَهُوَ لِلصَّائِدِ مُرْسِلُ الْكِلَابِ دُونَ صَاحِبِ الْبَيْتِ، وَلَوْ دَخَلَ فِي الْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارِ الْكِلَابِ لَهُ فَهُوَ لِرَبِّ الْبَيْتِ.
احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ لِلْآخِذِ لَا لِلْمُثِيرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْمُثِيرَ لَمْ تَنَلْ يَدُهُ وَلَا رُمْحُهُ بَعْدُ شَيْئًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ النعمان ـ رضيَ اللهُ عنه. وكَرِهَ مَالِكٌ صَيْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ" يَعْنِي أَهْلَ الْإِيمَانِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَدْرِ الْآيَةِ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" فَخَرَجَ عَنْهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَخَالَفَهُ جُمْهُورُ أهلِ العِلْمِ، لقولِه تَعَالَى: {وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ} المائدة: 94. وَهُوَ عِنْدَهُمْ مِثْلُ ذَبَائِحِهِمْ. وَأَجَابَ عُلَمَاءُ المالكيَّةِ بِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا تَضَمَّنَتْ أَكْلَ طَعَامِهِمْ، وَالصَّيْدُ بَابٌ آخَرُ فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الطَّعَامِ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ لَفْظِهِ. وهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ لَيْسَ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ فَلَا يَكُونُ مِنْ طَعَامِهِمْ، فَيَسْقُطُ عَنَّا هَذَا الْإِلْزَامُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مَشْرُوعًا عِنْدَهُمْ فِي دِينِهِمْ فَيَلْزَمُنَا أَكْلُهُ لِتَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ طَعَامِهِمْ. والله أَعلمُ.
قولُهُ تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ} لَيَبْلُوَنَّكُمُ: جوابُ قَسَمٍ مَحذوفٌ أي: واللهِ لَيَبْلُونَّكمُ، وقد تقدَّم أنَّه تَجِبُ اللامُ وإحْدى النُونيْن في مِثْلِ هذا الجَوابِ. و"بِشَيْءٍ" متعلِّقٌ بـ "ليبلونَّكم" أي: لَيَخْتَبِرَنَّكُمُ اللهُ بِشيءٍ. وقولُه: {مِنَ الصيد} في مَحَلِّ جَرٍّ صفةً لـ "شيء" فيتعلَّقُ بمحذوف، و"من" الظاهرُ أنَّها تَبْعيضِيَّةٌ لأنَّه لم يُحَرِّمْ صيدَ الحلالِ ولا صيدَ الحِلِّ ولا صيدَ البحر. وقيل: إنَّها لبيانِ الجِنسِ. فلما قال "بشيءٍ" لم يُعْلَم من أيِّ جنسٍ هو فبيَّنَ فقال: "من الصيدِ" كما تقولُ: "لأَعطينَّك شيئًا مِنَ الذَهَبِ". وكونُها للبيانِ فيه نظرٌ، لأنَّ الصحيحَ أنَّها لا تكونُ للبيانِ، والقائلُ بأنَّها للبَيانِ يَشْترطُ أنْ يَكونَ المُبَيَّنُ بها معرَّفًا بألْ الجِنْسِيَّةِ كقولِه: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} الحج: 30، وهذا كما تقولُ: "لامتحِنَنَّكَ بشيءٍ مِنَ الرِّزْقِ".
قولُه: {تَنَالُهُ} في محلِّ جَرٍّ لأنَّه صفةٌ ثانيةٌ لـ "شيءٍ"، ويجوزُ أن يكونَ حالاً: إمَّا مِنَ الصَيْدِ، وإمَّا مِنْ "شيءٍ" وإنْ كان نَكِرَةً لأنَّه قد وُصِفَ فتخصَّص، واستبعدَ الشيخُ أبو حيان التوحيدي جَعْلَه حالًا مِنَ الصيدِ، ووجهُ الاسْتِبْعادِ أنَّه ليسَ المقصودَ بالحديثِ عنه.
وقرأَ الجُمهورُ: "تنالُه" بالمَنْقوطَةِ فوقُ لِتأنيثِ الجَمْعِ، وقرأ ابْنُ وَثابٍ والنُخَعِيُّ بالمَنقوطةِ مِنْ تحتُ لأنَّ تأنيثَه غيرُ حقيقي.
قولُه تعالى: {لِيَعْلَمَ اللهُ} اللامُ متعلِّقةٌ بـ "لَيبلونَّكم" والمعنى : ليتميَّزَ أو لِيُظهرَ لَكم، وقد مضى تحقيقُه في البقرة، وأنَّ هذه تسمَّى لام كي، وقرأ بعضُهم: "لِيُعْلِم" بضمِّ الياءِ وكسرِ اللّامِ مِنْ أَعْلَمَ، والمَفعولُ الأوَّلُ على هذِه القراءةِ محذوفٌ أي: لِيُعْلِم اللهُ عبادَه، والمفعولُ الثاني هو قولُه: "مَن يَخَافُهُ" فـ "أَعْلَمَ" منقولةٌ بهمزة التَعدِيَةِ مِنْ "عَلِمَ" المُتَعَدِّيةِ لواحدٍ بمَعنى "عَرَفَ".
وقولُه: {بالغيب} في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ فاعِلِ "يَخافُه" أي: يخافُه مُلْتَبِسًا بالغيبِ، وقد تقدَّم معناه في البقرة. ويجوزُ أنْ يَكونَ حالًا مِنْ "مَنْ" في "مَنْ يَخافُه"، ويجوزُ أنَّ الباءَ بمعنى "في".
والغيبُ مصدرٌ واقعٌ مَوْقِعَ غائبٍ أي: يَخافُه في المَكانِ الغائبِ عن
الخَلْقِ، فعلى هذا يكونُ متعلقًا بِنَفْسِ الفِعْلِ قبلَه، وعلى الأَوَّلَيْن يكونُ متعلِّقًا بمحذوفٍ على ما عُرِف.