وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ.
(56)
قَوْلُهُ ـ سبحانه وتَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} أيْ ومَنْ يَتَّخذَهم أَوْلياءَ، ويُفَوَّضُ أَمْرَهُ إِلَى اللهِ، وَيمْتَثَلُ أَمْرَ رَسُولِهِ، ويُوالي الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مِنْ حِزْبِ اللهِ. وأُوثِرَ هنا الإظْهارُ على الإضْمارِ رعايةً لِمَا مَرَّ في الآيةِ السابقة مِنْ نُكْتَةِ بيانِ أَصالَتِهِ ـ تعالى ـ في الوِلايةِ كما يُنبئُ عنْه قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} حيثُ أُضيفَ الحِزبُ، أيْ الطائفةُ أوِ الجماعةُ مُطلَقًا أوِ الجماعةُ التي فيها شِدَّةٌ إليه ـ تعالى ـ خاصَّةً؛ وفي هذا أَيضًا على رأيٍ وضْعُ الظاهرِ مَوضِعَ الضَميرِ العائدِ إلى "مِنْ" أيْ فإنَّهم الغالبون. لكنَّهم جُعِلوا حِزْبَ اللهِ وأضافهم إلى ذلتِه العلِيَّةِ تعظيمًا لهم وإثباتًا لِغَلَبَتِهم بالطريقِ البُرهانيِّ، كأنَّه قيلَ: ومَنْ يَتَوَلَّ هؤلاءِ فإنَّهم حِزْبُ اللهِ، وحِزْبُ اللهِ ـ تعالى ـ هُمُ الغالبون.
وَقِيلَ: أيْ ومَن يتولَّى الْقِيَامَ بِطَاعَةِ اللهِ وَنُصْرَةِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، "فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ" قَالَ الْحَسَنُ: حِزْبُ اللهِ جُنْدُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَنْصَارُه. قال رُبَةُ بْنُ العَجَّاجِ:
ألقَيْتُ أقوالَ رجال الكُذْبِ .................. وكيف أضوى وبلال حزبي
أَيْ نَاصِرِي. وَالْمُؤْمِنُونَ حِزْبُ اللهِ، فَلَا جَرَمَ أنْ غَلَبُوا الْيَهُودَ بِالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ وَالْإِجْلَاءِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ.
وقد جاء في هذه الآية بالمقابل لِما جاءَ في الآية السابقةِ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ}. فقال ـ سبحانه: "وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون". وهذه المُقابلةُ تُوضِحُ لنا كيفَ يَنْصُرُ اللهُ العبدَ، وكيف يَنْتَصِرُ العبدُ للهِ. ولم يَقُلْ ـ سبحانَه وتعالى ـ في وصفِ مَنْ يَتَولَّى اللهَ ورسولَه والذين آمنوا: إنَّهمُ الغالبونَ فقطْ، ولكنَّه أَوْرَدَ هذه الغَلَبَةَ في معنًى عامٍّ فقال: "فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون". وَالْحِزْبُ الصِّنْفُ مِنَ النَّاسِ. وَأَصْلُهُ مِنَ النَّائِبَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَزَبَهُ كَذَا أَيْ نَابَهُ، فَكَأَنَّ الْمُحْتَزِبِينَ مُجْتَمِعُونَ كَاجْتِمَاعِ أَهْلِ النَّائِبَةِ عَلَيْهَا. وَحِزْبُ الرَّجُلِ أَصْحَابُهُ. وَالْحِزْبُ الْوِرْدُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ ((فَمَنْ فَاتَهُ حِزْبُهُ مِنَ اللَّيْلِ)). وَقَدْ حَزَّبْتُ الْقُرْآنَ. وَالْحِزْبُ الطَّائِفَةُ. وَتَحَزَّبُوا اجْتَمَعُوا. وَالْأَحْزَابُ: الطَّوَائِفُ الَّتِي تَجْتَمِعُ عَلَى مُحَارَبَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَحَزَبَهُ أَمْرٌ أَيْ أَصَابَهُ.
قولُه تعالى: {ومَنْ يَتَوَلَّ} مَنْ: شرطٌ في محلِّ رَفْعٍ بالابْتِداءِ خبرُهُ جُملةُ "يتولَّ".
وقولُه: {فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ} يُحتَمَلُ أنْ يَكونَ جوابًا للشَرطِ، وبِهِ يَحْتَجُّ مَنْ لا يَشتَرِطُ عَوْدَ ضميرٍ على اسْمِ الشَرطِ إذا كان مُبتَدَأً، ولقائلٍ أنْ يَقولَ: إنَّما جازَ ذلك لأنَّ المُرادَ بحزبِ اللهِ هو نفسُ المُبتَدأِ، فيَكونُ مِنْ بابِ تَكرارِ المُبْتَدَأِ بمَعناه، وفيه خِلافٌ: الأَخْفَشُ يُجيزُهُ فإنَّ التقدير: ومَنْ يتولَّ اللهَ ورسولَه والذين آمنوا فإنَّه غالِبٌ، فوَضَعَ الظاهرَ موضِعَ المُضْمَرِ لفائدةٍ وهي التَشريفُ بإضافةِ الحِزْبِ إلى اللهِ ـ تعالى. ويُحتَمَلُ أنْ يَكونَ الجوابُ محذوفًا لدَلالَةِ الكلامِ عليْه، أيْ: ومَنْ يَتَولَّ اللهَ ورسولَه والذين آمنوا يَكُنْ مِنْ حِزبِ اللهِ الغالِبِ، أو يَنْصُرْه ونحوُه. ويكون قولُه: "فَإِنَّ حِزْبَ الله" دالًّا عليه، وعلى هذين الاحتماليْن فلا دَلالة في الآيةِ على عدمِ اشْتِراطِ عَوْدِ ضميرٍ على اسْمِ الشَرْطِ.
وقولُه: {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} في محلِّ جزْمٍ إنْ جعلناه جوابًا للشرطِ، ولا محلَّ له إنْ جَعلْناه دالاًّ على الجواب. و"هم" يُحتَملُ أنْ يكون فصْلاً وأنْ يَكونَ مُبْتَدأً و"الغالبون" خبرُه، والجُملةُ خبرُ "إنَّ" وقد تقَدَّمَ الكلامُ على ضميرِ الفَصلْ وفائدتِه. والحِزْبُ: الجماعةُ فيها غُلظَةٌ وشِدَّةٌ، فهو جَماعةٌ خاصَّةٌ.