لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ.
(70)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًاْ}. يُبَين اللهُ ـ سبحانَه ـ لرسوله الكريم محمد ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ في هذهِ الآيَةِ أنَّه ـ تبارك وتعالى ـ سَبَقَ أنْ أَعذَرَ إلى هؤلاء اليهود وأَخذَ عليهم مِيثاقًا، والْمِيثَاقُ الذي أَخَذُه اللهُ عليهم هو: أَلَّا يَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ـ سبحانه، وما يَتَّصِلُ بذلك كما تقدَّمَ بيانُه. بعد أنْ أَمَرَهُ في الآيةِ السابِقةِ ألَّا يَأْسَ عليهم ولا يَحزَنَ بسببِ كفرِهم بِما أُنزِلَ إليْهم، وعدمِ إيمانِهم بِهِ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ وبرسالتِه التي أَنْزَلَها اللهُ عليه وهو القرآنُ الكريم، مُخالفين بذلك تعاليمَ كتابِهم التوراتَ الذي أَنْزَلَهُ اللهُ على نَبِيِّهم موسى ـ عليه السلامُ ـ فحازوا بذلك غَضَبَ اللهِ وسَخَطَه. فلا تَأْسَ ـ يا رسولَ الله ولا تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَإِنَّا قَدْ أَعْذَرْنَا إِلَيْهِمْ، وَأَرْسَلْنَا إليهم الرُّسُلَ وأخذَ عليهم رُسُلنا إليهم الْعُهُودَ فَنَقَضُوها. وَكُلُّ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَا افْتُتِحَتْ بِهِ هذه السُّورَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}.
وقولُه: {كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} أَيْ أنَّ هؤلاء اليهودُ لايتَّبعونَ إلَّا أَهواءهم، ولا يُصْغُون إلى كلامِ ربِّهم الذي يُبلِّغُهم إيَّاهُ رُسلُهم إلَّا بِقَدْرِ ما يُوافِقُ أَهواءَهم ويروا لأنفسهم مصلحةً فيه، فإذا رأوا مِنْ رَسولٍ ما يُخالفُ أَهواءَهم ومصالحهم كذَّبوه وآذَوْهُ كَ"عِيسَى" وَمَنْ مِثْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أوْ قَتَلوه، ك "زكريا ويحي" عليهم السلامُ جميعاً.
وفي هذا تسليةٌ له ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ عن حُزْنِه عليهم لأنَّهم لم يؤمِنوا بِهِ وبِرسالَتِهِ، وبادَروا إلى تَكذيبِه وإيذائه، فأوْرَدُوا أَنفُسَهم مَوارِدَ الهَلاكِ بما نَزَلَ عليهم مِنْ سَخَطِ اللهِ وغَضَبِهِ، وقد كان ـ عليْه الصلاةُ والسلامُ ـ يَحزَنُ أَشَدَّ الحُزْنِ عندما يَرى أَحَدهم يُكَذِّبُه فيما يَنْزِل عليْه مِنْ ربِّه لأنَّ غَضَبَ اللهِ وعقوبتَه سَوْفَ تحِلُّ بهذا الكافرِ المُكذِّبِ، ولا غَرْوَ فإنَّه ـ عليه الصلاةُ والسَلامُ ـ كان الرحمةَ المُهداةَ للبَشَرِيَّةِ حتَّى وصَفَهُ رَبُّه بأنَّهُ "رؤوفٌ" و"رحيم"، والرأفةُ والرحمة هما مِنْ صِفاتِ اللهِ تبارك وتعالى.
وَإِنَّمَا قَالَ: "يَقْتُلُونَ" لِمُرَاعَاةِ رَأْسِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ فَرِيقًا كَذَّبُوا،
وَفَرِيقًا قَتَلُوا، وَفَرِيقًا يُكَذِّبُونَ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ، فَهَذَا دَأْبُهُمْ وَعَادَتُهُمْ فَاخْتَصَرَ. وَقِيلَ: فَرِيقًا كذبوا لم يقتلوهم، وفريقا قتلوهم فكذبوا.
قولُه تعالى: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} كلَّما: نصبٌ على الظَرْفِيَّةِ، وقد تقدم لنا في ذلك تَفصيلٌ عند قولِه تعالى في سورة البقرة: {كلَّما أَضاءَ لهم مشوا فيه}. وممَّا يَشيعُ في لُغةِ الإعلامِ المُعاصِرِ تَكرارُها في مثلِ عبارتهم: "كلَّما اقتربَ مَوْعِدُ كذا كلَّما زادَ خطرُ الحَرْب". والصوابُ حذفُ "كلَّما" الثانية. وتُقطعُ "كل" عن "ما" وتوصل، فتقول: "كلُّ ما كان منكَ حَسَنٌ" و" إنَّ كلَّ ما تَأْتِيهِ جَميلٌ" فتقطعها؛ لأنَّها في مَوضِعِ الاسْمِ، فإذا لم تكن في مَوْضِعِ اسْمٍ وصَلْتَها كما هي في قولِكَ: "كلَّما رأيتُكَ سرَرْتَني" و"كلَّما سألتُك أخْبَرْتَني". ومعلومٌ أنَّ {كُلَّمَا} تقتضي التَكرارَ بتَكَرُّرِ الفِعلِ الذي بعدَها.
وقيل إنَّ جُملةَ: "كلَّما جاءهم رسولٌ" جملةٌ شرطيةٌ وقعتْ صفةً لـ "رسُلًا" والراجعُ محذوفٌ دَلَّ عليه قوله: "فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ" كأنَّه قيل: كلَّما جاءَهم رسولٌ ناصَبُوه، أيْ: رَسولٌ مِنهم، وجوابُ الشرطِ ناب عنه قوله: "فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ"، لأنَّ الرسولَ الواحدَ لا يَكونُ فريقين. وقولُه: "فَرِيقًا كَذَّبُواْ" جوابٌ مُستَأنَفٌ لِقائلٍ يَقولُ: كيف فَعَلُوا بِرُسُلِهم؟.
ودُفعَ ذلك بأنَّ "كلما" ليست شرْطًا، بَلْ "كُلَّ" منصوبٌ على الظرفِ و"ما" مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، وبأنَّ العرب لم تجزِمْ بـ "كلَّما" أصلًا.
وجيءَ بأحدِ الفعليْن ماضيًا وبالآخرِ مُضارعًا فجِيء بـ "يقتلون" على حكايةِ الحالِ الماضيةِ اسْتفظاعًا للقَتْلِ، واستحضارًا لِتِلك الحالِ الشَنيعةِ للعَجَبِ منها. وأيضًا فإنَّه لَمَّا جِيءَ به مضارعًا ناسَبَ رُؤوسَ الآي.