أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
(40)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}. هو خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَغَيْرِهِ، أَيْ لَا قَرَابَةَ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ أَحَدٍ تُوجِبُ الْمُحَابَاةَ حتَّى يَقولَ قائلٌ: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَالْحُدُودُ تُقَامُ عَلَى كُلِّ مَنْ يُقَارِفُ مُوجِبَ الْحَدِّ. وَقِيلَ: أَيْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا يُرِيدُ، فَلِهَذَا فُرِّقَ بَيْنَ الْمُحَارِبِ وَبَيْنَ السَّارِقِ غَيْرِ الْمُحَارِبِ. وذلك بعدَ أنْ بيَّنَ ـ سبحانَه وتَعالى ـ العقاب الذي يُنْزِلُ بالمفسدين في الأرض محاربين أحكامَ الله والنظامَ الذي قرَّرَهُ الإسلام، وبيَّنَ أنَّ بابَ التوبةِ مفتوحٌ، لمن يُريدُ الإصلاحَ، ويُقلِعُ عن الإفسادِ وأنَّ تلكَ هي أَحكامُ العليمِ الحكيمِ، صاحبِ السُلْطانِ القاهرِ الذي هُو فوقَ كلِّ سُلطانٍ، وأنَّ كلَّ ذي سُلْطانٍ مهما يكنِ اتِّساعُه وسَطْوَتُه، فهو في مُلكِ اللهِ تَعالى، وأنَّ ما يَكون مِن عِقابٍ أوْ غُفرانٍ فهو مِنْ واسعِ حِكمتِه، ومِنْ شُمولِ رَحمتِه.
وقوله: {يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} وكان الظاهرُ لِحديثِ (سَبَقتْ رَحمتي غَضبي) تقديمُ المغفرةِ على التَعذيبِ، وإنَّما عَكَسَ هُنا لأنَّ التعذيبَ للمُصِرِّ على السَرِقَةِ، والمَغفرةَ للتائبِ منها، وقد قُدِّمتِ السَرِقَةُ في الآية أوَّلًا ثمَّ ذُكِرتِ التوبةُ بعدَها فجاءَ هذا اللَّاحِقُ على ترتيبِ السابِقِ، أوْ لأنَّ المُرادَ بالتعذيبِ القَطْعُ، وبالمغفرة التجاوُزُ عنْ حَقِّ اللهِ تَعالى، والأوَّلُ: في الدنيا، والثاني: في الآخرة، فجيء بِه على ترتيبِ الوُجودِ، أوْ لأنَّ المَقامَ مَقامَ الوعيدِ، أوْ لأنَّ المَقصودَ وصفُه ـ تعالى ـ بالقدرةِ، والقدرةُ في تعذيبِ مَنْ يَشاءُ أَظهَرُ مِنَ القُدرةِ في مَغفِرَتِهِ لأنَّه لا إباءَ في المَغفِرةِ مِنَ المَغفورِ، وفي التعذيبِ إباءٌ بيِّنٌ.
قولُه: {واللهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يَقدِرُ على ما ذَكَرَ مِنَ التَعذيبِ والمَغفِرَةِ، والجُملَةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لِمَضمونِ ما قبلَها، ووجهُ الإظهارِ كالنَّهارِ.
وهذه الآيةُ فاضحةٌ للقَدَرِيَّةِ والمُعتزلةِ في قولِهم بِوُجوبِ الرَّحمةِ للمُطيعِ والعذابِ للعاصي، لأنَّ الآيةَ دَالَّةٌ على أنَّ التعذيبَ والرَّحمةَ مُفوضانِ إلى المَشيئةِ والوُجُوبُ يُنافي ذلك.
قولُه تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} ألم تَعْلَمْ: الاستفهامُ هُنا لتقريرِ العِلْمِ وتأكيدِه، والجارُّ والمَجرورُ "لَهُ" خبرٌ مُقدَّمٌ، و"مُلْكُ السموات" مبتدَأٌ، والجُملةُ خبرُ "أنَّ" وهي مع ما في حَيِّزِها سادٌّ مَسَدَّ مفعولَيْ "تَعْلَمْ" عندَ الجُمهورِ؛ وتَكريرُ الإسنادِ لِتَقْوِيَةِ الحُكْمِ.
قوله: {يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} إمَّا تقريرٌ لِكونِ مَلَكوتِ السمواتِ والأرضِ لَه ـ سُبحانَه، وإمَّا خَبَرٌ آخرُ لِـ "أنَّ"