قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} حِينَ نَكَلُوا عَنِ الجِهَادِ ودَعَا مُوسَى عَلَيهِم، ، اسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَ نَبيِّهِ، وَعَاقَبَهُمْ بأنْ قَضَى اللهُ عَلَيْهِمْ بعدمِ دُخُولِ الأرضِ المقدَّسةَ، وبأَنْ يَتِيهُوا فِي الأَرْضِ (أيْ فِي صَحْرَاءِ سِينَاءَ) أربعينَ سَنَةً، فَقد كَانُوا يَسِيرُونَ فِي فَرَاسِخَ قَلِيلَةٍ، قِيلَ: فِي قَدْرِ سِتَّةِ فَرَاسِخَ، يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ فَيُصْبِحُونَ حَيْثُ أَمْسَوْا وَيُمْسُونَ حَيْثُ أَصْبَحُوا، فَكَانُوا سَيَّارَةً لَا قَرَارَ لَهُمْ.
وَاخْتُلِفَ هَلْ كَانَ معهم موسى وهرونُ ـ عليهِما السلامُ ـ أَمْ لا. فَقِيلَ: لَا، لِأَنَّ التِّيهَ عُقُوبَةٌ، وَكَانَتْ سِنُوُّ التِّيِهِ بِعَدَدِ أَيَّامِ الْعِجْلِ، فَقُوبِلُوا عَلَى كُلِّ يَوْمٍ سَنَةً، وَقَدْ قَالَ: "فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ".
وَقِيلَ: كَانَا مَعَهُمْ لَكِنْ سَهَّلَ اللهُ الْأَمْرَ عَلَيْهِمَا كَمَا جَعَلَ النَّارَ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَمَعْنَى "مُحَرَّمَةٌ" عَنْدَ أَكثرِ أَهْلِ التَفْسيرِ، أَيْ أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ دُخُولِهَا، كَمَا يُقَالُ: حَرَّمَ اللهُ وَجْهَكَ عَلَى النَّارِ، وَحَرَّمْتُ عَلَيْكَ دُخُولَ الدَّارِ، فَهُوَ تَحْرِيمُ مَنْعٍ لَا تَحْرِيمَ شَرْعٍ، كما قَالَ امرُؤٌ القيس:
جَالَتْ لِتَصْرَعَنِي فَقُلْتُ لَهَا اقْصُرِي ........ إِنِّي امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْكِ حَرَامُ
أَيْ أَنَا فَارِسٌ فَلَا يُمْكِنُكِ صَرْعِي.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمَ تَعَبُّدٍ. وَيُقَالُ: كَيْفَ يَجُوزُ عَلَى جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَسِيرُوا فِي فَرَاسِخَ يَسِيرَةٍ فَلَا يَهْتَدُوا لِلْخُرُوجِ مِنْهَا؟ فَالْجَوَابُ، قَدْ يَكُونُ ذلك بأنْ يُحَوِّلَ اللهُ الأرضَ التي هُمْ عليْها إذا ناموا فيَرُدَّهم إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَدَؤوا مِنْهُ. وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنِ الِاشْتِبَاهِ وَالْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْخُرُوجِ عَنْهَا عَلَى طَرِيقِ الْمُعْجِزَةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْعَادَةِ. و"أَرْبَعِينَ" هو ظَرْفُ زَمَانٍ لِلتِّيهِ، وحكمةُ ابْتِلائهم بالتِيهِ أنَّهم لمَّا قالوا: {إِنَّا هاهنا قاعدون} المائدة: 24. عُوقِبوا بما يُشْبِهُ القُعودَ، وكان أَربعينَ سَنَةً لأنَّها غايةُ زَمَنٍ يَرْعَوي فيه الجاهل. قال الْحَسَنُ وَقَتَادَةَ: لَمْ يَدْخُلْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا عَلَى "عَلَيْهِمْ". وَقَالَ الرَّبِيعُ ابن أَنَسٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّ "أَرْبَعِينَ سَنَةً" ظَرْفٌ لِلتَّحْرِيمِ، فَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا عَلَى "أَرْبَعِينَ سَنَةً"، فَعَلَى الْأَوَّلِ إِنَّمَا دَخَلَهَا أَوْلَادُهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فيما رُوِيَ عنه: أنَّه لم يَدْخُلْها أحدٌ مِمَّن كان في التِيهِ ولم يَدْخُلْها إلَّا أَبناؤهُم، وأمَّا الآباءُ فماتوا. وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا يُوشَعُ وَكَالِبُ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ يُوشَعُ بِذُرِّيَّاتِهِمْ إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَفَتَحُوهَا. وَعَلَى الثَّانِي، فَمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً دَخَلُوهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ موسى وهرون مَاتَا فِي التِّيهِ. وقَالَ غَيْرُهُ: وَنَبَّأَ اللهُ يُوشَعَ وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ الْجَبَّارِينَ، وَفِيهَا حُبِسَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَفِيهَا أُحْرِقَ الَّذِي وُجِدَ الْغُلُولُ عِنْدَهُ، وَكَانَتْ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِذَا غَنِمُوا نَارٌ بَيْضَاءُ فَتَأْكُلُ الْغَنَائِمَ، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى قَبُولِهَا، فَإِنْ كَانَ فِيهَا غُلُولٌ لَمْ تَأْكُلْهُ، وَجَاءَتِ السِّبَاعُ وَالْوُحُوشُ فَأَكَلَتْهُ، فَنَزَلَتِ النَّارُ فَلَمْ تَأْكُلْ مَا غَنِمُوا فَقَالَ: إِنَّ فِيكُمُ الْغُلُولَ فَلْتُبَايِعْنِي كُلُّ قَبِيلَةٍ فَبَايَعَتْهُ، فَلَصِقَتْ يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِيَدِهِ فقال: عندَك الْغُلُولُ، فَأَخْرَجَ مِثْلَ رَأْسِ الْبَقَرَةِ مِنْ ذَهَبٍ (كقَدْرِهِ أو كَصُورتِه)، فَنَزَلَتِ النَّارُ فَأَكَلَتِ الْغَنَائِمَ. وَكَانَتْ نَارًا بَيْضَاءَ مِثْلَ الْفِضَّةِ لَهَا حَفِيفٌ أَيْ صَوْتٌ مِثْلُ صَوْتِ الشَّجَرِ وَجَنَاحِ الطَّائِرِ فِيمَا يَذْكُرُونَ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ أُحْرِقَ الْغَالُّ وَمَتَاعُهُ بِغَوْرٍ يُقَالُ لَهُ "غَوْرُ عَاجِزٍ"، عُرِفَ بِاسْمِ الْغَالِّ، وَكَانَ اسْمُهُ عَاجِزًا.
وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا عُقُوبَةُ الْغَالِّ قَبْلَنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ فِي مِلَّتِنَا. وَبَيَانُ مَا انْبَهَمَ مِنِ اسْمِ النَّبِيِّ وَالْغَالِّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ لاَ يَتْبَعْنِي رَجُلٌ قَدْ كَانَ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ، وَلا آخَرُ قَدْ بَنَى بِنَاءً لَهُ وَلَمَّا يَرْفَعْ سُقُفَهَا، وَلاَ آخَرُ قَدِ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلاَدَهَا، فَغَزَا فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِلشَّمْسِ: أَنْتِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ شَيْئًا، فَحُبِسَتْ عَلَيْهِ حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ، قَالَ فَجَمَعُوا مَا غَنِمُوا فَأَقْبَلَتِ النَّارُ لِتَأْكُلَهُ فَأَبَتْ أَنْ تَطْعَمَهُ فَقَالَ فِيكُمْ غُلُولٌ فَلْيُبَايِعْني مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ فَبَايَعُوهُ، فَلَصِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ فِيكُمُ الْغُلُولُ فَلْتُبَايِعْني قَبِيلَتُكَ، فَبَايَعَتْ قَبِيلَتُهُ فَلَصِقَ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ أَنْتُمْ غَلَلْتُمْ. قَالَ: فَأَخْرَجُوا لَهُ مِثْلَ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَوَضَعُوهُ فِي الْمَالِ وَهُوَ بِالصَّعِيدِ، فَأَقْبَلَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْه، فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لأَحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا، ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
وَالْحِكْمَةُ فِي حَبْسِ الشَّمْسِ عَلَى يُوشَعَ عِنْدَ قِتَالِهِ أَهْلَ أَرِيحَاءَ وَإِشْرَافِهِ عَلَى فَتْحِهَا عَشِيَّ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَإِشْفَاقِهِ مِنْ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ قَبْلَ الْفَتْحِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تُحْبَسْ عَلَيْهِ حَرُمَ عَلَيْهِ الْقِتَالُ لِأَجْلِ السَّبْتِ، وَيَعْلَمُ بِهِ عَدُوُّهُمْ فَيُعْمِلُ فِيهِمُ السَّيْفَ وَيَجْتَاحُهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ آيَةً لَهُ خُصَّ بِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ نُبُوَّتُهُ ثَابِتَةً بِخَبَرِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عَلَى مَا يُقَالُ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا)) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَطَيَّبَهَا لَنَا)). وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ}. إِنَّهُ تَحْلِيلُ الْغَنَائِمِ وَالِانْتِفَاعُ بِهَا. وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ مُوسَى ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ مَاتَ بِالتِّيهِ عَمْرو بنُ ميمون الأَوْدِيُّ، وزادَ: وهرونُ، وَكَانَا خَرَجَا فِي التِّيهِ إِلَى بَعْضِ الْكُهُوفِ فمات هَرون فَدَفَنَهُ مُوسَى وَانْصَرَفَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: ما فعلَ هَرونُ؟ فَقَالَ: مَاتَ، قَالُوا: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَتَلْتَهُ لِحُبِّنَا لَهُ، وَكَانَ مُحَبًّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَوْحَى اللهُ ـ تَعَالَى ـ إِلَيْهِ أَنِ انْطَلِقْ بِهِمْ إِلَى قَبْرِهِ فَإِنِّي بَاعِثُهُ حَتَّى يُخْبِرَهُمْ أَنَّهُ مَاتَ مَوْتًا وَلَمْ تَقْتُلْهُ، فَانْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى قَبْرِهِ فنادى يا هرونُ، فَخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ يَنْفُضُ رَأْسَهُ فَقَالَ: أَنَا قَاتِلُكَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي مُتُّ، قَالَ: فَعُدْ إِلَى مَضْجَعِكَ، وَانْصَرَفَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ مُوسَى لَمْ يَمُتْ بِالتِّيهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ مُوسَى فَتَحَ أَرِيحَاءَ، وَكَانَ يُوشَعُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ فَقَاتَلَ الْجَبَابِرَةَ الَّذِينَ كَانُوا بِهَا، ثُمَّ دَخَلَهَا مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَقَامَ فِيهَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُقِيمَ، ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ لَا يَعْلَمُ بِقَبْرِهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ.
وقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ قَالَ: ((أُرْسِلَ مَلَكُ الموتِ إلى موسى ـ عليْه الصلاةُ والسلامُ ـ فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: "أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ" قَالَ: فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ: "ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ" قَالَ: أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَهْ"، قَالَ: "ثُمَّ الْمَوْتُ" قَالَ: "فَالْآنَ"، فَسَأَلَ اللهَ أنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ)). فَهَذَا نَبِيُّنَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَدْ عَلِمَ قَبْرَهُ وَوَصَفَ مَوْضِعَهُ، وَرَآهُ فِيهِ قَائِمًا يُصَلِّي كَمَا فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخْفَاهُ اللهُ عَنِ الْخَلْقِ سِوَاهُ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِئَلَّا يُعْبَدَ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَيَعْنِي بِالطَّرِيقِ طَرِيقَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ مَكَان الطَّرِيقِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ لَطْمِ مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ المَوْتِ وفَقْئِها عَلَى أَقْوَالٍ، مِنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ عَيْنًا مُتَخَيَّلَةً لَا حَقِيقَةً، وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنَّ مَا يَرَاهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ صُوَرِ الْمَلَائِكَةِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ عَيْنًا مَعْنَوِيَّةً وَإِنَّمَا فَقَأَهَا بِالْحُجَّةِ، وَهَذَا مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ لَمْ يَعْرِفْ مَلَكَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ رَأَى رَجُلًا دَخَلَ مَنْزِلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ يُرِيدُ نَفْسَهُ فَدَافَعَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَطَمَ عَيْنَهُ فَفَقَأَهَا، وَتَجِبُ الْمُدَافَعَةُ فِي هَذَا بِكُلِّ مُمْكِنٍ. وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ، لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَيْنِ وَالصَّكِّ، قَالَهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ خُزَيْمَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِمَا فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ لَمَّا رَجَعَ إِلَى اللهِ تَعَالَى قَالَ: "يَا رَبِّ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ" فَلَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ مُوسَى لَمَا صَدَقَ الْقَوْلُ مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: "أَجِبْ رَبَّكَ" يَدُلُّ عَلَى تَعْرِيفِهِ بِنَفْسِهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ مُوسَى ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ كان سريعَ الغَضَبِ، إذا غَضِبَ طَلَعَ الدُّخَانُ مِنْ قَلَنْسُوَتِهِ وَرَفَعَ شَعْرُ بَدَنِهِ جُبَّتَهُ، وَسُرْعَةُ غَضَبِهِ كَانَتْ سَبَبًا لِصَكِّهِ مَلَكَ الْمَوْتِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا كَمَا تَرَى، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمُ ابْتِدَاءُ مِثْلِ هَذَا فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ. وَمِنْهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: أَنَّ مُوسَى ـ عليه الصلاةُ والسَّلامُ ـ عَرَفَ مَلَكَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ جَاءَ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ لكنَّه جاءَ مَجيءَ الجازِمِ بِأَنَّهُ قَدْ أُمِرَ بِقَبْضِ رُوحِهِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ، وَعِنْدَ مُوسَى مَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مِنْ ((أَنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ رُوحَ نَبِيٍّ حَتَّى يخيِّرُهُ)) فَلَمَّا جَاءَهُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي أُعْلِمَ، بَادَرَ بِشَهَامَتِهِ وَقُوَّةِ نَفْسِهِ إِلَى أَدَبِهِ، فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ امْتِحَانًا لِمَلَكِ الْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ بِالتَّخْيِيرِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا، أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فخيَّرَهُ بيْنَ الحياةِ والمَوْتِ اختارَ الموتَ وَاسْتَسْلَمَ لأمرِ ربِّه. وَاللهُ بِغَيْبِهِ أَحْكَمُ وَأَعْلَمُ. وهَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي وَفَاةِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ قِصَصًا وَأَخْبَارًا اللهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، وَفِي الصَّحِيحِ غُنْيَةٌ عَنْهَا. وَكَانَ عُمْرُ مُوسَى مِئَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَيُرْوَى أَنَّ يُوشَعُ رَآهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ وَجَدْتَ الْمَوْتَ؟ فَقَالَ: "كَشَاةٍ تُسْلَخُ وَهِيَ حَيَّةٌ". وَهَذَا صَحِيحٌ مَعْنًى، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ)).
وَقَوْلُهُ: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ} فَلا تَأْسَ: أَيْ لَا تَحْزَنْ لِمَوْتِهم، أوْ لِما أَصابَهم فيه مِنَ الأسى وهو الحُزْنُ "عَلَى القوم الفاسقين" الذين اسْتُجيبَ لَكَ في الدُعاءِ عليهم لِفِسْقِهم؛ فالخِطابُ لِموسى ـ عليه السلامُ ـ كما هو الظاهرُ، وإليْه ذَهَبَ أَجِلَّةُ المُفَسِّرين. وقال الزَجَّاجُ: إنَّه للنَبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ، والمُرادُ بالقومِ الفاسقين مُعاصِروهُ مِنْ بَني إسرائيلَ كأنَّه قيلَ: هذه أفعالُ أَسلافِهم فلا تَحْزَنْ أنتَ بِسَبَبِ أفعالِهِمُ الخَبيثةِ معكَ ورَدِّهم عليكَ فإنَّهم ورِثوا ذلكَ عنهم. وَالْأَسَى الْحُزْنُ، قَالَ امْرؤُ القيس:
وقوفًا بها صَحبي عليَّ مَطِيّهم: ............ يَقُولُونَ لَا تهلِكْ أَسًى وتَجَمَّلِ
والأَسى: الحُزْنُ، يُقالُ: أَسِيَ ـ بكَسْرِ العينِ ـ يَأْسَى، بفتْحِها. ولامُ الكلمةِ تَحْتَمِلُ أنْ تَكونَ مِنْ واوٍ، وهو الظاهرُ لقولِهم: "رَجُلٌ أَسْوانُ" بِزِنَةِ سَكْران، أي: كثيرُ الحُزْنِ، وقالوا في تَثْنِيَةِ الأسى: أَسَوان، وإنَّما قُلِبَتْ الواوُ في "أَسِيَ" ياءً لانكسارِ ما قبلَها، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكونَ ياءً فقد حُكي "رجلٌ أسْيان" أيْ: كثيرُ الحُزْنِ، فتَثْنِيَتُهُ على هذا "أَسَيان".
وللتوفيقِ بين قولِه تعالى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} وبين قولِه: {الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} وجهان، أحدُهما: أنْ يَكونَ كَتَبها لهم بشرطِ أنْ يُجاهِدوا فلم يُجاهِدوا، والثاني: أنَّ التحريمَ كان مؤقَّتًا بِمُدَّةِ الأَربعين، فلمَّا انتهتْ دَخَلُوها.
قولُه تعالى: {أَرْبَعِينَ سَنَةً} هو منصوبٌ إمَّا بـ "مُحَرَّمة" فإنَّه رُويَ في القِصَّةِ أنَّهم بَعدَ الأربعين دَخَلوها فيكون قد قَيَّدَ تحريمَها عليهم بهذه المُدَّةِ، وأَخبَرَ أنَّهم يَتِيهون، ولمْ يُبيِّنْ كميَّةَ التِيهِ، وعلى هذا ففي "يتيهون" احْتمالان، أَحَدُهُما: أنَّه مُستأنَفٌ. أوْ هو مَنْصوبٌ على أنَّه حالٌ مِنَ الضَميرِ في "عليهم"، هذا وجهٌ. وثمَّةَ وجهٌ آخرُ وهو: أنَّ "أربعين" منصوبٌ بـ "يَتيهون" فيكونُ قدْ قَيَّدَ التِيهَ بالأربعينَ، وأمَّا التحريمُ فمُطْلَقٌ، فيُحتَمَلُ أنْ يَكونَ مُسْتَمِرًّا وأنْ يكونَ منقطعًا، وأنَّها أُجِّلتْ لهم، وقدْ قيلَ بِكُلٍّ مِنَ الاحْتماليْن.
وَأَصْلُ التِّيهِ فِي اللُّغَةِ الْحَيْرَةُ، يُقَالُ مِنْهُ: تَاهَ يَتِيهُ تَيْهًا و"هو أَتْيَهُ منه" و"تاه يَتُوهُ" تَوْهًا و"هو أتْوَهُ منْه"، وَتاه إِذَا تَحَيَّرَ. وَتَيَّهْتُهُ وَتَوَّهْتُهُ بِالْيَاءِ وَالْوَاوِ، وَالْيَاءُ أَكْثَرُ. وَالْأَرْضُ التَّيْهَاءُ الَّتِي لَا يُهْتَدَى فِيهَا، وَأَرْضٌ تِيهٌ وَتَيْهَاءُ، سُمِعَ في عينِه الوَجهان، وأنَّ فيه التداخلَ أيضًا، ومثلُه "طاح" فإنَّ مَنْ قال "يطيح" قال "طَوَّحتْه" و"هو أَطْوَحُ منْه". ومنها قولُ العَجَّاجِ يَصِفُ أَرْضًا مجهولةً ليس بها علاماتٌ يُهْتَدى بها:
تِيهٌ أَتَاوِيهُ عَلَى السُّقَّاطِ ........................... وبَسْطُه بِسَعَةِ البِساطِ
أَتاويهُ: على وَزْنِ "أَفاعيلُ" مِن تَيَهَ. والسُّقَاطُ كلُّ مَنْ سَقَطَ عليْه، وهمُ الذين لا يَصبِرون ولا يَجِدون، والواحدُ ساقطٌ، والبِساطُ المَكانُ الواسِعُ مِنَ الأرضِ. وقبلَه:
وبَلدةٌ بَعيدةُ النِياطِ ........................ مَجهولَةٌ تَغْتَالُ خَطْوَ الخاطي
وَقَالَ ابنُ أحمرَ، وهو شاعرٌ إسلامي مُخضرَم:
بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا ........... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا
وقبلَه:
أَلَا ليتَ شِعري هَلْ أَبِيتَنَّ لَيلَةً .... صحيحَ السُرى والعيسُ تَجري عَروضُها
يقالُ: نَاقَةٌ عَرُوضٌ، إِذَا قَبِلَتْ بَعْضَ الرِّيَاضَةِ ولم تَسْتَحْكِم. ومِنَ
المَجَازِ: العَرُوضُ: مِيزَانُ الشِّعْرِ.
لقد صوَّرتْ لنا هذه الآيةُ الكَريمَةُ ما جُبِلَ عليْه بَنو إسرائيلَ مِنْ جُبْنٍ شَديدٍ، وعَزيمةٍ خَوَّارَةٍ، وعِصْيانٍ لِرُسُلِهم. وإيثارٍ للذِلَّةِ مَعَ الرَّاحةِ على العِزَّةِ مَعَ الجِهادِ وهي تَحْكي بأسلوبِها البَليغِ قصَّةً تاريخيَّةً مَعروفةً.