الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ. (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ} أَيْ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} و"الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ" فَأَعَادَ تَأْكِيدًا أَيْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ الَّتِي سألتم عنها، وليستِ الطَّيِّبُ ما تستطيبُه النُفوسُ، ولكنَّ الطَيِّبَ ما يوجَدُ فيه رضاءُ الحقِّ ـ سبحانَه ـ فتوجَدُ عند ذلك راحةُ القلوبِ. والظاهرُ أنَّ هذه الآيةَ وما قبلَها مِنْ آياتٍ، مِنْ قولِه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكَمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} نَزَلَتْ في يومٍ واحدٍ؛ ولذلك كان قولُه "الْيَوْمَ أُحِلَّ" إلى آخره . . هو ذاتُ اليومِ في قولِه تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ}، وقولِه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى. . .} فهو يومٌ واحدٌ؛ لأنَّ المَعرِفَةَ إذا أُعيدتْ معرفةً كان المقصودُ واحدًا، وهذا الكلامُ السامي كلُّه نَزَلَ يومَ عَرَفَة، وهو تَسجيلٌ لأَحكامٍ باقيَةٍ إلى يومِ القيامةِ، وكانتِ الطَّيِّبَاتُ أُبِيحَتْ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَهَذَا جَوَابُ سُؤَالِهِمْ إِذْ قَالُوا: مَاذَا أُحِلَّ لَنَا؟. وَقِيلَ: أَشَارَ بِذِكْرِ الْيَوْمِ إِلَى وَقْتِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا يُقَالُ: هَذِهِ أَيَّامُ فُلَانٍ، أَيْ هَذَا أَوَانُ ظُهُورِكُمْ وَشُيُوعِ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ أَكْمَلْتُ بِهَذَا دِينَكُمْ، وَأَحْلَلْتُ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الطَّيِّبَاتِ فِي الْآيَةِ قَبْلَ هَذَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ} الطَّعَامُ اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ وَالذَّبَائِحُ مِنْهُ، وَهُوَ هُنَا خَاصٌّ بِالذَّبَائِحِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّأْوِيلِ. وَأَمَّا مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا مِنْ طَعَامِهِمْ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ تَحْتَ عُمُومِ الْخِطَابِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ قَالَ اللهُ ـ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الأنعام: 121، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: "وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ" يَعْنِي ذَبِيحَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، وَإِنْ كَانَ النَّصْرَانِيُّ يَقُولُ عِنْدَ الذَّبْحِ: بِاسْمِ الْمَسِيحِ وَالْيَهُودِيُّ يَقُولُ: بِاسْمِ عُزَيْرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَذْبَحُونَ عَلَى الْمِلَّةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: كُلْ مِنْ ذَبِيحَةِ النَّصْرَانِيِّ وَإِنْ قَالَ بِاسْمِ الْمَسِيحِ، لِأَنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ قَدْ أَبَاحَ ذَبَائِحَهُمْ، وَقَدْ عَلِمَ مَا يَقُولُونَ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ: كُلْ مِنْ ذَبِيحَتِهِ وَإِنْ قَالَ بِاسْمِ جرْجِسَ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَمَكْحُولٍ، وَرُوِيَ عن صحابِيَّيْن: عن أبي الدرداء وعبادة ابن الصَّامِتِ. وهو قولُ عامَّةِ التابعين، وبِهِ أخَذَ أبو حنيفةَ النعمان ـ رضي اللهُ عنه ـ وأصحابُه. وحُكمُ الصابئينَ حُكْمُ أهلِ الكِتابِ عندَه، وقال صاحباه (محمَد وأبو يوسف) الصابئةُ صِنْفان: صنفٌ يَقرؤون الزَّبورَ ويَعْبُدون المَلائكةَ، وصِنْفٌ لا يَقرؤون كتابًا ويَعبُدون النُّجومَ، فهؤلاء لَيْسوا مِنْ أهلِ الكِتابِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِذَا سَمِعْتَ الْكِتَابِيَّ يُسَمِّي غَيْرَ اسْمِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فَلَا تَأْكُلْ، وَقَالَ بِهَذَا مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَعَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ ـ رضي اللهُ عنهم، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَالْحَسَنِ مُتَمَسِّكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} الأنعام: 121. وَقَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُحَرِّمْهُ. فقَدْ حَكَمَ اللهُ بِحِلِّ ذَبَائِحِهِمْ مُطْلَقًا، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ على أنَّ التَّسْمِيَةَ لَا تُشْتَرَطُ أَصْلًا كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَكَاةٍ كَالطَّعَامِ الَّذِي لَا مُحَاوَلَةَ فِيهِ كَالْفَاكِهَةِ وَالْبُرِّ جَائِزٌ أَكْلُهُ، إِذْ لَا يَضُرُّ فِيهِ تَمَلُّكُ أَحَدٍ. وَالطَّعَامُ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ مُحَاوَلَةٌ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا فِيهِ مُحَاوَلَةُ صَنْعَةٍ لَا تَعَلُّقَ لِلدِّينِ بِهَا، كَخَبْزِ الدَّقِيقِ، وَعَصْرِ الزَّيْتِ وَنَحْوِهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: هِيَ التَّذْكِيَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى الدِّينِ وَالنِّيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ الْقِيَاسُ أَلَّا تَجُوزَ ذَبَائِحُهُمْ ـ كَمَا نَقُولُ إِنَّهُمْ لَا صَلَاةَ لَهُمْ وَلَا عِبَادَةَ مَقْبُولَةٌ ـ رَخَّصَ اللهُ تَعَالَى فِي ذَبَائِحِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَخْرَجَهَا النَّصُّ عَنِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِيمَا ذَكَّوْهُ هَلْ تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِيمَا حُرِّمَ عليهم أو لا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا عَامِلَةٌ فِي كُلِّ الذَّبِيحَةِ مَا حَلَّ لَهُ مِنْهَا وَمَا حُرِّمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُذَكًّى. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّمَا حَلَّ لَنَا مِنْ ذَبِيحَتِهِمْ مَا حَلَّ لَهُمْ، لِأَنَّ مَا لَا يَحِلُّ لَهُمْ لَا تَعْمَلُ فِيهِ تَذْكِيَتُهُمْ، فَمَنَعَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الطَّرِيفَ، وَالشُّحُومَ الْمَحْضَةَ مِنْ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَصَرَتْ لَفْظَ الطَّعَامِ عَلَى الْبَعْضِ، وَحَمَلَتْهُ الْأُولَى عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ مَا يُؤْكَلُ. وَهَذَا الْخِلَافُ مَوْجُودٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَكَرِهَ مَالِكٌ شُحُومَ الْيَهُودِ وَأَكْلَ مَا نَحَرُوا مِنَ الْإِبِلِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأْسًا، وَكَانَ مَالِكٌ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ يَكْرَهُ مَا ذَبَحُوهُ إِذَا وُجِدَ مَا ذَبَحَهُ الْمُسْلِمُ، وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَسْوَاقٌ يَبِيعُونَ فِيهَا مَا يَذْبَحُونَ، وَهَذَا مِنْهُ تَنَزُّهٌ.
وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَالْعُلَمَاءُ مُجْمِعُونَ ـ إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ ـ عَلَى أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ لَا تُؤْكَلُ وَلَا يُتَزَوَّجُ مِنْهُمْ، فقد سُنَّ بِهم سُنَّةَ أهلِ الكِتابِ في أخْذِ الجِزْيَةِ منهم دون أكلِ ذبائحِهم ونِكاحِ نِسائهم، لقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ: ((سِنُّوا بهم سُنَّةَ أهلِ الكِتابِ غيرَ ناكحِي نِسائهم ولا آكلِي ذبائحِهم)). رَواهُ الشافعيُّ والإمامُ مالكٌ. عن عبدِ الرحمنِ بْنِ عَوْفٍ ـ رضيَ اللهُ عنهم. لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. ومثلُهُم الدروز والنُصيْريَّة (العلوية) والإسماعيلية. فقد نُصَّ على تحريم ذبيحتهم والزواج منهم وتزويجهم في حاشية ابن عابدين ورد المحتار والفقه على المذاهبِ الأَرْبَعة، فإنَّهم في البِلادِ الشاميَّةِ يُظهِرون الإسلامَ والصَوْمَ والصَلاةَ معَ أنَّهم يَعتقدون تَناسُخَ الأَرواحِ وحِلَّ الخَمْرِ والزِنا وأنَّ الأُلوهيَّةَ تَظهرُ في شخصٍ بعدَ شخصٍ، والحَشْرُ والصَوْمُ والصَلاةُ والحَجُّ يقولونَ المُسَمَّى بِهِ غيرَ المَعنى المُرادِ ويَتَكَلَّمونَ في جَنَابِ نَبِيِّنا كلماتٍ فَظيعةً. وَنَقَلَ عَنْ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ إقْرَارُهُمْ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ بِجِزْيَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَلَا ذَبَائِحُهُمْ، وللعلّامَةِ المُحَقِّقِ عبد الرحمن العِمادي فيهم فتْوى مُطوَّلة وذَكر فيها أنَّهم يَنْتَحِلون عَقائدَ النُصَيْرِيَّةِ والإسْماعيليَّةِ الذين يُلَقَّبون بالقَرامِطَةِ والباطِنِيَّةِ الذين ذَكَرَهمْ صاحبُ (المَواقف). وكان الشيخُ تقيُّ الدينِ بْنُ تَيْمِيةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ تعالى ـ يَرى أنَّ قتالَهم أَوْلى مِنْ قتالِ الأرْمَنِ، لأنَّهم أَعداءٌ في دارِ الإسلامِ وشَرُّ بَقائهم أَضَرّ.
ولا بأسَ بأَكلِ طَعَامِ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ كَالْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذَكَاةٍ، إِلَّا الْجُبْنَ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِنْفَحَةِ (كرشُ الحَمَلِ أوِ الجَدْيِ ما لم يَأْكُلْ يُستَخْرجُ منْه مادةٌ صفراءُ اللونِ تُوضع على اللَّبَنِ فيَتَجَبَّنُ) الْمَيْتَةِ. فَإِنْ كَانَ أَبُو الصَّبِيِّ مَجُوسِيًّا وَأُمُّهُ كِتَابِيَّةٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَبِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الصَّبِيِّ إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مِمَّنْ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ.
وَأَمَّا ذَبِيحَةُ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ وَذَبَائِحُ كُلِّ دَخِيلٍ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ فَكَانَ عَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ يَنْهَى عَنْ ذَبَائِحِ بَنِي تَغْلِبَ، لِأَنَّهُمْ عَرَبٌ، وَيَقُولُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِشَيْءٍ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ يُنْهَى عَنْ ذَبَائِحِ النَّصَارَى الْمُحَقَّقِينَ مِنْهُمْ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ: إِنَّ ذَبِيحَةَ كُلِّ نَصْرَانِيٍّ حَلَالٌ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودِيُّ. وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ ـ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} المائدة: 51، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ بَنُو تَغْلِبَ مِنَ النَّصَارَى إِلَّا بِتَوَلِّيهِمْ إِيَّاهُمْ لَأُكِلَتْ ذَبَائِحُهُمْ. وَلَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالطَّبْخِ فِي آنِيَةِ الْكُفَّارِ كُلِّهِمْ، مَا لَمْ تَكُنْ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ جِلْدَ خِنْزِيرٍ بَعْدَ أَنْ تُغْسَلَ وَتُغْلَى، لِأَنَّهُمْ لَا يَتَوَقَّوْنَ النَّجَاسَاتِ وَيَأْكُلُونَ الْمَيْتَاتِ، فَإِذَا طَبَخُوا فِي تِلْكَ الْقُدُورِ تَنَجَّسَتْ، وَرُبَّمَا سَرَتِ النَّجَاسَاتُ فِي أَجْزَاءِ قُدُورِ الْفَخَّارِ، فَإِذَا طُبِخَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ تُوُقِّعَ مُخَالَطَةُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ النَّجِسَةِ لِلْمَطْبُوخِ فِي الْقِدْرِ ثَانِيَةً، فَاقْتَضَى الْوَرَعُ الْكَفَّ عَنْهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ الْإِنَاءُ مِنْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ غُسِلَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ فَخَّارٍ أُغْلِيَ فِيهِ الْمَاءُ ثُمَّ غُسِلَ ـ هَذَا إِذَا احْتِيجَ إِلَيْهِ ـ وَقَالَهُ مَالِكٌ، فَأَمَّا مَا يَسْتَعْمِلُونَهُ لِغَيْرِ الطَّبْخِ فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ، لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُمَرَ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ بَيْتٍ نَصْرَانِيٍّ فِي حُقٍّ (آنيةٌ من خشبٍ) نَصْرَانِيَّةٍ، وَهُوَ صَحِيحٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ كِتَابٍ نَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ، وَأَرْضِ صَيْدٍ، أَصِيدُ بِقَوْسِي وَأَصِيدُ بِكَلْبِيَ الْمُعَلَّمِ، وَأَصِيدُ بِكَلْبِيَ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، فَأَخْبِرْنِي مَا الَّذِي يَحِلُّ لَنَا مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: ((أَمَّا مَا ذكرت أَنَّكُمْ بِأَرْضِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ كِتَابٍ تَأْكُلُونَ فِي آنِيَتِهِمْ فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَ آنِيَتِهِمْ فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا ثُمَّ كُلُوا فِيهَا)). ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: {وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِتَفَاصِيلَ شَرْعِنَا، أَيْ إِذَا اشْتَرَوْا مِنَّا اللَّحْمَ يَحِلُّ لَهُمُ اللَّحْمُ وَيَحِلُّ لَنَا الثَّمَنُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ. والحلالُ مِنْ طعامِ أهلِ الكتابِ هُو ما كان مِنْ جنسِ ما حَلَّلَ اللهُ لنا، فيَجِبُ ألّا يَسْتَنْكِفَ الإنسانُ عنْ طعامِ أهلِ الكتابِ؛ لأنَّ الحقَّ ـ سبحانه وتعالى ـ يُريدُ أنْ يَجعَلَ بين مَنِ ارْتبطَوا بالسَماءِ نوعًا مِنَ الاتِّصالِ، ويَجبُ أنْ يُعامَلوا على قَدْرِ ما دَخَلَهم مِنْ إيمانٍ باتِّصالِ الأرضِ بالسَماءِ، ويُريدُ اللهُ أنْ يُنشئَ شيئًا مِنَ الأُلفةِ يَتَناسَبُ مَعَ الناسِ الذينَ سَبَقَ أنَّ السماءَ لها تشريعٌ فيهم ويَعترِفون بالإلهِ وإنْ اخْتَلفوا في تَصوُّرِه.
ففي أوَّلِ مَجيءِ الإسلامِ، قامتِ الحربُ بيْن الفُرْسِ والرومِ، وكانتِ الغَلَبَةُ فيها للفرسِ. فكانتْ عَواطِفُ الرَّسولِ والذينَ آمنوا معَهُ مَعَ الرُّومِ؛ لأنَّهم أَقرَبُ إلى مُعَسْكَرِ الإيمانِ، وإنْ كانوا يَكْفرون بِمُحَمَّدٍ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ فقد كانوا يؤمنون بالله، ولذلك نجد الذين يؤمنون بالله ويكفرون بِه كَرَسولٍ أَوْلى عندَه ممّن يَكفُرونَ بالله. يقولُ ـ سبحانه: {الم * غُلِبَتِ الروم * في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العزيزُ الرَّحيمُ}. ومَنِ الذي يَستطيعُ أنْ يَحكُم في نهايةِ معركةٍ بيْن قوَّتيْن عَظيمتين؟ غيرُ الذي يَستطيعُ أنْ يَتَحَكم في مُجرياتها ـ سبحانَه وتعالى: {وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ}. وعندما سَمِعَ أبو بَكْرٍ الصِّديقُ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ هذه الآيةَ، قال لقد أقمتُ رِهانًا معَ أبيٍّ بنِ خَلَفٍ بأنَّ الرومَ سَتَنْتَصِرُ بعدَ ثلاثِ سِنين، فطالَبَه الرَّسولُ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ أنْ يَمُدَّ مُدَّةَ الرِّهانِ لأنَّ اللهَ قال: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} والبِضْعُ ما بَيْنَ الثلاثِ إلى التِسْعِ، ولذلك قال النبيُّ له: ((فزايِدْهُ في الخَطَرِ ومادَّهُ في الأَجَلِ)). فجُعِلتْ مئةَ قَلوصٍ (ناقة) ـ بَدَلاً مِنْ عَشْرٍ ـ إلى تِسْعِ سِنين.
قَوْلُهُ: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قولُه فيها: مَنْ هُوَ عَلَى الْعَهْدِ دُونَ دَارِ الْحَرْبِ فَيَكُونُ خَاصًّا. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجُوزُ نِكَاحُ الذِّمِّيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ لِعُمُومِ الْآيَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "الْمُحْصَناتُ" الْعَفِيفَاتُ الْعَاقِلَاتُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ أَنْ تُحْصِنَ فَرْجَهَا فَلَا تَزْنِي، وَتَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الْمُحْصَناتُ" الْحَرَائِرُ، وذهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ إِمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ} النساء: 25. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ جُلَّةُ الْعُلَمَاءِ.
ورُويَ أنَّ ثوابَ الرجلِ معَ الزَّوْجةِ المُؤمِنَةِ أَفضلُ مِن ثوابِهِ مَعَ الزَّوْجَةِ الكِتابيَّةِ، ورُويَ أنَّ الرجلَ إذا قبَّل زوجتَه المؤمنَةَ، كُتِبَ لَه عِشْرونَ حَسَنَةً، وإذا جامَعَها كُتِبَ له عِشرون ومئةُ حَسَنَةً، فإذا اغْتَسَلَ مِنْها، لَمْ يَمُرَّ الماءُ بِشَعرةٍ مِنْ جَسَدِهِ إلَّا كُتِبتْ لهُ عَشْرُ حَسَناتٍ ومُحِيَ عنْه عَشْرُ سَيِّئاتٍ، وباهى اللهُ بِه المَلائكةَ فقالَ: انْظُروا إلى عبْدي قام في ليلةٍ قَرَّةٍ (باردةِ) يَغتَسِلُ مِنْ خَشْيَتي، ورَأَى أنَّ ذلكَ حقٌّ لي عليه، اشْهَدوا يا مَلائكتي أَنِّي قَدْ غَفرتُ لَه.
ورُويَ أنَّ المَرأةَ لا تَضَعُ شَيئًا مِنْ بَيْتِ زَوْجِها، تُريدُ بِذلك إصْلاحَهُ، ولا تَرْفَعُهُ إلَّا كُتِبَ لها عَشْرُ حَسَناتٍ ومُحِيَ عنْها عَشْرُ سَيِّئاتٍ، فإذا حَمَلَتْ ثمَّ طَلَقَتْ، فلَها بِكُلِّ طَلْقَةٍ كأنَّما أَعْتَقَتْ نَسَمَةً مِنْ وَلَدِ إسْماعيلَ خيرَ النَسَمِ، فإذا أَرْضَعَتْ كان لها بِكُلِّ مَصَّةٍ عَشْرُ حَسَناتٍ ومُحِيَ عنْها عَشْرُ سَيِّئاتٍ، فإذا أَفْطَمَتْهُ نادى مُنادٍ مِنَ السَماءِ: أَيَّتُها المَرْأةُ قدْ غُفِرَ لكِ فاسْتَأْنِفي العَمَلَ.
قولُه: {إذا آتَيْتُموهُنَّ أُجورَهُنَّ} أي مُهورَهُنَّ وهو العِوَضُ الذي يَبْذُلُه الزَوْجُ للمرأةِ، وهذا الشَرْطُ بَيانٌ للأكْمَلِ والأَوْلى، لا لِصِحَّةِ العَقْدِ إذْ لا تَتوقَّفُ على دَفعِ المَهْرِ ولا على الْتِزامِه، كما لا يَخفى.
قولُه: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} محصنين: أيْ حالَ كونِكم أعِفَّاءَ بالنِّكاحِ وكذا قولُه: "غيرَ مُسافحين} أيْ غيرَ مُجاهرينَ بالزِنا، فلا تَجُوزُ صُحْبَتُهُنَّ بغيرِ نِكاحٍ تعظيمًا لأَمْرِ السِّفاحِ، وتَنبيهًا على وُجوبِ مُراعاة الأمْرِ مِنَ الحَقِّ.
وقولُه: {وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} الخِدانُ يَقَعُ على الذَّكرِ والأنْثى، وهو الصَديقُ في السِرِّ، والجمعُ أَخدان، أيْ غيرَ متخذين منهنَّ مَعشوقاتٍ، فقدَ شَرَطَ اللهُ في الرِجالِ العِفَّةَ وعدَمَ المُجاهَرَةِ بالزِنا، وعدمَ اتِّخاذِ أَخْدانٍ كما شَرَطَ في النِّساءِ أنْ يَكُنَّ مُحْصَناتٍ. وإذا لَمْ يَجُزْ تَعَلُّقُ قَلبِكَ بسوى اللهِ مِنَ المُؤمِنين على وَجْهِ المُخادَنَةِ فمَتى يَسْلَمُ ذَلك مَعَ الكفَّارِ الذينَهم أعْداءُ؟
قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} المُرادُ بالكُفرِ هُنا الارْتِدادُ. قِيلَ: لَمَّا قال ـ تعالى: "الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ" قَالَ نِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ: لَوْلَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى رَضِيَ دِينَنَا لَمْ يُبِحْ لَكُمْ نِكَاحَنَا، فَنَزَلَتْ "وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ" أَيْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ. أَيْ وَمَنْ يَكْفُرُ الْإِيمَانَ أَيْ يَجْحَدُهُ. قِيلَ: لَمَّا ذُكِرَتْ فَرَائِضُ وَأَحْكَامٌ يَلْزَمُ الْقِيَامُ بِهَا، ذُكِرَ الْوَعِيدُ عَلَى مُخَالَفَتِهَا، فقال: "فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ" لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَأْكِيدِ الزَّجْرِ عَنْ تَضْيِيعِهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ الْمَعْنَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ، قَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَمَعْنَاهَا بِرَبِّ الْإِيمَانِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى الله إيمانا خلافًا للحَشويَّةِ والسالِميَّةِ، لأنَّ الْإِيمَانَ مَصْدَرُ آمَنَ يُؤْمِنُ إِيمَانًا، وَاسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُ مُؤْمِنٌ، وَالْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ، وَالتَّصْدِيقُ لَا يَكُونُ إِلَّا كَلَامًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَارِي ـ تعالى ـ كلامًا.
قولُه: {وهو في الآخرةِ مِنَ الخاسرين) إذا ماتَ عليْه، و"الخاسرين" الهالكين، وهو تَذييلٌ لقولِه ـ تعالى: "اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيِّباتُ" الخ تعظيمًا لِشَأنِ ما أَحَلَّه اللهُ ـ تَعالى ـ وما حرَّمَه، وتغليظًا على مَنْ خالَفَ ذلك.
قولُه تعالى: {اليومَ أُحِلَّ لَكُمُ} الكَلامُ فيه كالكَلامِ فيما قبله. وزَعَمَ قومٌ أنَّ المُرادَ بثلاثةِ الأيامِ المَذكورةِ هنا وقتٌ واحدٌ، وإنَّما كرَّرَه توكيدًا، ولاخْتِلافِ الأَحداثِ الواقعةِ فيه حَسُنَ تَكريرُه. وادَّعى بعضُهم أنَّ في الكلامِ تقديمًا وتأخيرًا، وأنَّ الأَص: "فاذْكروا اسمَ اللهِ عليْه وكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْن عليكم" وهذا يُشْبه قولَ مَنْ يعيدُ الضميرَ على الجوارحِ المُرسَلَةِ.
قولُه: {وَطَعَامُ الذين أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لكم} طَعَامُ: مُبتَدأٌ، وخبرُه "حِلٌّ لكم" وأَبْرَزَ الإِخْبارَ بذلك في جُملةٍ اسْمِيَّةٍ اعْتِناءً بالسؤالِ عنْه. وقيل يجوزُ أنْ يَكونَ مَرفوعًا عَطفًا على مَرْفوعٍ لَمْ يُسَمَّ فاعلُه وهو "الطيبات" وقولُه "حِلٌّ لكم" خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، وهذا يَنْبغي ألاَّ يجوزَ البَتَّةَ لِتقديرِ ما لا يُحْتاجُ إليْه مَعَ ذَهابِ بَلاغةِ الكَلامِ.
وقولُه: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} مُبتَدَأٌ وخبرٌ.
قولُه: {والمحصنات} مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ، أيْ: المُحْصَنات حِلُّ لكم أيضًا، وهذا هو الظاهرُ. واختار أبو البقاء أنْ يكونَ معطوفاً على "الطيبات" فإنه قال: "مِن المؤمنات" حالٌ من الضمير في "المُحْصَنات" أو مِنْ نفسِ "المحصنات" إذا عَطَفَتْها على "الطيبات" و"حِلٌّ": مصدرٌ بمَعنى الحالِ، فلِذلك لم يُوَنَّثْ، ولمْ يُثَنَّ ولم يُجْمع، لأنَّه أحسنُ الاسْتِعماليْن في المَصادِرِ الواقِعَةِ صِفَةً للأعْيانِ، ويُقالُ في الإِتْباعِ: "حِلُّ بِلُّ" وهو كقولهم: "حَسَن بَسَن" و"عَطْشان نَطْشان".
وقولُه: {من المؤمنات} حالٌ كما تقدَّم: إمَّا مِنَ الضَميرِ في "المُحصنات" أو مِنَ "المُحصنات". وقد تقدَّمَ الكلامُ في اشْتِقاقِ هذِه اللَّفظةِ واخْتِلافِ القُرَّاءِ فيها في سورةِ النِّساءِ.
قولُه: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ} ظرفٌ العاملُ فيه أحدُ شيئيْن: إمَّا "أُحِلَّ" وإمَّا "حِلُّ" المَحذوفُ على حَسَب ما قُرِّرَ. والجملةُ بعدَه في مَحَلِّ خَفْضٍ بإضافتِه إليْها، وهي هُنا لِمُجَرَّدِ الظَرْفيَّةِ. ويَجوزُ أنْ تَكونَ شَرْطِيَّةً وجوابُها محذوفٌ، أيْ: إذا آتيْتُموهُنَّ أُجورَهُنَّ حَلَلْنَ لَكُمْ، والأوَّلُ أَظْهَرُ.
وقولُه: {مُحْصِنين} حالٌ، وعاملُها إمَّا "آتيتموهُنَّ" وصاحبُ الحالِ الضميرُ المرفوعُ، وإمَّا "أُحِلَّ" المَبْني للمَفعولِ، وإمَّا "حِلّ" المحذوفُ كما تقدَّم.
وقولُه: {غيرَ} يَجوزُ فيه أنْ يَنتصبَ على أنَّه نَعْتٌ لـ "محصنين" ويجوزُ نصبُه على الحال، وصاحبُ الحالِ الضميرُ المستتر في "مُحْصِنين" ويجوزُ أنّه حالٌ من فاعل "آتيتموهن" على أنَّها حالٌ ثانيةٌ منْه، وذلك عند مَنْ يُجَوِّز ذلك.
وقولُه: {وَلاَ متخذي} يَجوزُ فيه الجَرُّ على أنَّه عطفٌ على "مسافحين" وزِيدتْ "لا" تأكيدًا للنَفْيِ المَفهومِ مِنْ "غير"، والنَصبُ على أنَّه عطفٌ على "غير" باعتبارِ أَوْجهها الثلاثة المتقدِّمِ شرحُها، ولا يَجوزُ عطفُهُ على "مُحْصِنين" لأنَّه مُقتَرِنٌ بـ "لا" المُؤكِّدةِ للنَفْيِ المُتَقدِّمِ ولا نفيُ مَعَ "مُحصِنين" وتقدَّم معاني هذه الألفاظ.
وقولُه: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان} تقدَّمَ لَهُ نَظائرُ. وقيل: المُرادُ بالإِيمان المؤمَنُ بِه، فهو مصدَرٌ واقعٌ موقعَ المفعولِ كـ "دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأميرِ" وقيلَ: ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: بموجِبِ الإِيمانِ وهو الباري ـ تَبارك وتعالى.
قولُه: {وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} الظاهرُ أنَّ الخبرَ قولُه: "من الخاسرين" فيتعلَّقُ قولُه: "في الآخرة" بما تعلَّق بِه هذا الخبرُ. وقال مَكّي: "العاملُ في الظرفِ محذوفٌ تقديرُه: "وهو خاسرٌ في الآخرةِ" ودَلَّ على المحذوفِ قولُه: "من الخاسرين". فإنَّ جَعْلَه الألفَ واللّامَ في "الخاسرين" ليستا بمعنى الذين جازَ أنْ يَكونَ العاملُ في الظَرْفِ "من الخاسرين" يَعني أنَّه لو كانَتْ مَوْصولَةً لامْتَنَعَ أنْ يَعمَلَ ما بعدَها فيما قبلَها، لأنَّ الموصولَ لا يَتَقَدَّمُ عليْه ما في حَيِّزِهِ، وهذا كما قالوا في قولِه: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين} الشعراء: 168. و{وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} يوسف: 20، وتقديرُ مَكّي مُتَعلَّقِ هذا الظَرفِ وهو "خاسر" إنَّما هو بِناءٌ على كونِ "ألـ" موصولةً بدليلِ قولِه: فإنْ جعلتَ الألِفَ واللَّامَ ليْسَتا بِمعنى "الذين" وبالجُملةِ فلا حاجةَ إلى هذا التقديرِ: بلْ العاملُ فيه ـ كما تَقَدَّمَ ـ العاملُ في الظَرْفِ الواقعِ خَبَرًا وهو الكون المُطْلَقِ، ولا يَجوزُ أنْ يَكونَ "في الآخرة" هو الخبرَ، و"من الخاسرين" مُتعلِّقٌ بما تعلَّق بِه لأنَّه لا فائدةَ في ذلك، فإنْ جُعِل "من الخاسرين" حالًا مِنَ ضميرِ الخَبَرِ وتكونُ حالًا لازِمَةً جاز، وهو ضعيفٌ في الإِعراب، وقد تقدَّم وقد تقدَّم نظيرُ هذه الآية في البقرة عند قولِه: {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} الآيةُ: 130.