يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ( قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ} المَعْنى: أُتَمِّمُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فَكُونُوا قَوَّامِينَ للهِ، أَيْ لِأَجْلِ ثَوَابِ اللهِ، أيْ كَثيري القيامِ لَه بُحقوقِه اللّازمَةِ، فَقُومُوا بِحَقِّهِ، فـ "قَوّامٌ" صيغةُ مُبالغةٍ مِنْ قائمٍ. و"القوام": هو المُبالِغُ في القيامِ بالشيءِ وفي الإِتيان به على أتَمِّ وجهٍ وأَحْسَنَه.
وقولُه: {شُهَداءَ بِالْقِسْطِ} شُهَدَاءَ: جمعُ شهيدٍ ـ بوزنِ فَعيلٍ ـ والأصلُ في هذه الصِيغةِ، دَلالَتُها على الصِفاتِ الرّاسِخَةِ في النَّفسِ ككريمٍ وحَكيمٍ. و"القسط" العدلُ، يُقالُ أَقْسَطَ فلانٌ يُقْسِطُ إذا عَدَلَ في أقوالِه وأَحكامه. فاشْهَدُوا بِالْحَقِّ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ إِلَى أَقَارِبِكُمْ، وَحَيْفٍ عَلَى أَعْدَائِكُمْ. وقيل معنى "شُهَداءَ بِالْقِسْطِ" دُعاةً للهَ تعالى مُبيِّنين دِينَه بالحُجَجِ الحَقَّةِ.
وقد تقدَّمَ نظيرُ هذه الآيةِ في سورةِ النساءِ فقال: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَاءَ للهِ} فكرَّرَ لِمَزيدٍ مِنَ الاهْتِمامِ بالعَدْلِ والمُبالَغَةِ في إطفاءِ ثائرَةِ الغَيْظِ. وقيل كرَّرَ: لاخْتِلافِ السَبَبِ، فإنَّ الأُولى نَزَلَتْ في المُشْرِكين، وهذه في اليَهودِ. وذَكَرَ بَعْضُ المُحَقِّقين وجهًا لِتَقديمِ القِسْطِ هناك وتأخيرِه هنا، وهو أنَّ آيةَ النِّساءِ جِيءَ بها في مَعْرِضِ الإِقْرارِ على نفسِه ووالدَيْهِ وأَقارِبِه. بَدَأَ فيها بالقِسْطِ الذي هو العدلُ مِنْ غيرِ مُحاباةِ نَفْسٍ، ولا والدٍ ولا قَرابَةٍ. وهُنا جِيءَ بِها في مَعْرِضِ تَرْكِ العَداوةِ فبَدَأَ فيها بالقِيامِ للهِ لأنَّه أَرْدَعُ للمُؤمنين، ثمَّ ثَنّى بالشَهادةِ بالعَدْلِ فجِيءَ في كلٍّ بِما يُناسِبُه.
قولُه: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} أي لا يَحمِلَنَّكم بُغضُ قومٍ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فيهم، وَإِيثَارِ الْعُدْوَانِ عَلَى الْحَقِّ. وأَصْلُ الجَرْمِ قَطْعُ الثَمَرِ مِنَ الشَجَرِ، وأُطْلِقَ على الكَسْبِ؛ لأنَّ الكاسِبَ يَنْقَطِعُ لِكَسْبِهِ. و"الشنآنُ" أشَدُّ البُغْضِ والكُرْهِ والعداوةِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى نُفُوذِ حُكْمِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ فِي اللهِ تعالى وَنُفُوذِ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَإِنْ أَبْغَضَهُ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ عَلَيْهِ وَشَهَادَتُهُ لَا تَجُوزُ فِيهِ مَعَ الْبُغْضِ لَهُ لَمَا كَانَ لِأَمْرِهِ بِالْعَدْلِ فِيهِ وَجْهٌ. وَدَلَّتِ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَدْلِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقْتَصَرَ بِهِمْ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ مِنَ الْقِتَالِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَأَنَّ الْمُثْلَةَ بِهِمْ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَإِنْ قَتَلُوا نِسَاءَنَا وَأَطْفَالَنَا وَغَمُّونَا بِذَلِكَ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَقْتُلَهُمْ بِمُثْلَةٍ قَصْدًا لِإِيصَالِ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ إِلَيْهِمْ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ ـ رضي اللهُ عنه ـ بِقَوْلِهِ فِي الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ، هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ. وَتَقَدَّمَ فِي صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ معنى قوله: "لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ". أي لَا يُدْخِلَنَّكُمْ فِي الْجُرْمِ، كَمَا تَقُولُ: آثَمَنِي أَيْ أَدْخَلَنِي فِي الْإِثْمِ. قال عبدُ اللهِ بْنُ كَثيرٍ نَزَلَتْ في يَهودِ خَيْبَرَ، ذهَبَ إليهم رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ يَستَعينُهم في دِيَةٍ فهمّوا أنْ يَقتُلوهُ فذلك قولُه: "ولا يَجْرِمَنَّكم شَنَآنُ قومٍ" الآية. وفي نِدائِه ـ سبحانَه ـ بقوله: "كُونُواْ قَوَّامِينَ" بِصِفَةِ الكَيْنُونَةِ الدالَّةِ على الدَوامِ، وبِصيغَةِ المُبالَغَةِ الدالَّةِ على الكَثْرَةِ. لِتَمْكينِ صِفَةِ الطاعةِ لَهُ مِنْ نُفوسِهم، وتَرسيخِها في قلوبِهم، فكأنَّه يقولُ لهم: رَوِّضوا أَنْفُسَكم على طاعةِ خالِقِكم، وعَوِّدوها على الْتِزامِ الحَقِّ والعَدْلِ. واجعلوا ذلك شأنَكم في جميعِ الظُروفِ والأَحوالِ ودَيدَنَكم، فالواجِبُ عليكم أنْ يَكونَ التِزامُكُمْ له في كلِّ أَوقاتِكم وأعمالِكم.
قولُه: {على أنْ لا تَعْدِلوا} أي على تَرْكِ العَدْلِ فيهم لِعَداوتِهم وكَتْمِ الشَهادةِ.
وَقولُه: {اعدِلوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} اعْدِلوا: أمرٌ بالعَدْلِ في كلِّ أَحَدٍ القريبِ والبعيدِ والصَديقِ والعَدُوِّ، وبيانٌ للعِلَّةِ في تكليفِهم بالعدلِ، وتَصريحٌ بِوُجوبِه بَعدَما عُلِمَ مِنْ النَهْيِ عن تَركِه التزامًا. "هو" أي العدلُ المَدْلولُ عليْه بقولِه: "اعْدِلوا" "أقربُ للتقوى" التي أُمِرتم بِها غيرَ مَرَّةٍ أَيْ لِأَنْ تَتَّقُوا اللهَ، وَقِيلَ: لِأَنْ تَتَّقُوا النَّارَ. و"أَقربُ للتقوى" أيْ أَدْخَلُ في مُناسَبَتِها لأنَّ التَقوى نِهايةُ الطاعةِ، وهو أَنْسَبُ الطاعاتِ بها، فالقُرْبُ بينَهما على هذا مُناسَبَةُ الطاعةِ للطاعَةِ، ويُحتَمَلُ أنْ يَكونَ أَقْرَبيَّتَه على التَقوى باعتبارِ أنَّه لُطْفٌ فيها، فهي مُناسَبَةُ إفضاءِ السَبَبِ إلى المُسَبّبِ وهو بِمنزِلَةِ الجُزْءِ الأخيرِ مِنَ العِلَّةِ.
قولُه: {وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} أي: واتَّقوا اللهَ أيُّها المؤمنون، في كلِّ ما تَأتون وما تَذَرون، وصُونوا أَنْفُسَكم عَمَّا لا يُرضيه، وافعلوا ما أَمَرَكم بِهِ، إنَّ اللهَ ـ سبحانه ـ لا تَخفى عليْه خافيةٌ مِن أَعمالِكم، وسَيُجازيكم يومَ القيامَةِ بما تَسْتَحِقّونَه على حَسْبِ أَعمالَكم.
فالجُمْلَةُ الكَريمةُ تَذييلٌ قُصِدَ بِه التَحذيرُ مِنْ مُخالَفَةِ أَوامِرِ اللهِ، ومِنِ انْتِهاكِ حُرُماتِه.
قوله تعالى: {هو أقربُ للتقوى} هو: ضميرُ المَصدَرِ المَفهومِ مِنَ الفِعلِ، أي: العَدْل، وقد تقدَّمَ لَه نَظائُر كَثيرةٌ. واللامُ في "للتقوى" مثلُها في قولِكَ: هو قريبٌ لِزيْدٍ للاخْتِصاصِ لا مُكَمِّلةً فإنَّ التكميلَ يكونُ بـ "من" أو "إلى"، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ التَعليلِ للأمْرِ بالعدلِ.
وقرئَ {وَلَا يُجْرِمَنَّكُمْ} قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى "لَا يُجْرِمَنَّكُمْ" لَا يُدْخِلَنَّكُمْ فِي الْجُرْمِ، كَمَا تَقُولُ: آثَمَنِي أَيْ أَدْخَلَنِي فِي الْإِثْمِ.