قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ. (113)
قَوْلُهُ تَعَالَى شأنه: {قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها} تمهيدُ عُذرٍ وبيانٌ لسببِ سؤالِهمُ المائدَةَ في الآيةِ السابقةِ، والأكلُ للتَمَتُّعِ أوْ للحاجَةِ، أي أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْأَكْلَ مِنْهَا لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ كَانَ إِذَا خَرَجَ اتَّبَعَهُ خَمْسَةُ آلَافٍ أَوْ أَكْثَرُ، بَعْضُهُمْ كَانُوا أَصْحَابَهُ وَبَعْضُهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ لِمَرَضٍ كَانَ بِهِمْ أَوْ عِلَّةٍ، إِذْ كَانُوا زَمْنَى أَوْ عُمْيَانًا، وَبَعْضُهُمْ كَانُوا يَنْظُرُونَ وَيَسْتَهْزِئُونَ فَخَرَجَ يَوْمًا إِلَى مَوْضِعٍ فَوَقَعُوا فِي مَفَازَةٍ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ نَفَقَةٌ فَجَاعُوا وَقَالُوا لِلْحَوَارِيِّينَ: قُولُوا لِعِيسَى حَتَّى يَدْعُوَ بِأَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَجَاءَهُ شَمْعُونُ رَأْسُ الْحَوَارِيِّينَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ النَّاسَ يَطْلُبُونَ بِأَنْ تَدْعُوَ بِأَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَائِدَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَالَ عِيسَى لِشَمْعُونَ: قُلْ لَهُمُ {اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} المائدة: 112. فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ شَمْعُونُ الْقَوْمَ. أو "نَأْكُلَ مِنْها" للتَبَرُّكِ أَكْلًا نَتَشرَّفُ بِهِ بيْنَ الناسِ، ولِنَنَالَ بَرَكَتَهَا لَا لِحَاجَةٍ دَعَتْهُمُ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ لَوِ احْتَاجُوا لَمْ يُنْهَوْا عَنِ السُّؤَالِ. و"نريدُ" الإرادةُ هنا إمَّا بمعناها الظاهرِ أوْ بِمَعْنى المَحَبَّةِ أيْ: نُحِبَ ذلك، فقد بَيَّنُوا سَبَبَ سُؤَالِهِمْ المائدةَ حِينَ نُهُوا عَن السؤالِ.
قَوْلُهُ: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا} بازدياد اليقين ويُحْتَمَلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُّهَا: تَطْمَئِنُّ إِلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَكَ إِلَيْنَا نَبِيًّا. الثَّانِي: تَطْمَئِنُّ إِلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ اخْتَارَنَا لِدَعْوَتِنَا. الثَّالِثُ: نَطْمَئِنُّ إِلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَجَابَنَا إِلَى مَا سَأَلْنَا، أَو نَطْمَئِنُّ بِأَنَّ اللهَ قَدْ قَبِلَ صَوْمَنَا وَعَمَلَنَا. أو نَسْتَيْقِنُ قُدْرَتَهُ فَتَسْكُنُ قُلُوبُنَا.
قولُهُ: {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا} وَ"نَعْلَمَ" عِلْمَ عِيانٍ ومشاهَدَةٍ بِأَنَّكَ رَسُولُ الهِ:، "أَن قَدْ صَدَقْتَنَا" أيْ أنَّه قد صَدَقْتَنا في ادِّعاءِ النُّبُوَّةِ، وقيلَ: "صَدَقْتَنا" في أنَّ اللهَ ـ تعالى ـ يُجيبُ دَعْوَتَنا، وقيلَ: فيما ادَّعَيْتَ مُطْلَقًا.
قولُه: {وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ} لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَلَكَ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ. وَقِيلَ: نَكُونَ مِنَ الشَّاهِدِينَ لَكَ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَحضرْها من بني اسرائيل إذا رَجْعْنا إلى قومِنا. لِيَزْدادَ المؤمنون منهم بشهادَتِنا طُمَأْنينَةً ويَقينا وليؤمِنَ بسببِها كفارُهم أوْ مِنَ الشاهدين بالعَيْنِ دونَ السامعينَ للخَبَرِ.
قولُه تعالى: {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عليها مِنَ الشاهدين} قرأ الجمهورُ: و"نَعْلَمَ" و "ونكونَ" بنون المتكلم مبنيًّا للفاعل، و قرأ ابن جبير: فيما نقله عنه ابن عطية: "وتُعْلَم" بضم التاء على أنه مبني للمفعول، والضميرُ عائدٌ على القلوب أي: وتُعْلَمَ قلوبُنا، ونُقل عنه "ونُعْلَم" بالنون مبنيًّا للمفعول، وقُرئ: "يُعْلم" بالياء مبنيًّا للمفعول، والقائمُ مقام الفاعل: "أَنْ قد صَدَقْتَنا" أي: ويُعْلَمَ صِدْقُك لنا، ولا يَجوزُ أنْ يَكونَ الفِعلُ في هذه القراءةِ مُسْنَدًا لِضميرِ القلوبِ لأنَّه جارٍ مَجْرى المؤنثِ المجازيِّ، ولا يَجوزُ تَذكيرُ فعلِ ضميرِه. وقرأ الأعمش: و"تَعْلَم" بتاء والفعل مبني للفاعل، وهو ضميرُ القلوب، ولا يجوزُ أن تكونَ التاءُ للخطاب لِفَسادِ المعنى، ورُويَ: "وتِعْلَم" بكسرِ حرفِ المُضارَعَةِ، والمعنى على ما تقدَّم وقُرِئ: و"تَكون" بالتاء والضمير للقلوب. و"أَنْ" مخفَّفةٌ واسمُها محذوفٌ، و"قد" فاصلةٌ لأنَّ الجُملةَ الواقعةَ خبَرًا لها فِعْلِيَّةٌ مُتَصَرِّفةٌ غيرُ دُعاءٍ، وقد عَرَفْتَ ذلك مما تقدَّم في قولِه: {أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} المائدة: 71، و"أن" وما بعدَه سادَّةٌ مَسَدَّ المَفعولَيْن أو مَسَدَّ الأوَّلِ فقط والثاني محذوف. و"عليها" متعلقٌ بمحذوف يَدُلُّ عليه "الشاهِدين" ولا يَتَعلَّقُ بِما بعدَهُ لأنَّ "أل" لا يَعْملُ ما بعدَها فيما قبلَها عندَ الجمهورِ، ومَنْ يُجيزُ ذلك يقول: هو متعلقٌ بالشاهدين، قُدِّمَ للفَواصِلِ. وجُوِّزَ أنْ يَكونَ حالًا مِنْ اسْمِ كان، أيْ عاكفينَ عليها.