وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ. (20)قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ} وَاذْكُرْ يِا مُحَمَّدُ لأهْلِ الكِتَابِ، وَأَنْتَ تُبِلِّغُهُمْ دَعْوَةَ رَبِّهِمِ، مَا قَالَهُ مُوسَى لِقَوْمِهِ، وَمَا ذَكَّرَهُمْ بِهِ مِنْ أَنْعُمِ اللهِ وَأفْضَالِهِ عَلَيهِمْ، بِمَا جَمَعَهُ لَهُمْ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وهو تَبْيِينٌ مِنَ اللهِ ـ تَعَالَى ـ أَنَّ أَسْلَافَهُمْ تَمَرَّدُوا عَلَى مُوسَى وَعَصَوْهُ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ تمرَّدوا عَلَى مُحَمَّدٍ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ وعصوه، وَهُوَ تَسْلِيَةٌ لَهُ، أَيْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ، وَاذْكُرُوا قِصَّةَ مُوسَى.
وقولُه: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ: واضحٌ، و"جَعَلَكُمْ مُلُوكًا" أَيْ تَمْلِكُونَ أَمْرَكُمْ لَا يَغْلِبُكُمْ عَلَيْهِ غَالِبٌ بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ مَمْلُوكِينَ لِفِرْعَوْنَ مَقْهُورِينَ، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهُ بِالْغَرَقِ، فَهُمْ مُلُوكٌ بِهَذَا الوجه. قال السدِّيُّ: مَلَكَ كلُّ واحدٍ منهم نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا قَالَ: "وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا" لِأَنَّا كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ خُدِمَ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْقِبْطَ قَدْ كَانُوا يَسْتَخْدِمُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَظَاهِرُ أَمْرِ بَنِي آدَمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يُسَخِّرُ بَعْضًا مُذْ تَنَاسَلُوا وَكَثُرُوا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ فِي مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَقَطْ. وَقِيلَ: جَعَلَكُمْ ذَوِي مَنَازِلَ لَا يُدْخَلُ عَلَيْكُمْ إِلَّا بِإِذْنٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ بَيْتَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَهُوَ مَلِكٌ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا وَزَيْدِ بنِ أَسْلَمَ أنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ دَارٌ وَزَوْجَةٌ وَخَادِمٌ فَهُوَ مَلِكٌ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَكَ مَنْزِلٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ. قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا. قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَفَائِدَةُ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَمَلَكَ دَارًا وَخَادِمًا بَاعَهُمَا فِي الْكَفَّارَةِ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الصِّيَامُ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الرَّقَبَةِ، وَالْمُلُوكُ لَا يُكَفِّرُونَ بِالصِّيَامِ، وَلَا يُوصَفُونَ بِالْعَجْزِ عَنِ الْإِعْتَاقِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: جَعَلَهُمْ مُلُوكًا بِالْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَالْحَجَرِ وَالْغَمَامِ، أَيْ هُمْ مَخْدُومُونَ كَالْمُلُوكِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ومُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ، أَيْضًا يَعْنِي الْخَادِمَ وَالْمَنْزِلَ، وَزَادُوا الزَّوْجَةَ، وَكَذَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فِيمَا يُعْلَمُ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَانَ لَهُ بَيْتٌ ـ أَوْ قَالَ مَنْزِلٌ ـ يَأْوِي إِلَيْهِ وَزَوْجَةٌ وَخَادِمٌ يَخْدُمُهُ فَهُوَ مَلِكٌ)). وَيُقَالُ: مَنِ اسْتَغْنَى عَنْ غَيْرِهِ فَهُوَ مَلِكٌ، وَهَذَا كَمَا قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ ولَهُ قُوتُ يومِه فكأنَّما حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا)).
قَوْلُهُ تَعَالَى:{وآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ) آتاكُمْ: أعطاكم، وَالْخِطَابُ مِنْ مُوسَى لِقَوْمِهِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ وَجْهُ الْكَلَامِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِيتَاءِ فَلْقُ البحرِ، وإغراقُ العدوِّ، وتَظليلُ الغَمامِ، وانفجارُ الحَجَرِ بعيونِ الماءِ، وإنزالُ المَنِّ والسلوى عليهم، وغيرُ ذلك مما آتاهم اللهُ تعالى مِنَ الأمورِ المخصوصةِ. وَقِيلَ: كَثْرَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ، وَالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَتْهُمْ. وَقِيلَ: قُلُوبًا سَلِيمَةً مِنَ الْغِلِّ وَالْغِشِّ. وَقِيلَ: إِحْلَالُ الْغَنَائِمِ وَالِانْتِفَاعُ بِهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْدُودٌ، فَإِنَّ الْغَنَائِمَ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ إِلَّا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ. وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ مِنْ مُوسَى تَوْطِئَةٌ لِنُفُوسِهِمْ حَتَّى تُعَزَّزَ وَتَأْخُذَ الْأَمْرَ بِدُخُولِ أَرْضِ الْجَبَّارِينَ بِقُوَّةٍ، وَتَنْفُذَ فِي ذَلِكَ نُفُوذَ مَنْ أَعَزَّهُ اللهُ وَرَفَعَ مِنْ شَأْنِهِ. وَمَعْنَى "مِنَ الْعالَمِينَ" أَيْ عَالَمِي زَمَانِكُمْ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مَالِكٍ: الْخِطَابُ هو لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا عُدُولٌ عَنْ ظَاهِرِ الْكَلَامِ بِمَا لَا يَحْسُنُ مِثْلُهُ. وَتَظَاهَرَتِ الأخبارُ أنَّ دِمَشْقَ قاعدةُ الجَبّارين.
قولُهُ تعالى: {وَإذْ قَالَ موسى لقَوْمِهِ} جملةٌ مُستأنَفَةٌ مَسوقةٌ لبيانِ ما فعلتْ بنو إسرائيلَ بعد أخذِ الميثاقِ منهم، و"إذ" نصبٌ على أنَّه مفعولٌ لفعلٍ محذوفٍ خُوطِبَ بِه سَيِّدُ المُرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ بطريق تلوين الخِطابِ وصرفِه عن أهلِ الكتابِ لِيُعدِّدَ عليهم ما سَلَفَ مِنْ بعضِهم مِنَ الجِنايات. و"عليكم" متعلِّقٌ إمَّا بالنِعمةِ إنْ جُعلتْ مَصدَرًا، وإمَّا بمحذوفٍ وقعَ حالًا منها إذا جُعلتْ اسْمًا، أي اذْكروا إنعامَه عليكم بالشكر، واذْكُروا نعمتَه كائنةً عليكم، وكذا "إذ" في قولِه تعالى: "إذْ جَعَلَ فيكُمْ أنبيَاءَ" متعلِّقةٌ بما تعلَّقَ به الجارُّ والمَجرورُ، أي اذْكروا إنْعامَه عليكم في وقتِ جعلِه، أوِ اذْكروا نعمتَه ـ تعالى ـ كائنةً عليكم في وقتِ جعلِه فيما بينَكم مِنْ أَقربائكم أنبياءَ، وصيغةُ الكَثرةِ على حقيقتِها كما هو الظاهر، والمُرادُ بهم موسى وهارون ويُوسُف وسائرُ أَوْلادِ يعقوبَ على القولِ بأنَّهم كانوا أنبياءَ، أو الأوَّلون، والسبعون الذين اختارهم موسى لميقاتِ ربِّه، فقد قال ابنُ السائبِ ومُقاتلٌ: إنَّهم كانوا أنبياءَ. وقال الماورديُّ وغيرُه: المرادُ بهم الأنبياءُ الذين أُرسلوا مِن بعدُ في بني إسرائيلَ؛ والفعلُ الماضي مصروفٌ عن حقيقتِه، وقيلَ: المُرادُ بهم مَنْ تقدَّمَ ومَنْ تأخَّرَ، ولم يُبْعثْ مِنْ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ ما بُعِثَ مِنْ بَني إسرائيلَ مِنَ الأنبياءِ عليهمُ الصلاةُ والسلامُ. و"أنبياءَ" لم ينصرفْ لآنَّ فيه ألِفُ التأنيث.
قولُهُ: {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكًا} عطفٌ على "جعلَ فيكم" وغيَّرَ الأسلوبَ فيه لأنَّه لِكثرةِ المُلوكِ فيهم أو منهم، صاروا كأنهم ملوكٌ كلهم لِسلوكِهم مَسْلَكَهم في السَعة والرفاهية، فلِذا تُجُوِّزَ في إسنادِ المُلكِ إلى الجميعِ بخلافِ النبوَّةِ فإنَّها وإن كثُرتْ لا يَسلُك أحدٌ مسلَكَ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلامُ ـ لأنَّها أمرٌ إلهيٌّ يَخُصُّ اللهَ تعالى بِهِ مَنْ يَشاءُ، فلِذا لم يُتَجَوَّزْ في إسْنادِها، وقيل: لا مَجازَ في الإسنادِ، وإنَّما هو في لفظُ الملوكِ فإنَّ القولَ كانوا مملوكين في أيدي القُبْطِ فأنقذهمُ اللهُ تعالى، فسَمَّى ذلك الإنقاذَ مُلْكًا، وقيلَ: لا مَجازَ أصلاً بلْ جُعِلوا كلُّهم مُلوكًا على الحقيقة، وقد تقدَّمَ بيانُ ذلك.
قولُه: {يا قومِ} وقرأَ ابنُ مُحَيْصِنٍ هنا وفي جميع القرآن: "يا قومُ" مضمومَ الميم، ويُروى قراءةً عنِ ابْنِ كثيرٍ، ووجهُها أنَّها لُغةٌ في المُنادى المُضافِ إلى ياءِ المتكلِّم كقراءةِ: {قل ربُّ احكمْ بالحقِّ}. وقرأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: "يا قوميَ ادخلوا" بفتح الياءِ..
قولُه: {العالمين} ألـ: للعهدِ، والمُرادُ عالَمِي زمانِهم، أوْ للاستغراقِ، والتفضيلِ مِنْ وجهٍ لا يَستلزِمُ التفضيلَ مِنْ جميعِ الوُجوهِ، فإنَّه قد يَكون للمَفضولِ ما ليس للفاضِلِ، وعلى التقديريْن لا يَلْزمُ تفضيلُهم على هذِه الأمَّةِ المُحمَّديَّةِ على نَبِيِّها أَفضلُ الصلاةِ وأكملُ التسليم.