لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ. (63)
قَوْلُهُ تعالى: {لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ} أي أفلا يَزْجُرُهُمْ عُلَمَاءُ النَّصَارَى وعُلَمَاءُ الْيَهُودِ، وهو حضٌّ لهم على أن يفعلوا وتقريع لهم على تقصيرهم في ذلك، فالربَّانيّونُ هم عُلماءُ النَّصارى والأحبارُ هم علماءُ اليهودِ، وَقِيلَ بَلِ الْكُلُّ فِي الْيَهُودِ، لِأَنَّ قولَه ـ سبحانه: {قولِهمُ الإثمَ وأكلِهِمُ السُّحتَ} أيْ: الكذب الرِّشا والحرام، نَزَلَ فيهم فوَبَّخَهُمْ اللهُ على ارْتَكابِهم هذه المخالفاتِ ولِعدمِ نَهْيِهُمْ أتْباعَهم عن ارتكابِ المعاصي والآثامِ والوُقوعِ فيها.
قَولُه: {لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ} تقريعٌ وتوبيخٌ لعُلمائهم لأنَّهم لم ينهوهم عن الكَذِبِ وأكلِ والرِّبا والمال الحرام، كما سَبَقَ أنْ وبَّخَهم على المُسَارَعَةِ فِي هذه الآثامِ بِقَوْلِهِ: {لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ} فدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ تَارِكَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ كَمُرْتَكِبِه، فَالْآيَةُ إذًا تَوْبِيخٌ لِلْعُلَمَاءِ الذين يتَركِون الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ في هذا المعنى في (البقرة) و(وآل عمران).
رَوى سُفيان بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مِسْعَرٍ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ مَلَكًا أُمِرَ أَنْ يَخْسِفَ بِقَرْيَةٍ فَقَالَ: يَا رَبِّ فِيهَا فُلَانٌ الْعَابِدُ فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: (أَنْ بِهِ فَابْدَأْ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ وَجْهُهُ فِي سَاعَةٍ قَطُّ). أي لم يَحْمَرَّ وجهه غضبًا لانتهاك حُرماتِ اللهِ. وَجاء فِي صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ: ((إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ وَلَمْ يَأْخُذُوا على يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ)).
وقالَ في حق العلماءِ هنا "يَصْنَعونَ" وفي الآيةِ السابقةِ قالَ هناك في حقِّ العامَّةِ {يعملون} وَالصُّنْعُ والْعَمَلِ بمَعْنًى إِلَّا أَنَّ الصُنْعَ يَقْتَضِي الْجَوْدَةَ، يُقالُ: سَيْفٌ صَنيعٌ إذا جُوِّدَ عَمَلُه، ويُقالُ لِصاحِبِ الحُرْفةِ هو صَناعٌ إذا أَتْقَنَ عَمَلَهُ وكان ماهرًا في حِرفتِه. وهذا فيه زيادةٌ على قولِه: {لَبِئْسَ ما كانوا يعملون} لأنَّ العملَ لا يَبلُغُ درجةَ الصُنْعِ حتَّى يَتَدَرَّبَ فيه صاحبُهُ ويَتَمَرَّسَ، فالصُنْعُ هو العملُ المُتْقنُ لا مُطْلَقَ العَمَلِ. وهذا أَبلَغُ ممَّا تَقَدَمَ في حَقِّ العامَّةِ لِمَا تَقَرَّرَ في اللُّغةِ والاسْتِعمالِ أَنَّ الفِعْلَ ما صدَرَ عنِ الحَيَوانِ مُطْلَقًا، فإنْ كانَ عَنْ قَصْدٍ سُمِّيَ عَمَلًا، ثمَّ إنْ حَصَلَ بِمُزاوَلَةٍ وتَكَرَّرَ حتَّى رَسَخَ وصارَ مَلَكَةً لَهُ سُمِّيَ صُنْعًا وصَنْعةً وصِناعَةً، فلِذا كانَ الصُنْعُ أَبْلَغُ لاقْتِضائه الرُّسوخَ، ولذا يُقالُ للحاذِقِ: صانِعٌ، وللثوبِ الجَيِّدِ النَسْجِ: صَنيعٌ.
إذًا فلقد وبَّخَ ـ سبحانَه وتعالى ـ الخاصَّةَ منهم، وهُمُ العُلَماءُ لِتَركِهمُ الأَمْرَ بالمَعروفِ والنَّهيَ عَنِ المُنْكَرِ بِما هُوَ أَغْلَظُ وأَشَدُّ مِنْ تَوبيخِ فاعلي المَعاصي ومرتكبي الآثامِ. فتركُ النَهْيِ أَقْبَحُ مِنَ الارْتِكابِ، ووجهُهُ بأنَّ المُرْتَكِبَ لهُ في المَعْصِيَةِ لَذَّةٌ وقَضاءُ وَطَرٍ بخِلافِ المُقِرِّ لَه، ولِذا وَرَدَ "إنَّ جُرْمَ الدَّيُّوثِ أَعْظَمُ مِن جرمِ الزانِين. ولا يَبْعُدُ أنْ يَكونَ إثْمُ تَرْكِ النَّهْيِ مِمَّنْ يُؤَثِّرُ نَهْيُهُ أَشَدَّ مِنْ إثْمِ المُرْتَكِبِ. وقالوا: إنَّ قيدَ الأَشَدِّيَّةِ يَختلِفُ بالاعْتِبارِ، فكونُه أَشَدَّ ـ باعتبارِ ارْتِكابِ ما لا فائدةَ لَهُ فيهِ ـ لا يُنافي كونَ المُباشَرَةِ أَكثرُ إثمًا منه.
وفي الآيةِ ممَّا يَنْعَى على العُلَماءِ تَوانيهم في النَهْيِ عَنِ المُنْكَراتِ ما لا يَخفى، ومِنْ هُنا قال الضَّحَّاكُ: ما أَخوَفَني مِنْ هذِهِ الآيَةِ. وعنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهما ـ أنَّه قال: ما في القرآنِ آيَةٌ أَشَدُّ تَوْبيخًا مِنْ هذهِ الآية.
قولُه تعالى: {لَوْلاَ} حرفُ تَحضيضٍ ومَعناهُ التَوبيخُ. لأنَّ "لَوْلاَ" الدَّاخِلَةَ على المُضارِعِ للتَحضيضِ، والدَّاخِلَةَ على الماضي للتوبيخِ، كما قرَّرَهُ ابْنُ الحاجِبِ وغيرُه، والمُرادُ هُنا تَحضيضُ الذين يُقْتَدَى بهم على نَهْيِ أتباعِهم وتَبْصِرَتِهم بقباحةِ ما هم فيه وسوءِ مَغَبَّتِه. وهذا التحضيض يتضمن توبيخَهم على السكوتِ وتَرْكِ النَهْيِ: "عَن قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ" معَ عِلْمِهم بِقُبْحِهِما واطِّلاعِهم على مُباشَرَتِهم لهُما.
وقولُهُ: {قولِهِمُ} مَصدرٌ مُضافٌ لِفاعلِه، و"الإِثْمَ" مَفعولُه.
وقَرَأَ الجَرَّاحُ وأَبو واقدٍ: "الرِّبيُّون" مكانَ الرَّبانيين. وقَرَأَ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهُما ـ "بئسما" بغيرِ لامِ القَسَمِ.
وقُرِئ: "لولا يَنهاهُم الرَّبانيّونَ والأحبارُ عنْ قولِهِمُ العُدْوانَ وأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانوا يَعملون".