فَبَعَثَ اللهُ غُرابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ. (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبَعَثَ اللهُ غُرابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَسْتَفِيدَ مِنْ تَجَارِبِ غَيْرِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: بَعَثَ اللهُ غُرَابَيْنِ فَاقْتَتَلَا حَتَّى قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ثُمَّ حَفَرَ فَدَفَنَهُ. وَكَانَ ابْنُ آدَمَ هَذَا أَوَّلَ مَنْ قُتِلَ. أَخْرَجَ ابْنُ حَميدٍ وابْنُ جَريرٍ عنْ عَطِيَّةَ قال: لمَّا قَتَلَهُ نَدِمَ فضَمَّهُ إليْهِ حتَّى أَرْوَحَ وعَكَفَتْ عليْه الطيرُ والسِباعُ تَنْتَظِرُ متى يَرْمي بِهِ فتَأْكُلهُ، وكَرِهَ أَنْ يأتيَ بِهِ آدمَ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ فَيُحْزِنُهُ؛ وتَحَيَّرَ في أَمْرِهِ إذْ كانَ أَوَّلَ مَيِّتٍ مِن بَني آَدمَ، فبَعَثَ اللهُ تعالى غُرابيْنِ قَتَلَ أَحَدُهُما الآخَرَ وهو يَنظُرُ إليْه ثمَّ حَفَرَ لَهُ بِمِنْقارِهِ وبِرِجْلِهِ حتَّى مَكَّنَ لَهُ ثُمَّ دَفَعَهُ بِرَأْسِهِ حتَّى أَلقاهُ في الحُفْرَةِ ثمَّ بَحَثَ عَليْه بِرِجْلِهِ حتَّى واراهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْغُرَابَ بَحَثَ الْأَرْضَ عَلَى طُعْمِهِ لِيُخْفِيَهُ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ الْغُرَابِ فِعْلُ ذلك، فنبَّه ذلك قابيلَ عَلَى مُوَارَاةِ أَخِيهِ. وَرُوِيَ أَنَّ قَابِيلَ لَمَّا قَتَلَ هَابِيلَ جَعَلَهُ فِي جِرَابٍ، وَمَشَى بِهِ يَحْمِلُهُ فِي عُنُقِهِ مِائَةَ سَنَةٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. ورَوى ابنُ القاسِمِ عن مالك أَنَّهُ حَمَلَهُ سَنَةً وَاحِدَةً، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: حَتَّى أَرْوَحَ وَلَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ بِهِ إِلَى أَنِ اقْتَدَى بِالْغُرَابِ كَمَا تَقَدَّمَ. والآيةُ الكَريمةُ بَيِّنَةٌ واضحَةُ المَقْصِدِ مِنْ غيرِ فَرْضٍ واحِدٍ مِنْ هذه الفُروضِ بِعيْنِهِ، وما دامتْ الأخبارُ التي لَا مَناصَ مِنْ قَبُولِها لِصِدْقِها غيرَ مَوْجودَةٍ فليسَ لَنا أَنْ نَفْرِضَ واحدًا مِنْ هذِهِ الفُروضِ بِعَيْنِهِ، والفَرْضُ الواحدُ الذي يَقْتَضيهِ بَيانُ الغَرَضِ والمَغْزَى هو أنْ نَفْرِضَ أنَّ الغُرابَ أَخَذَ يَحْفُرُ في الأَرْضِ، حتَّى أَتَمَّ حُفْرَةً وَضَعَ فيها شيْئًا، فعَلِمَ القاتلُ الجَهُولُ أنَّ ذلك هو الطَريقُ لِدَفْنِ أَخيهِ. وَفِي الْخَبَرِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: ((امْتَنَّ اللهُ عَلَى ابْنِ آدَمَ بِثَلَاثٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ بِالرِّيحِ بَعْدَ الرُّوحِ، فَلَوْلَا أَنَّ الرِّيحَ يَقَعُ بَعْدَ الرُّوحِ مَا دَفَنَ حَمِيمٌ حَمِيمًا، وَبِالدُّودِ فِي الْجُثَّةِ، فَلَوْلَا أَنَّ الدُّودَ يَقَعُ فِي الْجُثَّةِ لَاكْتَنَزَتْهَا الْمُلُوكُ، وَكَانَتْ خَيْرًا لَهُمْ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَبِالْمَوْتِ بَعْدَ الْكِبَرِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْبَرُ حَتَّى يَمَلَّ نَفْسَهُ وَيَمَلَّهُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ وَأَقْرِبَاؤُهُ فَكَانَ الْمَوْتُ أَسْتَرَ لَهُ)). وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ قَابِيلُ يَعْلَمُ الدَّفْنَ، وَلَكِنْ تَرَكَ أَخَاهُ بِالْعَرَاءِ اسْتِخْفَافًا بِهِ، فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ التُّرَابَ عَلَى هَابِيلَ لِيَدْفِنَهُ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: "يَا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ" حَيْثُ رَأَى إِكْرَامَ اللهِ لِهَابِيلَ بِأَنْ قَيَّضَ لَهُ الْغُرَابَ حَتَّى وَارَاهُ، وهو يُقَرِّرُ عَجْزَهُ عن أنْ يَكونَ مثلَ هذا الغُرابِ، ولكنَّه قال ذلكَ بِصيغةِ الاسْتِفْهامِ للتَقريرِ والتَثْبيتِ وللحَسْرَةِ على ما وَقَعَ مِنْهُ، وللأَسى والأَلَمِ، ولِذلكَ عَبَّرَ بـاللَّفْظِ "أَخِي" الذي كان يُوجِبُ المَوَدَّةَ والمَحَبَّةَ بَدَلَ الحَسَدِ، وما أَدى إليْه مِنْ قَتْلِهِ، وشَطْرِ لَحْمِهِ، وهو جِزْءُ أَبيهِ، فقالَ سَوْءَةَ أَخي، وحَسْرَتُه لَيْسَتْ للعَجْزِ، عَنْ مُواراتِها التُرابَ وغَفْلتِه، ولكنْ لِذلك ولأصْلِ الجَريمةِ بالذاتِ، ولِذلك كان التَعبيرُ بِأَخي، وإنَّ هذِه أُولى دَرَجاتِ النَدَمِ، إذْ إنَّ أُولى الدَرَجاتِ فيهِ أنْ يُحِسَّ بِعِظَمِ الجَريمةِ التي ارْتَكَبَها، وأَثرِ الإثْمِ الذي فَعَلَهُ، فقدْ فَعَلَ ما فَعَلَ بَعْدَ تَرديدِ الفِكْرَةِ مَرَّتيْنِ، ولكنَّه ما إنْ فَعَلَ حتَّى رَأى أَثَرَ الجَريمةِ مُجَسَّمًا، وبذلك كانتْ الحَسْرَةُ، ثمَّ كان النَدَمُ، ولِذلكَ قالَ ـ سُبْحانَه ـ بَعدَ ذلك: "فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ" بعدَ أنْ رَأى جِثَّةَ أَخيهِ بيْنَ يَدَيْهِ، وغَفلَ عن أنَ يُواريَها، وأَحَسَّ البَلِيَّةَ التي وَقَعَ فيها مِنْ رُؤيَةِ جُثْمانِ أَخيهِ الطَيِّبِ مُلْقًى، وهو عُرْضَةً لِسِباعِ البَهائمِ وسِباعِ الطَيْرِ تَنْهَشُهُ، أَدْرَكَ مِقدارَ الشَرِّ الذي ارْتَكَبَهُ، ومِنَ المُقرَّراتِ العِلْمِيَّةِ أنَّ أَوَّلَ إحساسٍ بهولِ الجَريمةِ أَنْ يَرى المُجْرِمُ الفَريسةَ التي افْتَرَسَها، سواءً أَكانَ ذا قُربى أمْ لِمْ يَكنْ ذا قُربى، فما بالك إذا كان المَقتولُ لمْ يَرْتَكِبْ إثْمًا، بَلْ فعلَ بِرًّا، ولمْ يَكُنْ منْه شَرٌّ وأَذًى، بَلْ كان مِنْهُ عِظَةٌ وإرْشادٌ. وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَدَمَ تَوْبَةٍ، وَقِيلَ: إِنَّمَا نَدَمُهُ كَانَ عَلَى فَقْدِ أخيهِ لَا عَلَى قَتْلِهِ، وَإِنْ كَانَ فَلَمْ يَكُنْ مُوَفِّيًا شُرُوطَهُ. أَوْ نَدِمَ وَلَمْ يَسْتَمِرْ نَدَمُهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَوْ كَانَتْ نَدَامَتُهُ عَلَى قَتْلِهِ لَكَانَتِ النَّدَامَةُ تَوْبَةً مِنْهُ. وَيُقَالُ: إِنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ أَتَيَا قَبْرَهُ وَبَكَيَا أَيَّامًا عَلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ قَابِيلَ كَانَ عَلَى ذِرْوَةِ جَبَلٍ فَنَطَحَهُ ثَوْرٌ فَوَقَعَ إِلَى السَّفْحِ وَقَدْ تَفَرَّقَتْ عُرُوقُهُ. وَيُقَالُ: دَعَا عَلَيْهِ آدَمُ فَانْخَسَفَتْ بِهِ الْأَرْضُ. وَيُقَالُ: إِنَّ قَابِيلَ اسْتَوْحَشَ بَعْدَ قَتْلِ هَابِيلَ وَلَزِمَ الْبَرِيَّةَ، وَكَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَا يَأْكُلُهُ إِلَّا مِنَ الْوَحْشِ، فَكَانَ إِذَا ظَفِرَ بِهِ وَقَذَهُ حَتَّى يَمُوتَ ثُمَّ يَأْكُلُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَتِ الْمَوْقُوذَةُ حَرَامًا مِنْ لَدُنْ قَابِيلَ بْنِ آدَمَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يُسَاقُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ إِلَى النَّارِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} فصِّلت: 29. فَإِبْلِيسُ رَأْسُ الْكَافِرِينَ مِنَ الْجِنِّ، وَقَابِيلُ رَأْسُ الْخَطِيئَةِ مِنَ الْإِنْسِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ النَّدَمَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ تَوْبَةً، وَاللهُ بِكُلِّ ذَلِكَ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ هَابِيلَ هُوَ أَوَّلُ مَيِّتٍ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَلِذَلِكَ جُهِلَتْ سُنَّةُ الْمُوَارَاةِ، وَكَذَلِكَ حَكَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِمَا فِي كتب الأوائل. وقوله: "يَبْحَثُ" مَعْنَاهُ يُفَتِّشُ التُّرَابَ بِمِنْقَارِهِ وَيُثِيرُهُ. وَمِنْ هَذَا سُمِّيَتْ سُورَةُ "بَرَاءَةٌ" الْبُحُوثُ، لِأَنَّهَا فَتَّشَتْ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ أبو دُلامةَ:
إِنِ النَّاسُ غَطَّوْنِي تَغَطَّيْتُ عَنْهُمُ .......... وَإِنْ بَحَثُونِي كَانَ فِيهِمْ مَبَاحِثُ
وفي الْمَثَلِ: لَا تَكُنْ كَالْبَاحِثِ عَلَى الشَّفْرَةِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَكَانَتْ كَعَنْزِ السُّوءِ قَامَتْ بِرِجْلِهَا ............. إِلَى مُدْيَةٍ مَدْفُونَةٍ تَسْتَثِيرُهَا
وقد بَعَثَ اللهُ الْغُرَابَ حِكْمَةً، لِيَرَى ابْنُ آدَمَ كَيْفِيَّةَ الْمُوَارَاةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} عبس: 21.
لقد أَثْبتتْ الدراساتُ العِلْمِيَّةُ أنَّ الغُرابَ هو أَذْكى الطُيورِ وأَمْكَرُها على الإطلاقِ، ويُعَلَّلُ ذلك بأنَّ الغُرابَ يَملُك أَكْبَرَ حَجْمٍ لِنِصْفَيْ دِماغٍ بالنِسْبَةِ إلى حَجْمِ الجِسْمِ في كلِّ الطُيورِ المعروفة .
ومِنْ بينِ المَعلوماتِ التي أَثْبَتَتْها دراساتُ سُلوكِ عالَمِ الحَيَوان مَحاكِمُ الغِربان، وفيها تُحاكِمُ الجماعةُ أيَّ فَرْدٍ يَخْرُجُ على نِظامِها حَسَبَ قوانينِ العَدالةِ الفِطْريَّةِ التي وضعَها اللهُ ـ سبحانَه وتعالى ـ لها، ولِكُلِّ جَريمةٍ عندَ جَماعَةِ الغِرْبانِ عُقوبَتُها الخاصَّةُ بها .
فجريمةُ اغْتِصابِ طَعامِ الأَفْراخِ الصِغارِ: تَقضي العقوبةُ بأنْ تَقومَ جَماعةٌ مِنَ الغُرْبانِ بِنَتْفِ ريشِ الغُرابِ المُعْتَدي حتَّى يُصْبِحَ عاجزًا
عنِ الطَيَرانِ كالأَفراخِ الصغيرةِ قبلَ اكْتمالِ نُمُوِّها .
وجريمةُ اغْتِصابِ العُشِّ أوْ هَدْمِهِ: تَكْتَفِي مَحْكَمَةُ الغِربانِ بإلزامِ المُعتَدي بِبناءِ عُشٍّ جَديدٍ لِصاحِبِ العُشِّ المُعتَدى عليه.
أمَّا جَريمةُ الاعْتِداءِ على أُنْثى غُرابٍ آخَر: فهي تقضي بأنْ تَقومَ جَماعةُ الغِربانِ بقتلِ المُعتَدي ضَرْبًا بِمَناقيرِها حتَّى الموت .
وتنعقدُ المَحْكَمَةُ عادةً في حَقْلٍ مِنَ الحُقولِ الزِراعيَّةِ أوْ في أَرْضٍ واسعةٍ، تتجمِعُ فيه هَيئةُ المَحْكَمَةِ في الوقتِ المُحَدَّدِ، ويُجْلَبُ الغُرابُ المُتَّهَمُ تحتَ حِراسةٍ مُشَدَّدةٍ، وتَبدأُ مُحاكَمَتُهُ فيُنَكِّسُ رأسَهُ، ويَخفِضُ جَناحيْه، ويُمْسِكُ عَنِ النَعيقِ اعْتِرافًا بِذَنْبِهِ .
فإذا صَدَرَ الحُكْمُ بالإعدامِ، قَفَزَتْ جَماعةٌ مِنَ الغِربانِ على المُذْنِبِ تُوسِعُهُ تمزيقًا بمَناقيرِها الحادَّةِ حتَّى يَموتَ، وحِينئِذٍ يَحمِلُه أَحَدُ الغُرْبانِ بمِنْقارِهِ لِيَحفِرَ لَهُ قَبْرًا يِتَواءَمُ مَعَ حَجْمِ جَسَدِهِ، ويَضَعُ فيه جَسَدَ الغُرابِ القَتيلِ ثمَّ يُهيلُ عليه التُرابَ احْتِرامًا لِحُرْمَةِ المَوتِ.
وهكذا تُقيمُ الغُربانُ العدلَ الإلهيَّ في الأرضِ أَفضلَ ممّا يُقيمُهُ كثيرٌ مِنْ بني آدَمَ فيا سُبْحانَ اللهِ.
وهكذا صَارَ فِعْلُ الْغُرَابِ فِي الْمُوَارَاةِ سُنَّةً بَاقِيَةً فِي الْخَلْقِ، فَرْضًا عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ عَلَى الْكِفَايَةِ، مَنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْبَاقِينَ. وَأَخَصُّ النَّاسِ بِهِ الْأَقْرَبُونَ الَّذِينَ يَلُونَهُ، ثُمَّ الْجِيرَةُ، ثُمَّ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ.
وَيُسْتَحَبُّ فِي الْقَبْرِ سَعَتُهُ وَإِحْسَانُهُ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا وَأَحْسِنُوا)). وَرُوِيَ عَنِ الْأَدْرَعِ السُّلَمِيِّ قَالَ: جِئْتُ لَيْلَةً أَحْرُسُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا رَجُلٌ قِرَاءَتُهُ عَالِيَةٌ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: هَذَا مُرَاءٍ، قَالَ: فَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ فَفَرَغُوا مِنْ جِهَازِهِ فَحَمَلُوا نَعْشَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ارْفُقُوا بِهِ رَفَقَ اللهُ بِهِ إِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ)). قَالَ: وَحَضَرَ حُفْرَتَهُ فَقَالَ: ((أَوْسِعُوا لَهُ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ)) فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ حَزِنْتَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: ((أَجَلْ إِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ)).
ثُمَّ قِيلَ: اللَّحْدُ أَفْضَلُ مِنَ الشَّقِّ، فَإِنَّهُ الَّذِي اخْتَارَهُ اللهُ لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا تُوُفِّيَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا يَلْحَدُ وَالْآخَرُ لَا يَلْحَدُ، فَقَالُوا: أَيُّهُمَا جَاءَ أوَّلًا عَمِلَ عَمَلَهُ، فَجَاءَ الَّذِي يَلْحَدُ فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. وَالرَّجُلَانِ هُمَا أَبُو طَلْحَةَ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَلْحَدُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ يَشُقُّ. وَاللَّحْدُ هُوَ أَنْ يَحْفِرَ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ إِنْ كَانَتْ تُرْبَةً صُلْبَةً، يُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ ثُمَّ يُوضَعُ عَلَيْهِ اللَّبِنُ ثُمَّ يُهَالُ التُّرَابُ، قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ: أَلْحِدُوا لِي لَحْدًا وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا صُنِعَ برسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا)).
رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: حَضَرْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي
جِنَازَةٍ فَلَمَّا وَضَعَهَا فِي اللَّحْدِ قَالَ: بِسْمِ اللهِ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَخَذَ فِي تَسْوِيَةِ اللَّبِنِ عَلَى اللَّحْدِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَجِرْهَا مِنَ الشَّيْطَانِ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ جَافِ الْأَرْضَ عَنْ جَنْبَيْهَا، وَصَعِّدْ رُوحَهَا وَلَقِّهَا مِنْكَ رِضْوَانًا. قُلْتُ يَا بْنَ عُمَرَ أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَمْ قُلْتَهُ بِرَأْيِكَ؟ قَالَ: إِنِّي إذًا لَقادِرٌ على القولِ! بَلْ شيءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ أَتَى قَبْرَ الْمَيِّتِ فَحَثَا عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا. فَهَذَا مَا تَعَلَّقَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ.
قوله تعالى: {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي} يَجوزُ أنْ تَتَعَلَّقَ هذه اللامُ بـ "يبحث" أي: يَنْبُشُ ويُثيرُ التُرابَ للإِراءَةِ، ويجوزُ أنْ تتعلَّقَ بـ "بَعَثَ"، و"كيف" معمولةٌ لـ "يُوارِي"، وجملةُ الاستفهامِ معلَّقَةٌ للرُؤيَةِ البَصَريَّةِ، فهي في محلِّ المفعولِ الثاني سادَّةٌ مَسَدَّهُ، لأنَّ "رأى" البَصَرِيَّةَ قبلَ تَعَدِّيها بالهمزةِ متعدِّيَةٌ لِواحدٍ فاكتَسَبَتْ بالهمزةِ آخَرَ، وتقدَّم نظيرُها في قوله: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} البقرة: 260. والسَّوْءَةُ هنا المرادُ بها ما لا يَجُوزُ أنْ يَنْكَشِفَ مِنْ جَسَدِهِ، وهي الفَضيحةُ أيْضًا قال أبو زُبَيْدٍ الطَّائيُّ النَّصْرانيُّ:
لَمْ يَهَبْ حُرْمَةَ النَّديمِ وحُقَّتْ .................. يا لَقوْمي لِلسَّوْءَةِ السَّوْآءِ
وسَبَبُه أنَّهُ نَزَلَ رَجُلٌ مِنْ بَني شيْبانَ اسْمُهُ المَكَّاءُ بِرَجُلٍ مِنْ طيِّئٍ
فأَضافَهُ وسَقاهُ، فلمَّا سَكِرَ وَثَبَ إليْه الشَّيبانِيُّ بالسَيْفِ فقتَلَه وخَرَجَ هاربًا. وافْتَخَرَ بَنو شَيْبانَ بِذلكَ فقالَ أَبو زُبيْدٍ قَصيدةً، منها هذا البيتُ، ومنها:
ولَعَمْري لِعارِها كان أَدْنى ..................... لَكم مِنْ تُقًى وَحُسْنِ وَفاءِ ظَلَّ ضَيْفًا أَخوكُمُ لأَخينا ........................ في صَبُوحٍ ونِعْمَةٍ وشِواءِ
ويَجوزُ تَخفيفُها بإلقاءِ حَرَكَةِ الهَمْزَةِ على الواوِ وهي قِراءةُ الزُّهْري، وحِينئذٍ فلا يَجوزُ قَلْبُ هذه الواوِ أَلِفًا وإنْ صَدَقَ علَيْها أَنَّها حَرْفُ عِلَّةٍ مُتَحَرِّكٌ مُنْفَتِحٌ ما قَبْلَه، لأنَّ حَرَكَتَها عارضةٌ، ومثلُها: "جَيَلَ" "وتَوَمَ" مُخَفَّفَيْ جَيْئَلَ وتَوْءَمَ، يَجُوزُ أَيْضًا قلْبُ هذه الهَمْزةِ واوًا، وإدْغامُ ما قَبْلَها فيها تَشبيهًا للأصليِّ بالزائدِ وهي لُغَةٌ، يَقُولون في "شيء" و"ضوء": شيّ، وضوّ، قال:
وإنْ يَرَاوسَيَّةً طاروا بها فَرحاً ............ مني وما سَمِعُوا من صالحٍ دفَنُوا
وبهذا الوجهِ قَرَأَ أَبو جَعْفَرٍ.
قولُه: {يَا وَيْلَتَى} قَلَبَ ياءَ المُتَكَلِّمِ أَلِفًا وهي لُغَةٌ فاشِيَةٌ في المُنادَى
المُضافِ إليْها، وهي إحْدى اللُّغاتِ السِتِّ، وقدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُها، وقُرِئَ كذلكَ على الأَصْلِ، وهي قراءةُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ. والنداءُ وإنْ كانَ أَصلُهُ لِمَنْ يَتَأتَّى مِنْهُ الإِقبالُ وهُمُ العُقَلاءُ، إلَّا أَنَّ العَرَبَ تتَجَوَّزُ فتُنادي ما لا يَعْقِلُ، والمعنى: يا وَيْلَتي احْضُرِي فهذا أَوانُ حُضورُكِ، ومِثْلُهُ: {يا حسرةً عَلَى العِبادِ} يس: 30، و{يا حَسْرَتا على مَا فَرَّطَتُ} الزمر: 56. وأَمَالَ حَمْزَةُ والكسائيُّ وأبو عَمْرٍو في روايةِ الدُورِيِّ أَلِفَ "حَسْرَتا" والجُمْهورُ قَرَأَ "أَعَجَزْتَ" بفتحِ الجيمِ وهي اللُّغَةُ الفَصيحةُ يُقالُ: "عَجَزت" ـ بالفتحِ في الماضي ـ "أعجِزُ" بكسرِها في المضارع. وقَرَأَ الحَسَنُ والفَياضُ وابْنُ مَسعودٍ وطلحةُ بكسرِها وهي لُغَيَّةٌ شاذَّةٌ، وإنَّما المَشهورُ أنْ يُقالَ: "عَجِزَتِ المرَأةُ" بالكَسْرِ، أيْ كَبُرتْ عَجيزتُها. و"أَنْ أكونَ" على إسقاطِ الخافضِ أيْ عَنْ أَكونَ، فلمَّا حُذِف جَرَى فيه الخلافُ المشهور.
قولُه: {فَأُوَارِيَ} قَرَأَ الجُمهورُ بِنَصْبِ الياءِ، عطفًا على "أكونَ" المنصوبةِ بـ "أَنْ" مُنتَظِمًا في سلكِهِ أيْ: أَعَجَزْتُ عنْ كوني مُشْبِهًا للغُرابِ فمُواريًا. أو هو منصوبٌ على جوابِ الاسْتِفهامِ في قولِه: أَعَجَزْتُ يَعني فيَكونُ مِنْ بابِ قولِه: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَا} الأعراف: 53. والنُحاةُ يَشترطون في جوازِ نَصْبِ الفعلِ بإضمار "أنْ" بعدَ الأشياءِ الثَمانيَةِ ـ غيرِ النَفيِ ـ أنْ يَنْحَلَّ الكلامُ إلى شَرْطٍ وجَزاءٍ، فإنْ انْعقدَ منْه شرْطٌ وجَزاءٌ صَحَّ النَّصْبُ، وإلاَّ امْتَنَعَ، ومنه: "أين بيتُك فأزورَك، أي: إنْ عَرَّفْتَني بيتَكَ أَزُرْكَ، وفي هذا المقامِ لو حَلَّ منْه شرطٌ وجزاءٌ لَفَسَدَ المَعنى، إذْ يَصيرُ التَقديرُ: إنْ عَجَزْتَ وارَيْتَ، وهذا ليس بصحيح، لأنّهُ إذا عَجَزَ كيف يُواري.