كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ.
(79)
قَوْلُهُ تَعَالَى شأنُه: {كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ}. كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ: مؤذنٌ باستمرارِ الاعْتِداءِ ومفيدٌ لاستمرارِ عدمِ التَناهي عن المنكر، أَيْ لَا يَنْهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ولا يُمكِنُ استمرارُه إلَّا باستمرارِ تعاطي المنكَراتِ، وقيلَ ليس المرادُ بالتناهي أنْ يَنهى كلٌّ منهمُ الآخَرَ عمَّا يَفعلُه مِنَ المُنكرِ كما هو المَفهومُ من صيغةِ التَفاعُلِ بلْ هو مُجرَّدُ صُدورِ النهيِ عن أشخاصٍ متعدِّدَةٍ مِنْ غيرِ أَنْ يَكون كلُّ واحدٍ منهم ناهيًا ومَنْهِيًّا معًا، كما في قولهم "تراؤا الهِلالَ"، وقيل: التَناهي بمعنى الانتهاءِ وهو مِنْ قولهم: تَناهى عنِ الأمرِ وانتَهى عنه إذا امْتَنَعَ، وفي هذا النَصِّ الكريمِ تفسيرٌ لِلآيةِ السابقةِ، لأنَّه يُبيِّنُ عُمومَ العِصيانِ والاعتِداءِ فيهم، وفيهِ إشارةٌ إلى أنَّ سبَبَ فَسادِ الأُممِ في عُمومِها هو السُكوتُ على المُنكَرِ فيها، والمُنكَرُ هو الأمرُ القبيحُ في ذاتِه والذي نهى عنه الشارِعُ جَلَّ وعَلا، والتناهي يَشمَلُ الانتهاءَ عن اقترافِ الآثامِ، ومعنى النَّصِ على هذا: أنَّهم يَعصون الله تعالى ويُصرون على ذلك، ويَسْتَمِرُّون على فِعلِهم، فلا يَتوبون ولا يَرجِعون. ويَشمَلُ التناهي عن المنكرِ على ثلاثةِ مَعانٍ كلُّها داخلٌ فيه: أولها: أنْ يُوجَدَ فيهم ناهٍ عنِ الشَرِّ يأمُرُهم بالمَعروفِ ويَنهاهُم عنِ المُنْكَرِ، سواءً أَكان الناهي عددًا كبيرًا، أمْ كان عددًا قليلًا، فليستْ الكَثرةُ مَطلوبةً، إنَّما المُرادُ الوُقوعَ منْه. ثانيها: أنْ يَمْنَعَ الفعلَ قبلَ وُقوعِهِ أوْ يُقلِّلَهُ بِدَفْعِ الكثيرِ منْه. ثالثها: أنْ يَستَنكِرَهُ؛ لأنَّ السُكوتَ عنْه رِضا، والنهيُ عنْ المُنْكَرِ بعدَ وُقوعِه إنَّما هو استنكارُه، لأنَّه يَمنَعُ الفِعلَ في المُستقبَلِ. وقدْ
نَسَبَ الفعلَ إليهم أَجمعين إذْ وَقَعَ مِنْ بعضِهم، وسَكَتَ عنْه سائرُهم.
وقيل المُرادُ بالمُنكَرِ: صيدُ السَمَكِ يَومَ السَّبْتِ، وقيلَ المُرادُ: أَخْذُ الرِّشْوَةِ في القضاءِ، وقيل: أكلُ الرِّبا وأَثْمانَ الشُحومِ، والأَوْلى أنْ يُرادَ بِهِ نوعُ المُنْكَرِ مُطْلَقًا، وما يُفيدُهُ التَنوينُ في "منكرٍ" وَحدةٌ نَوْعِيَّةٌ لا شَخْصِيَّةٌ.
وقد أَكَّدَ ـ سبحانَّه وتعالى ـ نِسبةَ الفِعلِ إليهم باللامِ والقَسَمِ المَطْوِيِّ، وذَمَّهم ذَمًّا مُؤكَّدًا، فالفعل بِئسَ يَدُلُّ على الذَمِّ، والذَمُّ كان مُنْصَبًّا على الفِعْلِ رجاءَ إيمانِهم، وقد رَوى ابْنُ مسعودٍ ـ رضيَ اللهُ عنْه ـ فيما أَخرجَ الديلميُّ أنَّ النَبيَّ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ قال: ((مَنْ رضيَ عَمَلَ قومٍ فهو منهم، ومَنْ كَثَّرَ سوادَ قومٍ فهو منهم)). والآيةُ تَدُلُّ على أنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عنِ المُنكَرِ قِوامُ الأُمَمِ، ولا صَلاحَ لهم إلَّا إذا قاموا بحَقِّهِ، ولذلك اعتبرَه القرآنُ الكريمُ خاصَّةَ الأُمَّةِ الإسْلاميَّةِ، وبِه خيرُها، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ).
قولُه: {لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ} ذَمٌّ لِتَرْكِهِمُ النَّهْيَ، وَكَذَا مَنْ بَعْدَهُمْ يُذَمُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ. فقد خَرَّجَ أَبُو دَاوُودَ والتِرمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ أنَّه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ أَوَّلَ مَا يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ـ ثُمَّ قَالَ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: "فاسِقُونَ" ثُمَّ قَالَ: كَلَّا وَاللهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ)). وَمَعْنَى لَتَأْطُرُنَّهُ لَتَرُدُّنَّهُ. وروى الإمامُ ابْنُ حَنبلٍ في مُسْنَدِ الأنصارِ عن حذيفةَ بْنِ اليمانيِّ ـ رضيَ اللهُ عنهُما ـ أنَّ رسول الله ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ قال: ((والذي نفسي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بالمَعروفِ ولَتَنْهَوُنَّ عنِ المُنْكَرِ، أوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبعَثَ عَليكم عِقابًا مِنْ عِندِه، ثمَّ لَتَدْعُنَّهُ فلا يَستجيبُ لكم)). وروى ـ رضي اللهُ عنه ـ في مُسْنَدِ الشاميّينَ عن عَدِيٍّ بْنِ عُميْرةَ الكِنْدِيِّ قولَه ـ عليهِ الصلاةُ والسَلامُ: ((إنَّ اللهَ لَا يُعذِّبُ العامَّةَ بِعَمَلِ الخاصَّةِ حتَّى يَرَوُا المُنكَرَ بيْن ظَهْرانيهم، وهم قادرونَ على أنْ يُنكِروه فلا يُنكروه)). ولقد تَنَبَّأَ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ـ بأنَّ ضَياعَ المُسلِمين عندما يَختفي فيهم الأمرُ بالمعروفِ والنَهيُ عنِ المُنكَرِ، فقد روى أنس بنُ مالك، أنَّ بعضَ صحابةِ رسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلَّمَ ـ سألوه قائلين يا رسولَ اللهِ: متى يُتْرَكُ الأمرُ بالمَعروفِ والنهيُ عنِ المنكَرِ؟ فقال: ((إذا ظَهَرَ فيكم ما ظَهَرَ في الأُمَمِ قبلَكم)). قالوا: يا رسول الله، وما ظَهَرَ في الأممِ قبلَنا؛ قال: ((إذا كان المُلكُ في صِغارِكم، والفاحشةُ في كِبارِكم، والعِلم في رِذالكم)) رواه ابْنُ ماجةَ: في
الفتن، وبنحوه رواه أحمد: في باقي مُسنَدِ المكثرين برقم (12531).
فالأمرُ بالمعروفِ والنَهيُ عنِ المُنكَرِ هو عِصامُ الأُمَّةِ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ لِمَنْ أَطَاقَهُ وَأَمِنَ الضَّرَرَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ خَافَ فَيُنْكِرُ بِقَلْبِهِ وَيَهْجُرُ ذَا الْمُنْكَرِ وَلَا يُخَالِطُهُ. وَقَالَ حُذَّاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ النَّاهِي أَنْ يَكُونَ سَلِيمًا عَنْ مَعْصِيَةٍ بَلْ يَنْهَى الْعُصَاةُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: فُرِضَ عَلَى الذين يتعاطون الكؤوس أَنْ يَنْهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا: لِأَنَّ قَوْلَهُ: "كانُوا لَا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ" يَقْتَضِي اشْتِرَاكَهُمْ فِي الْفِعْلِ وَذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ التَّنَاهِي. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُجَالَسَةِ الْمُجْرِمِينَ وَأَمْرٍ بِتَرْكِهِمْ وَهِجْرَانِهِمْ. وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْيَهُودِ: {تَرى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَ"مَا" مِنْ قَوْلِهِ: "مَا كانُوا" التَّقْدِيرُ لَبِئْسَ شَيْئًا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ أَوْ هي بمعنى الذي.
قولُهُ تعالى: {عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} الجارُّ والمَجرورُ "عَن مُّنكَرٍ" متعلِّقٌ بـ "يَتَناهَوْن" وجملةُ "فَعَلوهُ" صفةٌ لـ "منكر". ومعناهُ لا يتناهَوْن عن مُعاوَدَةِ مُنْكَرٍ فَعَلُوه، أو عن مِثْلِ مِنْكرٍ فَعَلوه من قبلُ، أو عن منكرٍ أرادُوا فِعْلَه.