أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} أَيَنْصَرِفون عَن حُكمِكَ بِما أَنزَلَ اللهُ ويُعرِضون عنْه فيَبْغون حُكمَ الجاهليَّةِ معَ أنَّ ما أَنْزَلَهُ اللهُ إليكَ مِنْ قرآنٍ فيه الأحكامُ العادِلَةُ التي تُرضي كلَّ ذي عقلٍ سَليمٍ، ومَنْطِقٍ قَويمٍ.
وأمَّا أهلُ الجاهِلِيَّةِ وحُكْمُهم فهو ما كانوا عليْه مِنَ المُفاضَلَةِ بيْنَ القتْلى مِنْ بَني النَضيرِ وبني قُريْظَة وقد تقدَّمَ، وما كانوا عليْه مِنَ الضَلالِ والجَوْرِ في الأَحْكامِ ومن ذلك ما كان العربُ يفعلونه في جَاهِلِيَّتِهم حيثُ يَجْعَلُونَ حُكْمَ الشَّرِيفِ خِلَافَ حُكْمِ الْوَضِيعِ، وَكذلك كانَتْ الْيَهُودُ تُقِيمُ الْحُدُودَ عَلَى الضُّعَفَاءِ الْفُقَرَاءِ، وَلَا يُقِيمُونَهَا عَلَى الْأَقْوِيَاءِ الْأَغْنِيَاءِ، فَضَارَعُوا الْجَاهِلِيَّةَ فِي هَذَا الْفِعْلِ. ومِنْ ذلك ما رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: كَانَ إِذَا سَأَلُوهُ عَنْ الرَّجُلِ يُفَضِّلُ بَعْضَ وَلَدِهِ عَلَى بَعْضٍ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ "أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ" فَكَانَ طَاوُسٌ يَقُولُ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَضِّلَ بَعْضَ وَلَدِهِ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَنْفُذْ وَفُسِخَ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مِثْلُهُ، وَكَرِهَهُ، الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ نَفَذَ وَلَمْ يُرَدَّ، وَأَجَازَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَاسْتَدَلُّوا بِفِعْلِ الصِّدِّيقِ فِي نَحْلِهِ عَائِشَةَ دُونَ سَائِرِ وَلَدِهِ، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((فَارْجِعْهُ)) وَقَوْلُهُ: ((فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي)). وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ لِبَشِيرٍ: ((أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا)) قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ: ((أَكُلُّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مثلَ هذا)) فقال لا، قَالَ: ((فَلَا تُشْهِدُنِي إِذًا فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ)) فِي رِوَايَةٍ ((وَإِنِّي لَا أَشْهَدُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ)). قَالُوا: وَمَا كَانَ جَوْرًا وغيرَ حقٍّ فهو باطلٌ لا يَجوزُ.
فقد البخاريُّ ومُسْلمٌ النَّسَائيُّ وغيرُهم مِن حديثِ النُعْمانِ بْنِ بَشيرٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ أَنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ، سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ لِابْنِهَا، فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً ثُمَّ بَدَا لَهُ، فَقَالَتْ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى مَا وَهَبْتَ لِابْنِي، فَأَخَذَ أَبِي بِيَدِي وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمَّ هَذَا بِنْتَ رَوَاحَةَ أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لِابْنِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟)) قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: ((أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟)) قَالَ: لَا، قَالَ: ((فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا، فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ)) روايةُ مُسلمٍ. وهذا في جميعِ الأصولِ وهو كما يُرى دَليلٌ للأوَّلينَ. وقوله: ((أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي)) كما هو في روايةٍ أخرى لَيْسَ إِذْنًا فِي الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا هُوَ زَجْرٌ عَنْهَا، لِأَنَّهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ قَدْ سَمَّاهُ جَوْرًا وَامْتَنَعَ مِنَ الشَّهَادَةِ فِيهِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ. وَأَمَّا ما وَرَدَ عن أنَّ أَبا بَكْرٍ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ قد نحلَ بعضَ أبنائه، فَلَا يُعَارَضُ بِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَلَعَلَّهُ قَدْ كَانَ نَحَلَ أَوْلَادَهُ نُحْلًا يُعَادِلُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَصْلُ تَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي مَالِهِ مُطْلَقًا، قِيلَ لَهُ: الْأَصْلُ الْكُلِّيُّ وَالْوَاقِعَةُ الْمُعَيَّنَةُ الْمُخَالِفَةُ لِذَلِكَ الْأَصْلِ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا كَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ. وَفِي الْأُصُولِ أَنَّ الصَّحِيحَ بِنَاءُ الْعَامِ عَلَى الْخَاصِّ، ثُمَّ إِنَّهُ قد يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ الْعُقُوقُ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَى الْمُحَرَّمِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ)). قَالَ النُّعْمَانُ: فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ، وَالصَّدَقَةُ لَا يَعْتَصِرُهَا (يَرْتَجِعُها) الْأَبُ بِالْإِنْفَاقِ وَقَوْلُهُ: ((فَارْجِعْهُ)) مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى فَارْدُدْهُ، وَالرَّدُّ ظَاهِرٌ فِي الْفَسْخِ، كَمَا قَالَ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)). خرجه البخاريُّ ومُسلمٌ عن عائشةَ أمِّ المؤمنين ـ رضي الله عنها. و"رَدٌّ" أَيْ مَرْدُودٌ مَفْسُوخٌ. وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ، وَتَرْجِيحٌ جَلِيٌّ فِي الْمَنْعِ.
قولُهُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقومٍ يُوقِنون} أيْ لا يَكونُ حُكْمُ أَحَدٍ أَحْسَنَ مِنْ حُكْمِ اللهِ أوْ مُسَاوٍ لَهُ عندَ أَهلِ اليَقينِ، لا عندَ أهلِ الجهلِ والغِوايةِ والأَهواءِ، وإنْ كان ظاهرُ السَبْكِ غيرَ مُتَعَرِّضٍ لِنَفْيِ المُساواةِ وإنْكارِها.
قولُه تعالى: {أَفَحُكْمَ الجاهليَّةِ يَبغونَ} استفهام إنكاريٌّ توبيخيٌّ، والفاءُ مؤخَّرةٌ على الهَمْزَةِ وأَصلُها التَقديمُ، وقُدِّمَتْ الهمزةُ، لأنَّ الاستفهامَ لَه الصَدارةُ في الذِكْرِ دائمًا، أوْ قَبْلَها جُملةٌ عَطَفَتْ ما بعدَها عليْها والتقديرُ: أَيَعْدِلون عنْ حُكمِكَ فيَبْغون حُكْمَ الجاهلية؟ و"حُكمَ" مَفعولٌ مُقدَّمٌ، قدَّمَه ـ سبحانَه ـ لإِفادة التخصيصِ المُفيدِ لتأكيدِ الأنكارِ والتَعجيبِ مِنْ أَحوالِ أُولئكَ اليهودِ الذين يُريدون حُكمَ الجَاهليَّةِ. و"يبغون" فِعْلٌ وفاعلٌ، وهو المستفهم عنه في المعنى، الجمهورُ على ضمِّ الحاءِ وسُكونِ الكافِ ونَصْبِ الميمِ، وهي قراءةٌ واضحةٌ. وقَرَأَ ابْنُ وثاب الأَعرجُ وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن برفعِ الميم، على أنَّه مبتدأٌ، خبرهُ "يبغون"، وعائدُ المُبتدأِ محذوفٌ تقديرُه: "يَبْغُونه" حمْلًا للخبرِ على الصِلَةِ. إلَّا أَنَّ بعضَهم جعلَ هذه القراءةَ خَطأً، حتى قال أبو بكر بْنُ مُجاهِد: "هذه القراءةُ خطأٌ" وجعلَها غيرُه ضَعيفةً، ولا تبلغُ درجةَ الخَطأِ، قالَ ابْنُ جِنّي في قولِ ابْنِ مُجاهدٍ: ليس كذلك، ولكنَّه وَجْهٌ غيرُه أَقوى منه، وقد جاء في الشعرِ، قال أبو النَّجمِ:
قد أصبحَتْ أمُّ الخيارِ تَدَّعي .................... عليَّ ذَنْبًا كلُّه لَمْ أَصْنَعِ
أي: لم أَصنعْه. قال ابنُ عطيَّةَ: هكذا الراويةُ وبِها يَتِمُّ المَعنى الصحيح، لأنَّه أَرادَ التبرُّؤَ مِنْ جميعِ الذُنوبِ، ولو نَصَبَ "كلّ" لَكانَ ظاهرُ قولِه أَنَّه صَنَعَ بعضَه. وهذا معنًى صحيحٌ نَصَّ عليْه أهلُ عِلْمِ المَعاني والبيان، واسْتَشْهدوا على ذلك بقولِه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ حين سألَه ذو اليَديْن فقال: "أَقَصَرْتَ الصلاةَ أمْ نَسيتَ؟ فقال: ((كلُّ ذلك لم يَكُنْ)) أرادَ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ انْتِفاءَ كلِّ فردٍ فردٍ، وأَفادَ هذا المَعْنى تقديمُ "كلّ" قالوا: ولو قال: "لم يَكنْ كلُّ ذلك" لاحْتَمَلَ الكلامُ أنَّ بعضَه غيرُ مَنْفِيٍّ، وهذِه المَسألةُ تُسَمَّى عُمومَ السَلْبَ، وعَكسُها نحو: لمْ أَصنعْ كلَّ ذلك. يُسَمَّى سلبَ العمومِ، وإنْ كان بعضُ الناسِ قد فَهِمَ عنْ سِيبويْهِ غيرَ ذلك.
ثمَّ قالَ ابْنُ عَطيَّةَ: وهو قبيحٌ ـ يَعني حَذْفَ العائدِ مِنَ الخبر ـ وإنَّما يُحْذَفُ الضميرُ كثيرًا مِنَ الصِلَةِ، ويُحْذَفُ أقلَّ مِنْ ذلك مِنَ الصِفَةِ، وحَذْفُه مِنَ الخَبَرِ قَبيحٌ. لكنه رجَّحَ البيتَ على هذه القراءةِ بوجهيْن، أحدُهما: أنَّه ليس في صَدْرِ قولِهِ أَلفُ اسْتِفهامٍ تَطْلُبُ الفِعلَ كما هي في "أفحكم"، والثاني: أنَّ في البيتِ عِوضًا مِنَ الهاءِ المَحذوفةِ وهو حرفُ الإطلاق، أَعني الياءَ في "اصنعي" فتَضعُفُ قراءةُ مَنْ قَرَأَ "أَفَحُكمُ الجاهليَّةِ يَبْغون" وهذا الذي ذَكرَهُ ابْنُ عَطيَّةَ في الوجهِ الثاني كلامٌ لا يُعْبَأُ بِه، وأمَّا الأوَّلُ فهو قريبٌ مِنَ الصَوابِ، لكنَّه لَمْ يَنْهَضْ في المَنْعِ ولا في التَقبيحِ، وإنَّما يَنْهَضُ دَليلًا عنِ الأَحْسَنِيَّةِ أَوْ على أَنَّ غيرَه أَوْلى منْه، وهذه المَسألَةُ ذَكَرَ بعضُهُمُ الخِلافَ فيها بالنسبةِ إلى نَوعٍ، ونَفَى الخلافَ فيها ـ بل حَكى الإِجماعَ على الجَوازِ ـ بالنِسبةِ إلى نوعٍ آخَرَ، فحَكى الإِجماعَ فيما إذا كان المُبتَدأُ لَفْظَ "كلّ" أو ما أَشبَهَها في العُمومِ والافْتِقارِ، فأَمَّا "كلّ" فنَحوَ: "كلُّ رجلٍ ضربتُ" وتُقويه قِراءةُ ابْنِ عامرٍ: {وكُلٌّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنى} ويُريدُ بِما أَشْبَهَ "كلًا" نحو: رجلٌ يقولُ الحقَّ انصرْ. أي: انْصُرْهُ، فإنَّه عامٌّ ويَفتقرُ إلى صِفةٍ، كما أَنَّ "كلًّا" عامَّةٌ وتَفْتَقِرُ إلى مُضافٍ إليْه، قال: وإذا لم يَكُنِ المُبْتَدَأُ كذلك فالكُوفِيُّون يَمْنَعون حذفَ العائدِ، بلْ يَنْصِبونَ المُتقدِّمَ مَفعولاً بِه، والبَصْرِيُّونَ يُجيزون: "زيدٌ ضربتُ" أيْ ضَرَبتُه، وقال بعضُهم: لا يَجوزُ ذلك إلَّا في ضرورةِ شِعْرٍ كقول الأسودِ بْنِ يَعْفُر:
وخالدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا ........................ بالحقِّ ، لا يُحْمَدُ بالباطلِ
قال: لأنَّه يُؤدِّي إلى تَهيِئَةِ العاملِ للعَمَلِ وقَطْعِهِ عنْه.
ثَمَّةَ وجه ثانٍ في "يَبْغونَ" بأنْ يَكونَ صِفةً لِمَوْصوفٍ مَحذوفٍ، وذلك المحذوفُ هو الخَبَرُ، وحَذْفُ العائِد هنا أكثرُ لأنَّه يَكثُرُ حَذْفُه مِنَ الصِلَةِ كما تقدَّمَ، ودُونَه مِنَ الصِفةِ ، ودونَه مِنَ الخَبَرِ، وهو تخريجٌ ممكنٌ، نَظَّرَهُ ابْنُ عطيَّةَ بقولِهِ تعالى: {مِنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ} النساء: 46. أي: قومٌ يُحَرِّفون، يَعني في حذفِ موصوفٍ وإقامةِ صِفتِهِ مُقامَه، وإلَّا فالمَحذوفُ في الآيةِ المُنَظَّرِ بِها مُبْتَدأٌ، ونظَّرها أيْضًا بقول ابْنِ مُقْبِلٍ:
وما الدهرُ إلا تارتانِ : فمنهما ......... أموتُ وأُخْرى أبتغي العيشَ أكدحُ
أي: تارةً أَموتُ فيها.
وإسقاطُ الراجعِ عنْه كإسقاطِه في الصِلَةِ، كقولِه: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً} الفرقان: 41. وعن الصفةِ: في الناس رجُلان: رجلٌ أهنْتُ، ورجلٌ أكرمت. أي: رجلٌ أهنتُه ورجلٌ أكرمتُه، وعن الحالِ في نحو: مررتُ بهندٍ يَضرِبُ زيدٌ.
وقرأ الأعمش وقَتادة: "أَفَحَكَمَ" بفتح الحاء والكافِ ونَصْبِ الميمِ، وهو مُفردٌ يُرادُ بِه الجِنْسُ لأنَّ المعنى: أحُكَّامَ الجاهلية، ولا بُدَّ مِنْ حذفِ مُضافٍ في هذه القراءةِ هُو المُصَرَّحُ بِهِ في المُتَواترةِ تقديرُه: أَفَحُكْمَ حُكَّامِ الجاهليَّةِ.
والقُرَّاءُ غيرَ ابنِ عامرٍ على "يَبْغُون" بياءِ الغيبةِ نَسَقًا على ما تقدَّمَ مِنَ الأسماءِ الغائبةِ. وقَرَأَ هو بِتاءِ الخِطابِ على الالْتِفاتِ لِيَكونَ أَبْلَغَ في زَجْرِهم وَرَدْعِهِم ومباكَتَتِه لهم، حيثُ واجهَهم بهذا الاستفهامِ الذي يَأْنَفُ
منه ذَوُو البَصائِرِ.
قولُهُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقومٍ يُوقِنون} استفامٌ للإنكارِ أيضًا، فيه إنكارٌ للوُقوعِ، أيْ أنَّه بمَعنى النَفْيِ المُؤكَّدِ، كأنَّه اسْتَفهَم عنْ أَنْ يَكونَ ثَمَّةَ مَنْ هو أَحسنُ حُكْمًا مِنَ اللهِ، فأُجيبَ بالنَفْيِ المُؤكَّدِ الذي لَا يُتَصوَّرُ فيه أنْ يَكونَ مَنْ هو أَحسنَ حُكْمًا، و"حُكْمًا" نصبٌ على التمييزِ. ولامُ "لقومٍ" إمًا أنْ يَتَعلَّقَ بـ "حكمًا" إذِ المَعنى أنَّ حُكمَ اللهِ للمُؤمنِ على الكافر، أو أنَّها للبَيانِ فتَتَعَلَّقُ بمحذوفٍ، كهِيَ في "سُقْيًا لك" و{هَيْتَ لَكَ} يوسف: 23. وهو رأيُ الزَمخشريّ، وقال ابْنُ عَطِيَّةَ شيئًا قريبًا منه، وهو أنَّ المَعنى: يُبَيِّنُ ذلك ويُظْهِرُه لقوم. أو أنَّ "لـ" بمَعنى "عند" أي: عند قومٍ وهذا ليس بشيءٍ. ومتعلَّقُ "يوقنون" يَجوزُ أَنْ يُرادَ، وتقديرُه: يُوقِنونَ باللهِ وبِحُكْمِهِ، أوْ بالقرآن، ويَجوزُ ألاَّ يُرادَ على معنى وُقوعِ الإِيقانِ، وإليْه مَيْلُ الزَجَّاجِ فإنَّه قال: يوقنون: يَتبيَّنون عَدْلَ اللهِ في حُكمِهِ.