لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَللهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الآيةُ: رَدٌّ على الذين قالوا: إنَّ اللهَ هو عيسى، وهمُ النَّصارى، وإِنَّمَا كَانَ كُفْرُ النَّصَارَى بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ عَلَى جِهَةِ الدَّيْنُونَةِ بِهِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوهُ عَلَى جِهَةِ الْحِكَايَةِ مُنْكِرِينَ لَهُ لَمْ يَكْفُرُوا. وهذه الصيغةُ هي الأبلَغُ مِنْ وجْهينِ: الوجهُ الأولُ: لاقْتِضائِه حَصْرَ الألوهيةِ في عيسى ـ عليه السلامُ ـ فإنَّ قولَكَ: الخَليفةَ أبو بَكْرٍ، أَبْلَغُ مِنْ قولِك: أبو بَكْرٍ الخَليفةُ؛ لاقتِضائهِ حَصْرَ الخِلافَةِ في أبي بَكْرٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ وهذا كقولك أيضًا: الكريمُ زيدٌ، أيْ حقيقةُ الكَرَمِ في زَيْدٍ، وعلى هذا قولهم: إنَّ اللهَ ـ تعالى ـ هو المسيحُ. والوجهُ الثاني: هو البناءُ على الضمير "هو"، فضميرُ الفَصْلِ يُفيدُ الحَصْرَ.
قولُه: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا} قُلْ: أمرٌ مِنَ اللهِ، يا مُحَمَّدُ تَبْكيتًا لهم، وإظهارًا لِبُطلانِ قولِهِمُ الفَاسدِ وإلقامًا لَهُمُ الحَجَرَ، وقد يُقالُ: الخطابُ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ قولِ ذلك. وَ"يَمْلِكُ" بِمَعْنَى يَقْدِرُ، مِنْ قَوْلِهِمْ مَلَكْتُ عَلَى فُلَانٍ أَمْرَهُ أَيِ اقْتَدَرْتُ عَلَيْهِ. أَيْ فَمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؟ فَأَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَسِيحَ لَوْ كَانَ إِلَهًا لَقَدَرَ عَلَى دَفْعِ مَا يَنْزِلُ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَقَدْ أَمَاتَ أُمَّهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ دَفْعِ الْمَوْتِ عَنْهَا، فَلَوْ أَهْلَكَهُ هُوَ أَيْضًا فَمَنْ يَدْفَعُهُ عَنْ ذَلِكَ أَوْ يَرُدُّهُ.
قولُه: {وللهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما} وَالْمَسِيحُ وَأُمُّهُ بَيْنَهُمَا مَخْلُوقَانِ مَحْدُودَانِ مَحْصُورَانِ، وَمَا أَحَاطَ بِهِ الْحَدُّ وَالنِّهَايَةُ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلَهِيَّةِ. وهو كالدليلِ على الدليلِ، أيْ الدليلُ على أنَّ اللهَ تعالى هو المَلِكُ القادرُ عليهم أنَّه مَلِكُ جميعِ مَنْ في السَماواتِ ومَنْ في الأرض.
وَقَالَ: "وَما بَيْنَهُما" وَلَمْ يَقُلْ وَمَا بَيْنَهُنَّ، لِأَنَّهُ أَرَادَ النَّوْعَيْنِ وَالصِّنْفَيْنِ كَمَا قَالَ الرَّاعِي:
طَرَقَا فَتِلْكَ هَمَاهِمِي أَقْرِيهِمَا ................ قُلُصًا لَوَاقِحَ كَالْقِسِيِّ وَحُوَّلَا
فَقَالَ: "طَرَقَا" ثُمَّ قَالَ: "فَتِلْكَ هَمَاهِمِي". وهماهِمي: هُمُومي. وقُلُصٌ: جَمعُ قَلوص، وهي الفَتيَّةُ مِنَ الإبل. حُوَّلٌ، جمعُ حائلٍ: وهي التي
حُمِلَ عليها فلَم تَلْقَحْ، وقيلَ هي الناقةُ التي تَحمِلُ سَنَةً أوْ أكْثر.
قولُه: {يَخْلُقُ مَا يَشاءُ} فخَلَقَ عِيسَى مِنْ أُمٍّ بِلا أَبٍ آيةً لِعِبادِه. يَقُولُ تَعَالَى في هذه الآيةِ إنَّ الذِينَ قَالُوا : إنَّ المَسِيحَ عِيسَى بِنْ مَرْيَمَ هُوَ اللهُ، قَدْ كَفَرُوا بِذَلِكَ القَوْلِ، لأنَّ المَسْيحَ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَخَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: مَنْ ذَا الذِي يَقْدِرُ أَنْ يَمْنَعَ المَسْيِحَ وَأُمَّهُ مِنَ اللهِ، وَأنْ يَحْمِيَهُمَا مِنْهُ إنْ أرَادَ اللهُ أنْ يُهْلِكَهُمَا؟ بَلْ مَنْ يَسْتَطِيعُ أنْ يَعْتَرِضَ سَبِيلَ إِرَادَةِ اللهِ إنْ أَرَادَ أنْ يُهْلِكَ جَميعَ مَنْ فِي الأَرْضِ مِنَ الخَلاَئِقِ؟ فَاللهُ هُوَ مَالِكُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَهُوَ القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَلا مُعَقِّبَ عَلَى تَصَرُّفِهِ، فَإِذَا كَانَ الأمْرُ قَدِ التَبَسَ عَلَى هَؤُلاءِ بِسَبَبِ خَلْقِ عِيسَى مِنْ دُونِ أبٍ، فَإنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ دُونِ أبٍ وَلاَ أمٍّ.
قولُه تعالى: {فَمَن يَمْلِكُ} الفاءُ عاطفةٌ عَطَفَتْ هذه الجُمْلةَ على جملةٍ مقدَّرةٍ قبلَها، والتقديرُ: قُل كَذَبوا ـ أَوَلَيْسَ الأمرُ كذلك ـ فمن يملِكُ؟ وقيل: الفاء جوابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أيْ إنْ كان ما قالوه حَقًّا فمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شيْئًا، وهذا استِدلالٌ بمَقدِّمةٍ إمَّا جُمَلِيَّةٍ، وإمَّا شَرْطِيَّةٍ، فتَقديرُ الجُمَلِيَّةِ: كلٌّ قابلٌ للهَلاكِ غيرُ اللهِ، والمَسيحُ ابْنُ مَريَمَ قابلٌ للهَلاكِ فليْس بإلِهٍ،
وتقديرُ الشَرْطِيَّةِ: كلَّما كان المسيحُ ابنُ مريمَ قابِلًا للهَلاك كانَ غيرَ إلهٍ.
وقولُه: {مِنَ اللهِ} مُتَعَلِّقٌ بالفِعْلِ قبلَه. وقيلَ هو حالٌ مِنْ "شيئًا" يَعني مِنْ حيثُ إنَّه كان في الأَصلِ صِفَةً للنَكِرَةِ فقُدِّمَ عليْها فانْتَصَبَ حالًا، وفيه
بُعْدٌ.
وقولُه: {فَمَنْ} اسْتِفهامُ تَوبيخٍ وتقريرٍ، وهو دَالٌّ على جَوابِ الشَرْطِ بعدَه عندَ الجُمهورِ.
وقولُه: {وَمَن فِي الأرضِ جميعًا} مِنْ بابِ عطفِ العامِّ على الخاصِّ حتّى يُبالِغَ في نَفْيِ الإِلهيَّةِ عنْهُما، فكأنَّه نَصَّ عليْهِما مَرَّتيْنِ مَرَّةً بذِكرِهِما مُفرَديْن، ومَرَّةً بانْدِراجِهِما في العُمومِ. و"جميعًا" حالٌ مِنَ المَسيحِ وأمِّهِ ومَنْ في الأرضِ، أو مِنْ "مَنْ" وحدَها لِعُمومِها، ويَجوزُ أنْ تَكونَ مَنصوبَةً على التوكيدِ مثلُ "كلَّ"، وذَكَرَها بعضُ النَّحْويّين مِنْ أَلفاظِ التَوكيدِ. وقولُه: {يَخْلُق} جملةٌ لا محلَّ لها لاستِئنافِها.