وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. (47)
قولُه ـ تباركت أسماؤه: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ} أمرٌ منه ـ سبحانَه وتعالى ـ لأهلِ الإنجيلِ وهمُ النَصارى الذين آمنوا بسيدنا عيسى ـ عليه السلامُ ـ وبالإنجيل الذي أَنْزَلَه عليه ربُّه بأنْ يَحْكُموا به ويَعمَلوا بِما فيه مِنَ الأُمورِ التي مِنْ جُمْلَتِها دَلائلُ رِسالتِه ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ وما قرَّرَتْهُ شريعتُه الشَريفةُ مِنْ أَحكامِه، وأمَّا الأحكامُ المنسوخةُ فليس الحُكْمُ بها حُكْمًا بِما أَنزلَ اللهُ بلْ هو إبْطالٌ وتَعطيلٌ لَهُ، وقيل: هو حكايةٌ للأمَرِ الوارِدِ عليهم بتقديرِ فعلٍ مَعطوفٍ على {آتيناه} الآية السابقة أي وقلنا لِيَحْكُمَ أَهلُ الإنجيلِ؛ وحذفُ القولِ لِدَلالةِ ما قبلَه عَليْه كَثيرٌ في الكلامِ، ومنْه قولُه تعالى: {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ * سلامٌ عَلَيْكُمُ} الرعد: 23 ، 24. أي قائلين أو ويقولون "سلامٌ عليكم".
قولُه: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} أي المُتَمَرِّدون الخارجونَ عنْ حُكمِهِ أوْ عنِ الإيمان، وقد تقدَّمَ، والجُمْلةُ تَذييلٌ مقرِّرٌ لِمَضمونِ الجُملةِ السابقةِ ومؤكِّدةٌ لِوُجوبِ الامتثالِ بالأمرِ، والآيةُ تَدُلُّ على أنَّ الإنجيلَ مُشتَمِلٌ على الأَحكامِ، وأنَّ عيسى ـ عليْه السلامُ ـ كان مُسْتَقِلًّا بالشرْعِ مَأْمورًا بالعَمَلِ بما فيهِ مِنْ الأَحكامِ قلَّتْ أوْ كَثُرَتْ لا بِما في التوراةِ خاصَّةً، ويَشهَدُ لذلك ما رواه البُخاريِّ: ((أُعْطِيَ أَهْلُ التوراةِ التوراةَ فعمِلوا بِها، وأَهلُ الإنْجيلِ الإنجيلَ فعَمِلوا بِهِ)). وخالف في ذلك بعضُ الفُضلاءِ، ففي "المِلَلِ والنِحَلِ" للشَهَرَسْتانيِّ: (جميعُ بني إسرائيلَ كانوا مُتعبِّدين بِشريعةِ مُوسى ـ عليه السَّلامُ ـ مُكلَّفين التزامَ أَحكامِ التوراةِ والإنْجيلِ النازلِ على المَسيحِ ـ عليْه السَّلامُ ـ لا يَحْتَضِنُ أَحكامًا ولا يَسْتَبْطِنُ حلالًا وحرامًا، ولكنَّهُ رُموزٌ وأَمثالٌ ومَواعِظُ وما سِواها مِنَ الشرائعِ والأَحكامِ مُحالٌ على التوراةِ، ولهذا لم تَكُنِ اليهودُ لِتَنْقادَ لِعيسى ـ عليه الصلاةُ والسلامُ).
قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ} قرأَ الجُمهورُ بِسُكونِ اللَّامِ وجَزْمِ الفِعْلِ بعدَها على أنَّها لامُ الأمْرِ سُكِّنَتْ تَشبيهًا بـ "كَتْف" وإن كان أصلُها الكَسْرَ، وقد قرَأَ بعضُهم بهذا الأصلِ. وقرأَ حمزة ـ رحِمَهُ اللهُ ـ بكسرِها ونَصْبِ الفِعلِ بعدَها، جَعَلَها لامَ كي، فنَصبَ الفعلَ بعدَها بإضمارِ "أن" على ما تَقَرَّرَ غيرَ مَرَّةٍ، فعلى قراءةِ الجُمهورِ والشاذِّ تَكونُ جُملةً مُستأنَفَةً، وعلى قراءةِ حمزة يَجوزُ أنْ تتعلَّقَ اللامُ بـ "آتينا" أو بـ "قَفَّيْنا" إنْ جَعَلْنا "هدى وموعظة" مفعولًا لهُما أي: قَفَّيْنا للهُدى والمَوْعِظَةِ وللحُكْمِ، أوْ آتيناه الهُدى والمَوعظةَ والحُكمَ، وإنْ جَعلناهُما حاليْن مَعطوفيْن على "مُصدِّقاً" تَعَلَّقَ "وليحكم" في قراءتِه بمحذوفٍ دَلَّ عليْهِ اللَّفظُ كأنَّه قيلَ: وللحُكْمِ آيتناه ذلك. قال الزمخشري: فإنْ قلتَ: فإنْ نَظَّمْتَ "هدًى وموعظةً" في سِلْك "مُصَدِّقًا" فما تَصنَعُ بقولِه: "وليحكم"؟ قلتُ: أَصنَعُ بِه ما صنعتُ بـ "هدى وموعظة" حيثُ جعلتُهما مفعولاً لَهما فأُقدِّرُ: "وليحكم أهلُ الإِنجيلِ بما أَنزلَ اللهُ آتيناهُ إيَّاهُ" وقال ابْنُ عطيَّةَ قريبًا مِنَ الوجهِ الأوَّلِ ـ أعني كون "وليحكم" مفعولًا له عطفًا على "هدى" والعاملُ "آتيناه" الملفوظُ به ـ فإنَّه قال: "وآيتناهُ الإِنجيلَ لِيَتَضَمِّنَ الهُدى والنُورَ والتَصديقَ ولْيَحْكُمَ أَهلُ الإِنجيلِ" قال الشيخ: فعطفَ "وليحكم" على توهُّمِ عِلَّةٍ، ولذلك قال: "ليتضمن" وذكر الشيخُ قولَ الزمخشريّ السابقَ، وجَعَلَهُ أَقْرَبَ إلى الصوابِ مِنْ قولِ ابْنِ عطيَّةَ، قال: "لأنَّ الهدى الأوَّلَ والنورَ والتصديقَ لَمْ يُؤتَ بها على أنَّها عِلَّةٌ، إنَّما جِيءَ بقولِه: {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} على معنى كائنًا فيه ذلك ومصدِّقًا، وهذا معنى الحال، والحالُ لا تكونُ علةً، فقولُه: "ليتضمَّن كيتَ وكيت وليحكم" بعيدٌ.
وقد خُتِمت الآيةُ الأولى بـ "الكافرون" والثانية بـ "الظالمون" والثالثة بـ "الفاسقون" لمناسباتٍ أحْسَنُ ما قيلَ فيها ما ذَكَرَهُ الشَعْبيُّ مِنْ أَنَّ الأُولى في المسلمين، والثانيةَ في اليهودِ، والثالثةَ في النَّصارى، وذلك أنَّ قبلَ الأُولى {فإنْ جاؤوك فاحكُمْ} و{كيف يُحَكِّمونك} و{يَحْكُم بها النبيّون} وقبل الثانيةِ: {وكَتَبْنا عليهم} وهمُ اليَهودُ، وقبلَ الثالثة: "وليحكم أهل الإِنجيل" وهم النَصارى، فكأنَّه خَصَّ كلَّ واحدةٍ بما يَليه. وقرأ أُبيّ: "وأنْ لِيَحكم" بزيادةِ "أن"، وليسَ مَوْضِعَ زِيادتِها.