روضة الشاعر عبد القادر الأسود
بعد الصلاة على الرحمة المهداة

أهلا وسهلا بك في روضتنا

يسرنا تسجيلك

روضة الشاعر عبد القادر الأسود
بعد الصلاة على الرحمة المهداة

أهلا وسهلا بك في روضتنا

يسرنا تسجيلك

روضة الشاعر عبد القادر الأسود
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

روضة الشاعر عبد القادر الأسود

منتدى أدبي اجتماعي يعنى بشؤون الشعر والأدب والموضوعات الاجتماعي والقضايا اللإنسانية
 
مركز تحميل الروضةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
بسـم الله الرحمن الرحيم  :: الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم ولا الضــالين ....  آميـــن

 

 فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 110

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبد القادر الأسود

¤° صاحب الإمتياز °¤
¤° صاحب الإمتياز °¤
عبد القادر الأسود


عدد المساهمات : 3986
تاريخ التسجيل : 08/09/2011
العمر : 76
المزاج المزاج : رايق
الجنس : ذكر
فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 110 Jb12915568671



فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 110 Empty
مُساهمةموضوع: فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 110   فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 110 I_icon_minitimeالأحد أكتوبر 20, 2013 11:31 am

إِذْ قالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ

(110)

قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ قالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} فِي ذَلِكَ المَوْقِفِ يُنَادِي اللهُ تَعَالَى عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ، مِنْ بَيْنِ الرُّسُلِ، فَيُذَكِّرُهُ تَعَالَى بِمَا مَنَّ بِهِ عَلَيهِ، مِمَّا أجْرَاهُ عَلَى بَدَيْهِ مِنَ المُعْجِزَات، وهَذَا مِنْ صِفَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فكَأَنَّهُ قَالَ: اذْكُرْ يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ وَإِذْ يَقُولُ اللهُ لِعِيسَى "اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ" وإِنَّمَا ذَكَّرَ اللهُ تَعَالَى عِيسَى نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَتِهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِيَتْلُوَ عَلَى الْأُمَمِ مَا خَصَّهُمَا بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَمَيَّزَهُمَا بِهِ مِنْ عُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ. الثَّانِي: لِيُؤَكِّدَ بِهِ حُجَّتَهُ، وَيَرُدَّ بِهِ جَاحِدَهُ. ثُمَّ أَخَذَ فِي تَعْدِيدِ  نِعَمِهِ، والتذكيرُ بِالنِّعَمِ يَسْتدعي الحُبَّ للمُنْعِمِ.

قَولُه: {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ} يَعْنِي قَوَّيْتُكَ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَيْدِ وَهُوَ الْقُوَّةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وفي "بِرُوحِ الْقُدُسِ" وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الرُّوحُ الطَّاهِرَةُ الَّتِي خَصَّهُ اللهُ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} النساء: 171. الثَّانِي: أَنَّهُ جِبْرِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ وَهُوَ الْأَصَحُّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي "الْبَقَرَةِ". "تُكَلِّمُ النَّاسَ" يَعْنِي وَتُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، وَفِي الْكُهُولَةِ نَبِيًّا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي هَذَا فِي آلِ عِمْرَانَ فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ.

ولماذا إذًا يَجْمَعُ اللهُ كلَّ الرُّسُلِ ويَسألُهم سُؤالًا على الإجْمالِ، ثمَّ لِماذا يَسْألُ عيسى ابْنَ مَرْيَمَ سؤالًا خاصًّا عنْ حادثةٍ مخصوصة؟ فقد أَرادَ الحقُّ بذلك أنْ يُعَلِّمَنا أَنَّه سَيَسْألُ الرُسُلَ سُؤالُا يُوضِحُ لَنا أَدَبَ الرُسِلِ مَعَ الحَقِّ ـ سبحانه وتعالى ـ ويُبَيِّنُ لَنا تَقْريعَ الحَقِّ لِمَنْ كفروا به ـ جلَّ وعلا، أمَّا سؤالُهُ لعيسى ابْنِ مَرْيمَ، ذلك السؤالَ الخاصَّ عن حادثةٍ بعينِها، فَمَرَدُّه إلى أَنَّ بعضَ الذين آمنوا بِهِ قد وَضَعوهُ في مَوْضِعِ الأُلوهيَّةِ أوْ بُنُوَّةِ الأُلوهيَّةِ، وفي ذلك تعدٍّ على التَنْزيه المُطلَقِ للحَقِّ ـ تعالى جَدُّه. والأممُ السابِقَةُ بعضُها كَفَرَ بالرُسُلِ، وبَعضُها كذَّبهم ، لكنْ لمْ يَدَّعِ أحدٌ من هذه الأُمَمِ أنَّ رسولَهم إلهٌ، وإنْ كان بعضُ فِرَقِ اليَهودِ قال: إنَّ عُزيرًا ابنُ اللهِ فقد انقرضت هذه الفُرْقةُ ولم يَبْقَ يهوديٌّ يَقولُ ذلك، وقد جعلَ ـ سبحانه ـ الشِرْكَ بِهِ قِمَّةَ الكُفرِ الذي لا غُفرانَ له.

فكأنَّ عيسى ـ عليه السلامُ ـ سيواجِهُ السؤالَ ضِمْنَ الرُسُلِ، ثمَّ يَسألُه الحقُّ هذا السؤالَ الخاصَّ به. ويُقدِّمُ الحقُّ السؤالَ لِعيسى ابْنِ مَريَمَ بعدَ أنْ يذكِّرُه بِنعمه عليه وعلى أُمِّهِ ـ عليهما السلام.

قوله: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلًا} يُذَكِّرُ الحقُّ ـ سبحانَه وتعالى ـ رسولَه عيسى ـ عليه السلامُ ـ ببعضٍ من نِعَمِه عليه وهي: التَأييدُ بِروحِ القُدُسِ وهو سيِّدُنا جِبريلُ ـ عليْه السلامُ ـ والكلامُ في المَهْدِ بما يُبَرِّئُ أُمَّ عيسى السيدة مَرْيَمَ ـ عليهما السلامُ ـ مِمَّا أَلْصَقوهُ بِها مِنَ اتِّهاماتِ، فمُجرَّدُ كلامِه في المَهدِ هو معجزةٌ؛ لأنَّ الطفلَ لا قُدْرةَ لَه على أنْ يَتَزَحْزَحَ مِنْ مَكانِه، فالطفلُ يَمْلُكُ الحِسَّ ولكنْ لا قُدْرَةَ لَه على مُدافَعَةِ ما يَتَطَلَّبُهُ الحِسُّ، ثمَّ إنَّ الكلامَ ـ في العادةِ ـ لا يَكونُ إلَّا بعد فترة طويلة من الزمن حتى يتطور وعيه ويتلقى المفردات من أبويه والمحيطين به فيحاكيها بالتدريج ثم يفهم معانيها مع مرور الزمن حتى إذا اكتمل وعيُه وامتلك مخزونًا من المفردات الذي يستطيع معه التعبير عما يحس به وعما يريده بادر بذلك وهذا كما هو معلوم يتطلب عدد سنين أمّا أن يتفوّه بمثل ما تفوَّه به عيسى ليبرئَ أمّه مما اتهمت به فهو معجزة لا تقل شأنًا عن معجزة حملِ إمِّه بِهِ وولادتِه في لحظات دون أن يمسها رجلٌ.   والكلامُ الثاني أَيْضًا مُعجِزةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لأنَّ المُرادَ تَكَلُّمُهُ ـ عليه السلامُ ـ في الكُهولَةِ حينَ تَنْزِلُ مِنَ السَماءِ لأنَّه ـ عليه الصلاةُ والسَلامُ ـ حينَ رُفِعَ لم يَكُنْ كَهْلًا. فالكَهْلُ مَنْ وَخَطَهُ الشَيْبُ ورَأَيْتَ لَهُ بَجالةً أوْ مَنْ جاوَزَ أَرْبَعًا وثلاثينَ سَنَةً إلى إحدى وخمسين، وعيسى ـ عليه السلام ـ رُفِعَ وهو ابْنُ ثَلاثٍ وثَلاثينَ، وقيلَ ثلاث وثلاثين وثلاثة أشهُرٍ وثَلاثة أَيَّامٍ. وقيلَ: رُفِعَ وهو ابْنُ أَرْبَعٍ وثلاثين، وما صَحَّ أنَّه ـ عليه الصلاةُ والسَلامُ وَخَطَهُ الشَيْبُ.

وقدْ تَكلَّمَ ـ عليه السلامُ ـ طفلًا لِيُبَرِّئَ أُمَّهُ الصِدِّيقَةَ، ذلك أَنَّهم اتَّهَموها في أَعَزِّ شيءٍ لَديْها، ولِذلك لَمْ يَكُنْ لِيُجْدي أيُّ كلامٍ منها، وإنْقاذًا لَها أَبْلَغَها الحَقُّ عَنْ طَريقِ جِبْريلَ أوْ عيسى ـ عليهِما السَلامُ ـ أنْ تقولَ: {إِنِّي نَذَرْتُ للرَحْمنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليومَ إِنسِيًّا} مريم: 26.  وإذا كان قد تكلَّمَ في المَهْدِ إعْجازًا لِيُبَرِّئَ أُمَّهُ البَتولَ، فإنَّه سوفَ يَتَكَلَّمُ كَهْلًا مُبَلِّغًا عنِ اللهِ. ولمْ يَتَكَلَّمْ عيسى ابْنُ مَرْيَمَ وهو في المَهْدِ إلَّا بِما قالَهُ الحَقُّ في القرآن الكريم وهو: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بالصلاةِ والزَكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * والسلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} سورة مريم: 30 ـ 33.

وقولُه: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ} قيل: "الكتاب" الخَطّ، وفَسَّرَ بعضُ العُلماءِ "الكتاب" بما سَبَقه مِنْ كُتُبِ النَّبيين كزَبورِ دَاوودَ وما جاءَ عنْ أَخْبارِ سُليْمانَ وإبْراهيمَ ـ عليْه السلامُ ـ وإسْحاقَ ويَعقوبَ والأَسْباطِ. ويَصِحُّ أنْ يُرادَ الأَمرانِ، فالله ـ سبْحانَه وتَعالى ـ قد أَلْهَمَهُ تَعَلُّمَ الكِتابَةِ وقَرأَ بِها كُتُبَ النَّبيّين وأَخبارَ مَنْ سَبَقوه. و"الحِكْمَة" الكلامُ المُحْكَمُ، الصَوابُ، وهي في العُرْفِ الأَدَبِيِّ العامِّ العُلومُ النّافِعَةُ، والكلامُ المُحْكَمُ الدَّقيقُ العَميقُ الذي يَكْشِفُ للنَّاسِ عَنْ أَسرارِ هذا الوُجودِ، ونُفوسِ النَّاسِ، ويُوجِّهُها إلى الخَيْرِ، ويَدْخُلُ في الحِكْمَةِ كلُّ التَعْليماتِ المُرْشِدَةِ الهاديَةِ إلى مَكارِمِ الأَخْلاقِ، وقدْ كانَ سيِّدُنا عيسى ـ عليه السلامُ ـ نَبِيًّا حَكيمًا مُرْشِدًا أَمينًا. وخَصَّ "التوراة والإنجيل" بالذِكْرِ إظهارًا لِشَرَفِهِما. معَ أنَّ "التوراتِ" داخلةٌ في ضِمْنِ الكِتابِ الذي عُلِّمَهُ، فتَخصيصُها بالذِكْرِ مُقْتَرِنَةً بالإنجيلِ، للإشارةِ إلى أَنَّهما مُتلازِمان وأَنَّ الإنْجيلَ الذي جاءَ بِهِ عيسى ـ عليه السلامُ ـ مُتَمِّمٌ للتَوراةِ التي جاءَ بها موسى ـ عليه السلامُ ـ وأنَّه مُنَفِّذٌ لأَحْكامِها إلَّا ما جاءَ بِهِ الإنجيلُ ناسِخًا لها.

قولُهُ: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} كلُّ مُعجِزاتِ عيسى ـ عليه السلامُ ـ كانتْ مِنْ جِنْسِ طَبيعتِهِ التي فَطَرَهُ اللهُ عليها، فوِلادَتُه خارقةٌ للعادةِ؛ إذْ خَلَقَهُ اللهُ ـ سبحانَه وتعالى ـ مِنْ غيرِ أَبٍ لِبَيانِ أَنَّ اللهَ تَعالى لَا تَحْكُمُهُ الأَسبابُ، فهو خالقُ الأسبابِ والمُسَبِّباتِ، ومعجزاتُ عيسى كلُّها بيانٌ لأنَّ اللهَ تعالى فوقَ قاعدةِ السَبَبيَّةِ التي كانت مُسَيْطِرَةً في ذلك العصرِ المادِيِّ الذي كان لا يُذْعِنُ إلَّا للأسبابِ والمُسبِّباتِ الماديَّةِ. وجاءتْ هذه المعجزةُ باهرةً قاطعةً في أنَّ الخالقَ لهذا الكون لَا تحكمه الأسبابُ، كما أَذِنَ لعيسى ـ عليه السلامُ ـ أنْ يُصَوِّرَ مِنَ الطِينِ كهيئةِ الطيرِ، فمعنى "خلق" هنا هو التصويرُ مِنَ الطينِ جَسَدًا، وجعلُه على شكلِ طائرٍ، ثمَّ نَفْخُ الروح فيه فيكونُ طيْرًا بإذنِ الله تعالى. وذُكِرتْ كلمةُ "بإذني" عند تَصويرِ شكلِ الطَيْرِ، وعند صيرورتِه طيْرًا؛ للإشارة إلى أنَّ كلَّ ذلك مِنْ عندِ اللهِ، وأنَّهُ  ـ سبحانه ـ هو الخالقُ حقيقةً وليس عيسى، وأنَّه ـ سبحانه وتعالى ـ هو مَنْ أَجرى الخلقَ على يَدَيْهِ.

قولُه: {وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} الأَكْمَهُ هو المَولودُ أَعْمى، ويُقالُ لِمَنْ طُمِسَتْ عينُه بِفَقْءٍ أوْ نَحْوِه: كُمِهَتْ عيناهُ، والبَرَصُ داءٌ مَعروفٌ يُشَوِّهُ الجِلْدَ ولا يوجدُ لَهُ دَواءٌ يَشفيهِ حتّى الآن. وقدْ كان سيِّدُنا عيسى ـ عليه السلامُ ـ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ بإذْنِ اللهِ ـ تعالى شأنُه ـ فيَجْعَلُهُ مُبْصِرًا، وقد يقولُ قائلٌ: في عصرنا هذا يَتِمُّ ترقيعُ القَرنيَّةِ فيَرَى ويُبْصِرُ بعضٌ من الذين وُلِدوا بِلا قدرةٍ على الإبصارِ. ونقول: إنَّ ما يَحدُثُ في عصرِنا هو سَبْقٌ وتَقَدُّمٌ بناءً على تجارب، أمَّا حدثَ مع عيسى فكانَ خَرْقًا للنَّاموسِ بلا عمليَّةٍ جراحيَّةٍ ولا أَدواتٍ ولا أجهزة طُبيَّةٍ بل أَرادَهُ اللهُ مُعْجِزةً لعيسى ـ عليه السلام. وذلك يُشْبِهُ إيجادَ الحياةِ في غيرِ الحَيِّ؛ لأنَّ إيجادَ البَصَرِ في غيرِ المُبْصِرِ، والمَوْلودُ غيرُ مُبْصِرٍ، وغيرُ قابلٍ للإبْصارِ بِحُكْمِ الأَسبابِ الطَبيعيَّةِ يُعَدُّ إنْشاءً وإيجادًا، ويُقارِبُهُ عِلاجُ البَرَصِ، لأنَّه يُشبِه الذي يَكونُ جِبِلَّةً، وإذا كان الإنسانُ لَا يَعرفُ سَبَبًا للشِفائه فاللهُ تعالى خالقُ الأسبابِ أَجْرى الشِفاءَ على يَدَيْ عيسى ـ عليه السلامُ ـ لأنّه ـ سُبحانَه ـ الفعَّالُ لِما يُريدُ، وكان معجزةً لسيدِنا عيسى ـ عليه السلامُ. وهناكَ معجزةٌ رَابِعَةٌ، وهي إحياءُ الموتى، وقدْ ذُكِرَتْ هذه المُعْجِزَةُ في سورة آلِ عُمرانَ على لِسانِ عيسى ـ عليه السلامُ ـ بما حَكَاهُ اللهُ تعالى عنْه بقولِه: {وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ}. وقالَ هنا: "وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي" والنَصَّانِ متَلاقيان في المعنى والمُؤدَّى، فالأوَّلُ يُفيدُ أنَّ اللهَ ـ سبحانَه ـ كان يعيد الحياةَ على يديه ـ عليه السلام ـ لمن مات ولم يَكُنْ قد دُفِنَ، والثاني يَدُلُّ على أنَّه ـ سبحانه ـ قد أَجْرى اللهُ تَعالى على يديْه إحياءَ المَوتى بعدَ الدفْنِ، فقد كان يخرجُها مِنْ قُبورها، أيْ أنَّها تَحْيا في قَبْرِها، ثمَّ تَخْرُجُ. وإحياءُ الموتى بعدَ الدَفْنِ أوْ قبلَه غيرُ تصويرِ الطِينِ طَيْرًا ثمَّ نَّفخُ الروحِ فيه، لأنَّ هذا إيجادٌ للحياةِ في جَمادٍ، والثاني إعادةٌ للحياةِ، وقد ذُكِرَتْ كلمةُ "بإذني" في كلِّ هذا، لِبيانِ أنَّ العَمَلَ لَيْس لِعِيسى، وإنْ جَرى على يديْهِ، وإنَّما هو لله ـ سبحانَه وتعالى ـ خالقِ كلِّ شيءٍ.

وقد كان موجبَ هذه البَيِّناتِ الباهِرَةِ القاهِرَةِ أنْ يُؤمِنوا، ولكنَّ بني إسرائيلَ فيهم عِنادٌ وطُغيان فكفرَ به كثير منهم، وهمّوا بأإذائه ـ عليه السلام.

وقولُه: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ} كَفَفْتُ: مَعْنَاهُ دَفَعَتُ وَصَرَّفَتُ "بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ" حِينَ هَمُّوا بِقَتْلِكَ. "إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ" أَيِ الدَّلَالَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ لأنَّ الحُجَّةَ لا تزيدُ المُتَعَنِّتَ إلَّا طُغْيانًا وكُفْرًا، فتتحرَّك في نفسِه عواملُ الحَسَدِ ودوافعُ الحقدِ، فيَطْمِسُ اللهَ على بَصيرتِه. لقد جاءهم عيسى ـ عليه السلامُ ـ ب الحجج البَيِّناتِ لِمَنْ كان لَهُ قلبٌ ولُبٌّ، فكذبوه وأظهروا له العداوةَ، حتَّى لا ينازعهم عل الحجج ى الرئاسةِ الدينيَّةِ، ولا يُقاوَمُ صاحبُ الحَقِّ الحِجَّةِ والبُرهانِ الساطِعِ إلَّا بالباطلِ، فحاربوه بِتَأليبِ الناسِ ودعوةِ أَتْباعِهِم إلى الإعراضِ عنه، وحاربوه بالتحريضِ عليه، والائتمار بِهِ لقتلَه، ولكن دعوتَه كانتْ تَنْفُذُ إلى القلوبِ مِنْ غيرِ حِجابٍ، وذلك لأنَّ اللهَ كفَّ عنْه أذاهم، ولمَّا يَئِسوا مِنْه دَسُّوا عليه عندَ ذَوي السُلطانِ، فكانتْ نعمةٌ مِنَ الله تعالى عليه أعظمَ وأوضحَ، فقد نَجَّاهُ اللهُ تعالى مِنْ أَيديهم، كما قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولَكِن شُبّة لَهُمْ}النساء: 157. وقال: {ومَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللهَ إِلَيْهِ} آل عمران: 157 و 158.فكفَّ اللهُ تعالى الأذى عن سَيِّدنا عيسى ـ عليه الصلاةُ والسلامُ.

قولُه: {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْر مُّبِينٌ}. لقد كفروا معَ ظُهورِ كلِّ هذه الآياتِ الباهِرَةِ التي فيها البُرهانُ القاطِعُ الذي لَا يَقبَلُ جَدَلًا، ثمَّ حاولوا أنْ يُوجدوا ما يُبَرِّرُ كفرَهم، فقالوا إنَّ كلَّ ما فعلَه عيسى مِنْ تَصويرِ الطيرِ ونَفْخِ الحياة فيه، وإبراءِ الأكمهَ والأبرصَ وإحياءِ المَوتى ما هو إلَّا سِحْرٌ واضحٌ بَيِّنٌ، معَ أنها أُمورٌ واقعةٌ مَحْسوسَةٌ، ولَيْسَتْ تمويهًا باطلًا خادِعًا، ولا تَخْييلًا غيرَ وَاقِعٍ.

قولُه تعالى: {إِذْ قَالَ الله}: بَدَلٌ مِنْ {يومَ يَجْمَعُ} الآيةَ السابقةِ. أو هو منصوبٌ بـ "اذْكُرْ" مقدَّرًا، ويَجوزُ أنْ يَكونَ التقديرُ: إذْ يَقولُ، فلا بُدَّ مِنْ تأويلِ الماضي بالمُستقبلِ، و"قال" هنا بمعنى "يقول" لأنَّ ظاهرَ هذا القولِ إنَّما هو في يومِ القيامةِ تقدَّمَ قولَه: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} أوْ هو في محلِّ رفعٍ خبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أيْ: ذلك إذ قال، ذَكَرَهُ الواحِدِيُّ، وهذا ضعيفٌ، لأنَّ "إذ" لا يُتَصَرَّف فيها، وكذلك القولُ بأنَّها مفعولٌ بها بإضمارِ "اذْكُرْ"، اللهم إلَّا أَنْ يريدَ الواحديُّ بكونِه خبرًا أنَّه ظَرفٌ قائمٌ مقامَ خبرٍ نحو: "زيدٌ عندك" فيجوزُ.

قولُه: {يا عيسى ابْنَ مَرْيَمَ} تقدَّم الكلامُ في اشْتِقاقِ هذه المُفرداتِ ومعانيها و "ابْن" صفةٌ لـ "عيسى" نُصِبَ لأنَّه مُضافٌ، وهذه قاعدةٌ كُلِّيَّةٌ مُفيدةٌ، وذلك أَنَّ المُنادى المُفْرَدَ المَعرفةَ الظاهرَ الضَمَّةِ إذا وُصِفَ بِـ "ابْنٍ" أو "ابِنَةٍ" ووقعَ الابْنُ أوِ الابْنَةُ بيْن عَلَميْنِ أوِ اسْمَيْنِ مُتَّفِقيْنِ في اللَّفظَ ولم يُفْصَلْ بيْنَ الابْنِ وبيْنَ مَوْصوفِهِ بِشَيْءٍ تَثْبُتُ لَه أحْكامٌ مِنْها: أنَّه يَجوزُ إتْباعُ المُنادى المَضْمومِ لِحركةِ نونِ "ابْنِ" فيُفْتَحُ نحوَ: "يا زيدَ بْنَ عَمْرٍو، ويا هِنْدَ ابْنَةَ بَكْرٍ" بِفَتْحِ الدالِ مِنْ "زَيدٍ" و"هندٍ" وضَمِّها، فلو كانتِ الضمَّةُ مُقدَّرةً نحو ما نَحْنُ فيه، فإنَّ الضَمَّةَ مُقدَّرةٌ على أَلِفِ "عيسى" فهل يُقَدَّرُ بِناؤهُ على الفَتْحِ إتْباعًا كما في الضَمَّةِ الظاهرةِ؟ خِلافٌ؛ الجُمهورُ على عَدَمِ جوازِه، إذْ لا فائدةَ في ذلك، فإنَّه إنَّما كان للإِتْباعِ وهذا المَعْنى مَفقودٌ في الضَمَّةِ المُقَدَّرةِ. وأَجازَ الفَرَّاءُ ومِنْ بعدِه أبو البقاءِ ذلك إِجْراءً للمُقدَّرِ مُجْرى الظاهرِ، فإنَّه قال: يجوزُ أنْ يَكونَ على الألِفِ مِنْ "عيسى" فَتْحَةٌ، لأنَّه قدْ وُصِفَ بِـ "ابْنِ" وهو بيْن عَلَميْن، وأَنْ يَكونَ علهيْا ضَمَّةٌ، وهو مِثْلُ قولِكَ: "يا زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو" بِفَتْحِ الدالِ وضَمِّها.

وهذا الذي قالاه غيرُ بعيدٍ، ويَشْهَدُ له مَسْأَلَةٌ عِنْدَ الجَميعِ: وهو ما إذا كان المُنادى مَبْنِيًّا على الكَسْرِ مَثلًا نحو: "يا هؤلاءِ" فإنَّهم أَجَازوا في صِفَتِهِ الوَجْهيْنِ: الرَّفعَ والنَّصبَ فيقولون: "يا هؤلاءِ العقلاءَ والعقلاءُ" بنصبِ العقلاءِ ورفعِها، قالوا: والرفعُ مُراعاةً لِتِلْكَ الضَمَّةِ المُقَدَّرةِ على "هؤلاءِ" فإنَّه مُفْرَدٌ مَعرِفةٌ، والنَصْبُ على مَحَلِّهِ، فقدْ اعْتَبَروا الضَمَّةَ المُقدَّرَةَ في الإِتْباعِ، وإنْ كان ذلك فائتًا، في اللَّفْظِ. وقدْ يُفَرَّقُ بأنَّ "هؤلاءِ" نحنُ مُضْطَرّون فيه إلى تقديرِ تلكَ الحَرَكةِ لأنَّهُ مُفْرَدٌ مَعْرِفةٌ، فكأنَّها مَلْفوظٌ بِها بِخِلافِ تقديرِ الفَتْحَةِ هُنا.

وقالَ الواحِدِيُّ في "يا عيسى": ويَجوزُ أنْ يَكونَ في مَحَلِّ النَّصْبِ لأنَّه في نِيَّةِ الإِضافَةِ، ثمَّ جَعَلَ الابْنَ تَوكيدًا لَه، وكُلُّ ما كان مِثْلَ هذا جازَ فيه الوَجْهان نحو: "يا زيدَ بْنَ عَمْرٍو" وأَنْشَدَ لرؤبةَ ابنِ العجاج:

يا حَكَمُ بنُ المنذرِ بن الجارودُ ........ أنتَ الجوادُ بنُ الجوادِ بنُ الجودْ

سُرادِقُ المجدِ عليك ممدودْ ...

بِنَصْبِ الأوَّلِ ورَفعِه على ما بَيَّنَّا. وقال التبريزي: الأظهرُ عندي أنَّ مَوْضِعَ "عيسى" النَصْبُ؛ لأنَّك  تَجعَلُ الاسْمَ مَعَ نَعْتِهِ إذا أَضَفْتَهُ إلى العَلَمِ كالشيءِ الواحدِ المُضافِ، وهذا الذي قالاه لا يُشْبِهُ كلامَ النُّحاةِ أصْلًا، بل يَقولون: الفتحةُ للإِتْباعِ ولم يُعْتَدَّ بالساكِنِ لأنَّه حاجزٌ غيرُ حَصينٍ، كذا قال الشيخ التوحيدي. وقالَ الزَمخْشَرِيُّ: ـ وكونه ليس من النحاة مكابرةٌ في الضروريَّات ـ عندَ قولِه: {إِذْ قَالَ الحَواريُّونَ ياعيسى ابْنَ مَرْيَمَ} المائدة: 112: "عيسى" في محلِّ النَصْبِ على إتْباعِ حَرَكَتِهِ حَرَكَةَ الابْنِ كقولِك: "يا زيدَ بنَ عَمْرٍو" وهي اللُّغةُ الفاشِيَةُ، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ مضمومًا كقولِك "يا زيدُ بنَ عمرٍو" والدليلُ عليْه قولُ امرئ القيس:

أحارِ بْنَ عَمْرٍو كأَنِّي خَمِرْ .................... ويَبْدو على المَرْءِ ما يَأْتَمِرْ

لأنَّ التَرخيمَ لا يكونُ إلَّا في المَضْمومِ. فاحتاجَ إلى الاعْتِذارِ عن تقديرِ الضَمَّةِ، واسْتَشْهَدَ لها بالبيتِ لِمُخالَفَتِها اللُّغةَ الشَيهرةَ.

نَسَبَ الأصْمَعِيُّ وغيرُه هذا البيتَ إلى ربيعةَ بْنِ جُشَمٍ النَمِريِّ، ونَسَبَهُ بعضُهم للنَمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ وضبط بعضُهم (أحارَ) بفتح الراءِ، من الحيرة، وضبطها آخرون بالكسر أو الضمِّ على أنه اسمٌ منادى.

وقولي: "المفرد" تَحَرُّزٌ مِنَ المُطَوَّلِ. وقُولي "المعرفة" تحَرُّزٌ مِنَ النَكِرَةِ نَحو: "يا رَجُلًا ابْنَ رَجُلٍ" إذا لَمْ تَقْصِدْ بِهِ واحدًا بِعَيْنِهِ. وقَوْلي: "الظاهرَ الضَمّةِ" تَحَرُّزٌ مِنْ نَحْوِ: "يا موسى بْنَ فلانٍ" وكالآيَةِ الكَريمَةِ. وقولي: بِـ "ابْنِ" تَحَرُّزٌ مِنَ الوَصْفِ بِغيرِه نَحْوَ: "يا زيدُ صاحبَنا" وقولي: "بيْن عَلَميْن أوْ مُتَّفِقيْنِ لَفْظًا "تحرُّزٌ مِنْ نَحوِ: "يا زيدُ بْنَ أَخينا" وقولي: "غيرَ مفصولٍ" تحرُّزٌ مِنْ نَحو: "يا زيدُ العاقِلَ ابْنَ عَمْرٍو" فإنَّه لا يَجوزُ في جميعِ ذلك إلَّا الضَمُّ. وقولي: "أَحكامٌ" قد تَقَدَّمَتْ منْها ما ذكرتُه مِنْ جَوازِ فتحِه إتْباعًا، ومِنْها: حَذْفُ أَلِفِه خطًّا، ومنْها: حَذْفُ تَنْويِنِه في غيرِ النداءِ؛ لأنَّ المُنادَى لا تَنْوينَ فيه. وقَولي: "وصفٌ" تَحَرُّزٌ مِنْ أنْ يَكونَ الابْنُ خبرًا لا صِفَةً نحوَ: "زيدٌ ابْنُ عَمْرٍو" وهل يَجوزُ إتْباعُ "ابْنِ" فيُضمَّ نحو: "يا زيدُ بْن ُ عَمْرٍو" بِضَمِّ "ابْنِ"؟ فيه خِلافٌ.

وقولُه: {ابْنَ مَرْيَمَ} هو صفةٌ كما تقدَّمَ، أو هو بَدَلٌ. أو هو بيانٌ، وعلى الوجهيْنِ الأَخيريْن لا يَجوزُ إجْماعًا تَقديرُ الفتحةِ إتْباعًا، لأنَّ الابْنَ لم يَقَعْ صفةً، وقد تقدَّمَ أنَّ ذلك شَرْطٌ.

قولُه: {إِذْ أَيَّدتُّكَ} إذ: إمَّا مَنصوبٌ بـ "نِعمَتي" كأنَّه قيلَ: اذكرُ إذْ أَنْعَمْتُ عليكَ وعلى أُمِّكَ في وقتِ تَأييدي لك. وإمَّا بَدَلٌ مِنْ "نِعْمَتي" بدَلَ اشْتِمالٍ، وكأنَّه في المَعنى تفسيرٌ للنِعْمَةِ. أوْ حالٌ مِنْ "نِعمَتي" وإمَّا أنْ يَكونَ مفعولًا بِهِ على السَّعَةِ. وهذا هو الوجهُ الثاني أيْ البَدَلِيَّةِ.

وقَرَأَ الجُمهورُ "أَيَّدْتُكَ" بِتَشديدِ الياءِ، وقرأ غيرُهم "آيَدْتُك" وقدْ تَقَدَّمَ الكلامُ على ذلك وعلى مَنْ قَرَأَ بِها وما قالَه الزَمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ والشيخُ أبو حَيَّانَ في سُورَةِ البَقَرَةِ.

قولُه: {تُكَلِّمُ الناسَ فِي المهدِ} إلى آخرِها: تَقَدَّمَ أيْضًا في آلِ

عُمْرانَ، وما فائدةُ قولِهِ: {فِي المَهْدِ وَكَهْلًا} إلَّا أَنَّ هُنا بَعضَ زياداتٍ لا بُدَّ

مِنَ التَعَرُّضِ لَها.

قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "فَتَنْفخُها" بِحَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ اتِّساعًا. وقرأ الجُمهورُ: "فتكونُ" بالتاءِ مَنْقوطَةً فوقُ، وقرأها أَبُو جَعْفَرَ (فيكون) مَنْقوطَةً تَحْتُ، أي: فيَكونُ المَنفوخُ فيهِ، والضَميرُ في "فيها" قال ابْنُ عَطِيَّةَ: اضْطَرَبَتْ فيهِ أَقوالُ المُفسِّرين. قالَ مَكِيٌّ: هو في آلِ عُمرانَ عائدةٌ على الطائرِ، وفي المائدةِ عائدٌ على الهيئةِ. قال: "وَيَصِحُّ عَكْسُ هذا". وقالَ غيرُ مَكِيٍّ: الضميرُ المَذكورُ عائدٌ على الطِينِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: "ولا يَصِحُّ عودُ هذا الضَميرِ على الطَيْرِ ولا على الطِينِ ولا على الهَيْئَةِ، لأنَّ الطَيْرَ أوْ الطائرَ الذي يَجِيءُ الطِينُ على هَيئتِهِ لا يُنْفَخُ فيهِ البَتَّةَ، وكذلك لا نَفْخَ في هَيْئَتِهِ الخاصَّةِ بِهِ، وكذلك الطينُ إنَّما هو الطِينُ العامُّ ولا نَفْخَ في ذلك. وقالَ الزَمَخْشَرِيُّ: ولا يَرْجِعُ الضميرُ إلى الهيئةِ المضافِ إليْها لأنَّها لَيْستْ مِنْ خَلْقِهِ ولا مِنْ نَفْخِهِ في شيءٍ، وكذلك الضَميرُ في "فتكون". ثمَّ قالَ ابْنُ عطيَّة: "والوَجْهُ عَوْدُ ضَميرِ المُؤنَّثِ على ما تَقْتَضيهِ الآيَةُ ضَرورةً أي: صُوَرًا أوْ أَشْكالًا أوْ أجْسامًا، وعَوْدُ الضَميرِ المذكَّرِ على المَخلوقِ المَدْلولِ عليْه بـ "تَخْلُقُ" ثمَّ قال: ولك أنْ تُعيدَهُ على ما تَدُلُّ عليْهِ الكافُ مِنْ مَعْنى المِثْلِ لأنَّ المَعنى: وإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِينِ مِثْلَ هيئتِهِ، ولك أنْ تُعيدَهُ على الكافِ نَفْسِها فَتَكونَ اسْمًا في غيرِ الشِعْرِ.

وهذا القولُ هو عيْنُ ما قبلِه، فإنَّ الكافَ أيْضًا بمَعنى مِثْل، وكونُها اسْمًا في غيرِ الشِعْرِ لَم يَقُلْ بِهِ غيرُ الأَخْفَشِ.

واسْتَشْكَلوا قولَ مَكِيٍّ المُتَقَدِّمَ كما تقَدَّمَتْ حِكايتُه عنِ ابْنِ عطيَّةَ، ويُمكنُ أَنْ يُجابَ عنْه بأنَّ قولَه "عائدٌ على الطائرِ" لا يُريدُ بِهِ الطائرَ الذي أُضيفتْ إليْه الهيئةُ بَلْ الطائرُ المُصَوَّرُ، والتقديرُ: وإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِينِ طائرًا صورةَ الطائرِ الحَقيقيِّ فتَنْفُخُ فيهِ فَيَكونُ طائرًا حقيقيًّا، وأنَّ قولَه: "عائدٌ على الهيئة" لا يُريدُ الهيئةَ المَجرورةَ بالكافِ، بَلْ المَوْصُوفَةَ بالكافِ، والتَقديرُ: وإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِينِ هَيْئَةً مِثْلَ هَيْئَةِ الطائرِ فتَنْفُخُ فيها أيْ: في المَوصوفَةِ بالكَافِ التي نُسِبَ خَلْقُها إلى "عيسى". وأَمَّا كَوْنُه كيفَ يَعودُ ضَميرٌ مُذَكَّرٌ على هيئةٍ وضميرٌ مؤنَّثٌ على الطائرِ لأنَّ قولَهُ: "ويجوزُ عكسُ هذا" يُؤدّي إلى ذلك. فجوابُه أنَّه جازَ بالتأويل، لأنَّه تُؤَوَّلُ الهيئةُ بالشَكلِ ويُؤَوَّلُ الطائرُ بالهيئةِ فاسْتَقامَ، وهو مَوْضِعُ تَأَوُّلٍ وتَأَنٍ.

وقال هنا "بإذني" أربعَ مَرَّاتٍ عَقِبَ أَرْبَعِ جُمَلٍ، وفي آل عمران {بإذنِ الله} مرتين؛ لأنَّ هناك موضعَ إخبارٍ فناسَبَ الإِيجازَ، وهنا مقامُ تذكيرٍ بالنِّعمَةِ والامْتِنانِ فناسَبَ الإِسْهابَ؛ وقولُه: "بإذني" حالٌ: إمَّا مِنْ الفاعلِ أوْ مِنَ المَفعولِ.

قولُه: {إِلاَّ سِحْرٌ} قَرَأَ الأخَوان هُنا وفي "هُود" وفي "الصَفّ" {إلّا ساحر} اسْم فاعلٍ، والباقون: "إلَّا سِحْرٌ"، مَصْدَرًا في الجَميعِ، والرَّسْمُ يَحْتَمِلُ القراءتين، فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فتَحْتَمِلُ أنْ تَكونَ الإِشارةُ إلى ما جاءَ بِهِ مِنَ البَيِّناتِ أيْ: ما هذا الذي جاءَ بِهِ مِنَ الآياتِ الخَوارقِ إلّا سِحْرٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكونَ الإِشارةُ إلى "عيسى"، وجَعَلُوه نفسَ السِحْرِ مبالغةً نحو: "رجلٌ عدلٌ"، أو على حَذْفِ مضافٍ أيْ: إلَّا ذو سِحْرٍ. وخَصَّ مَكِيٌّ هذا الوَجْهَ بِكَوْنِ المُرادِ بالمُشارِ إليْه مُحمدًا ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ فقال: ويجوزُ أنْ تكونَ إشارةً إلى النبيِّ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ على تقديرِ حَذْفِ مُضافٍ أيْ: إنْ هذا إلّا ذو سِحْرٍ. وهذا جائزٌ، والمرادُ بالمُشارِ إليْه "عيسى" ـ عليه السلام ـ وكيف يكونُ المُرادُ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ وهو لم يكن في زَمَنِ عِيسى والحَواريين حتّى يُشيروا إليْه إلَّا بتأويلٍ بعيدٍ. وأَمَّا قراءةُ الأخويْن فتَحْتَمِلُ أنْ يكونَ "ساحر" اسمَ فاعلٍ والمُشارُ إليْه "عيسى"، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكونَ المُرادُ بِهِ المَصدرَ كقولِهم: عائذًا بك وعائذًا بالله مِنْ شَرِّها، والمشارُ إليه ما جاءَ بِهِ عيسى منَ البيِّنات والإِنجيل، ذَكَر ذلك مَكِيٌّ، وتَبِعَه أَبو البَقاءِ، إلَّا أنَّ الواحديَّ مَنَعَ مِنْ ذلك فقال ـ بعد أَنْ حَكى القراءتين: وكلاهُما حَسَنٌ لِاسْتواءِ كُلِّ واحدٍ منهُما في أنَّ ذِكْرَه قد تقدَّم، غير أَنَّ الاختِيارَ "سِحْرٌ" لِجَوازِ وُقوعِه على الحَدِثِ والشَّخْصِ، وأَمَّا وقوُعُه على الحَدَثِ فَسَهْلٌ كَثيرٌ، ووُقُوعُه على الشخصِ يُريدُ "ذو سِحْرٍ" كقوله: {ولكنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ} البقرة: 177. وقالوا: "إنَّما أَنْتَ سَيْرٌ" و"ما أنْتَ إلَّا سَيْرٌ" وقالت الخنساء ـ رضيَ اللهُ عنها:

تَرْتَعُ ما غَفلَتْ حتّى إذا ادَّكَرَتْ .................. فإنَّما هي إقبالٌ وإدبارُ

وهذا يرجِّحُ ما قَدَّمْتُه مِنْ أنَّه أُطْلِقَ المَصْدرُ على الشخصِ مُبالَغَةً نحو: "رجلٌ عَدْلٌ" ثمَّ قال: ولا يَجوزُ أَنْ يُرادَ بِـ "ساحِرٍ" السِحْرُ، وقد جاءَ فاعِلٌ يُرادُ بِهِ المَصْدَرُ في حُروفٍ لَيْسَتْ بالكَثيرِ نحو: عائذًا باللهِ مِنْ شَرِّهِ. أي: عياذًا، ونحو "العافِية" ولم تَصِرْ هذه الحروفُ من الكثرة بحيث يسوغُ القياس عليها.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 110
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 21
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 37
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 51
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 67
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 83

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
روضة الشاعر عبد القادر الأسود :: ...:: الروضة الروحانية ::... :: روضة الذكر الحكيم-
انتقل الى: